أشرف.. وظاهرة المواطن الشريف

من ينحاز لمصلحة الوطن دون قداسة الأفراد يجد نفسه أمام نيران مزدوجة، من أنصار السيسي وأنصار الإخوان على السواء.

منذ بدء الخليقة وحتى هذه اللحظات والصراع بين الخير والشر لا يتوقف، وعلى حد علمي وعلم الجميع، فلم يتمكن أحدهما من الانتصار على الآخر بما يُمكن أن يُطلق عليه الانتصار الحاسم والنهائي، صحيح أنهما يتبادلان المواقع في مختلف الأزمنة ويتنقلان ما بين العام والخاص في بيئات متنوعة، إلا أنه لا يستطيع أحد من معسكر الخير الجزم بإغلاق ملف الشر للأبد، ولا يجرؤ أحد من أنصار الشر على الادعاء بإزاحة الخير عن طريقه، ومن حُسن الحظ أن نتيجة هذا الصراع الأزلي دائماً تكون لصالح الخير، لكنها بالنسبة لنا في ظروف مختلفة وبآليات غائبة.

وبحثاً عن الظروف الموائمة، والآليات الملائمة لانتصار الخير على الشر، نقف عند استفسارات جوهرية، وهي: هل التكوين البشري الفردي يحتمل وجود الشر والخير معاً؟ وهل هما متساويان في القدر والقدرة؟ وهل يُمكن لأحدهما إزاحة الآخر لو أراد الفرد ذلك؟ وما هي العوامل التي تزيد هذا أو تُنقص ذاك؟ وهل الخير والشر مجرد فكرة أخلاقية ضرورية، أم فريضة دينية ممثلة في الحرام والحلال، أم أنها ركيزة إنسانية نابعة من حب الذات والميل الفطري لحيازة عناصر القوة التي تعظم من قدرها ومركزها متخذة لنفسها مساراً مبني على الخطأ أو الصواب.

لست أول من تطرق لهذا الموضوع، فالتاريخ مليء بالمفكرين والباحثين والمتخصصين الذين أشبعوه بحثاً وفحصاً وتمحيصاً، ولذلك فلن أكتشف ما سبق اكتشافه، ولكنني أستطيع كإنسان إلقاء الضوء على حالة غياب الأخلاق، والتباس القناعات الدينية، وتلاشى الفرق بين الخطأ والصواب، وتنامي رؤية ممسوخة تنأى بنفسها عن الدين، لا يقبلها العقل، ولا يؤيدها المنطق السليم، تضفي على سلطتها قداسة تحمي تصرفاتها من العقاب، وحين تجد نفسها في عداء مع المبادئ القويمة والمثل السامية، تتحصن بالقوة، وتلك إحدى المعارك بين الخير والشر.

والشر تقليديا يمثله من بيده السلاح، والخير يتمثل في الأعزل الذي يتعرض لتهديد هذا السلاح، والعلاقة بين الاثنين تشوبها دوما وساوس الشك والريبة، فيعمل كل منهما على الانتصار على الآخر، ومع التطور الطبيعي للحياة، اكتشف الناس وسائل للتقليل من قدرة الشر على إيذائهم، ومنعه من التفرد بمصيرهم، ومن هنا ظهرت نظرية الحكم الرشيد التي كان أساس ظهورها نزع القداسة عن السلطة ونقلها للأفراد والمجتمعات، بما يحفظ للجميع حقوقاً عادلة ويُرتب على الكل واجبات متكافئة، وهنا انتقلت المعركة بين الخير والشر من نطاقها العام إلى الخاص.

مع نظام الحكم الرشيد، لم يعد الحاكم هو الممثل الرسمي للشر العام، بعد أن تم تنظيم العلاقة بينه وبين الشعب الذي يمثل الخير العام، ما يعني أن المعركة بين الخير والشر ما زالت في أوجها في البيئات الأخرى التي تعتمد على الحكم غير الرشيد، ففي ظل هذا النظام تتخذ المعركة أشكالا متعددة، وكل فريق يرى في الآخر شر مُطلق يجب القضاء عليه.

ونحن في مصر، لسنا بمعزل عن تلك المعارك التي أحالت حياتنا إلى جحيم، ونزعت من نفوسنا أي أمل في حياة طبيعية، فقد تم (بقصد أو بدون) تقسيم الشعب إلى فريقين لا مكان لثالث بينهما، بحيث من لم يكن مع أحدهما فهو ضده ويحق عليه العقاب.

وفي هذا الجو المقيت وجد من ينحاز لمصلحة الوطن دون قداسة الأفراد، وجد نفسه أمام نيران مزدوجة، من أنصار السيسي وأنصار الإخوان على السواء، فمن أنتقد تصرفات الحكومة الإدارية، أو طالب بتغييرات في أسلوب الحكم تكون جذرية، قام أنصار السيسي بتعليقه على أعواد المشانق، ومن قال أن الإخوان تآمروا على الثورة واتفقوا مع المجلس العسكري عليها، وحين استأثروا بالحكم أقصوا شركاءهم في الثورة، أهدر الإخوان دمه واعتبروه كافر مارق.

ومع احتكار الدولة لوسائل الإعلام، وعدم السماح للرأي الآخر بأن يرى النور، وإغلاق جميع الطرق المؤدية إلى حياة سياسية طبيعية، ومع حرص الفريق الثالث المؤيد لمصلحة الوطن بعيداً عن قدسية السلطة ومظلومية الإخوان، لا توجد وسيلة للتعبير إلا وسائل التواصل الاجتماعي، يبثون فيها مخاوفهم على الوطن، بنقل السلبيات التي تؤثر على ازدهاره، ويحذرون من إجراءات تجهد المواطن وتؤثر في حياته، ولا أظن أن في ذلك ما يسيء للدولة، بل على العكس فوسائل التواصل الاجتماعي مرآة تعكس حال الوطن، وهي تقارير مجانية صادقة لإنارة طريق أي رئيس يريد الخير لوطنه، وسط هذا السيل العارم من النفاق والكذب.

فماذا كانت النتيجة؟

أنصار تقديس الرئيس يخشون عليه من الهواء، ولا يسمحون بكلمة نقد واحدة تُكدر صفو سلطته، وفي ظاهرة قميئة حديثة انتشر من يعرفون بالمواطنين الشرفاء، الذين نذروا ألسنتهم المسممة والجارحة للانقضاض على كل من تسول له نفسه بالإشارة من قريب أو بعيد إلى أي تقصير في إدارة الدولة، ولا توجد لديهم إلا عبارة واحدة يطلقونها لإرهاب الفريق الثالث، وهي: أنتم خونة وعملاء تريدون إسقاط الدولة! والحقيقة لا أدري هل هي دولة من وهن أو صرح من خيال حتى تسقطها كلمة أجاز الدستور للمواطن قولها؟

للأسف لقد نهش المواطنون الشرفاء أعراضنا، وأهدروا كرامتنا حتى النخاع، ولم يتركوا أحد أفراد عائلاتنا وأصدقائنا إلا وأصابته لعنة ألسنتهم البذيئة، وكل هذا في حب السيسي الذي لم يقل لهم حتى الآن: ما يصحش كده ليته لا يتأخر في قولها قبل أن يتوحش المواطنين الشرفاء فيحرقون الأخضر واليابس وهم في مأمن من العقاب.

ولأشرف، ولكل المواطنين الشرفاء الذين يضربون بيد الرئيس، ويرتكبون جريمة السب العلني باسم حبه، لكم كل الحق في الحب كما تشاءون، ولكن ما ليس بحقٍ لكم أن تصيبونا أثناء ممارسة تلك الشعيرة البديعة، ببذاءة ألسنتكم الخليعة، حافظوا على مكانة المحبوب ولا تكونوا سبباً في أن يكرهه الناس من القلوب.

إننا في مصر لسنا بمعزل عن الشعوب الآخرين، فإن كان لزاما أن نتعارك فيما بيننا، فلنكن من المهذبين، فالخلافات واردة وطبيعية، شريطة ألا ننشر غسيلنا القذر على أنظار العالمين.