أهرامات مروى السودانية

بعد مرور 800 عام من بناء آخر هرم ملكي في مصر ظهر الشكل الهرمي للمقبرة الملكية الكوشية بشكل واضح فى مقبرة الملك بعنخي.
الهرم صورة متطورة لقمة التل الأزلي الذي قالت عنه الأسطورة إنه أول قطعة من الأرض برزت من المحيط اللانهائي قبل خلق الكون
منطقة النوبة وشمال السودان مرت خلال تاريخها القديم بما يطلق عليه العصور الحجرية

لقاهرة ـ من أحمد مروان

في كتابه "أهرامات السودان القديم"، يسعى الكاتب محمد إبراهيم بكر إلى مناقشة الجدل الذي ثار بين العلماء في شتى فروع المعرفة في الفلك والهندسة واللاهوت بالإضافة إلى التنجيم والسحر، حول فكرة اختيار المصري القديم الشكل الهندسي الهرمي ليكون مقرًا أبديًا لجثمان الملوك ابتداء من زمن الدولة القديمة. 
ولعل أقرب تلك الآراء التي تقول إن الهرم صورة متطورة لقمة التل الأزلي الذي قالت عنه الأسطورة إنه أول قطعة من الأرض برزت من المحيط اللانهائي قبل خلق الكون، وفوقها ظهر الإله الأكبر "آتوم" بمعنى الكامل، وهو صورة للشمس عند المغيب، وبعد أن خلق الإله نفسه بنفسه، بدأ في خلق الحياة، وكأنما القمة التي اتخذت شكل الهرم فيما بعد هي عرش الإله على الماء قبل أن يخلق الكون.
علاقات حضارية
يكشف الكتاب أن منطقة النوبة وشمال السودان مرت خلال تاريخها القديم بما يطلق عليه العصور الحجرية 12.000 – 3.000 ق. م، وأثبتت الآثار استمرار التواصل خلالها بين أهلها وبين المصريين في الشمال، ونحو عام 3.100 ق. م، وأثناء قيام الأسر الأولى في مصر بدأت تظهر معالم مرحلة أخرى من مراحل التطور الحضاري في النوبة في منطقة الجندلين الأول والثاني وفي شمال السودان على هيئة قيام مجموعات حضارية ذات صفات مميزة أطلق عليها المكتشفون اسم المجموعات الحضارية؛ حيث تؤكد الوثائق المصرية قيام دولة كوش المستقلة في شمال السودان.
يوضح المؤلف أنه في تلك المرحلة كانت سياسة ملوك الدولة المصرية الحديثة تهدف إلى السماح للأمراء المحليين أن يستمروا فى حكم أقاليمهم ومدنهم، وابتدع الملوك عادة استضافة أبناء الأمراء لينشأوا فى القصر الملكى مع أبناء الملوك، وليعدوا ليخلفوا آباءهم فى حكم أقاليمهم. 
وهناك عدة أمثلة لأمراء أصلهم من كوش، وبالتالي أصبحت الحضارة المصرية أسلوب حياة لأمراء كوش وأغنيائها فى ذلك الحين، وتمثل المناظر الملونة على جدران المقبرة جانبًا من حياة أهل كوش مثل: أعمال الزراعة، واحتفالاتهم الشعبية بالرقصات المميزة، هذا بالإضافة إلى أن بعض قطع الآثار التى عثر عليها داخل مقبرة الأمير تبين أن صاحبها احتفظ ببعض تقاليد حضارة كوش، كما عاشت فى طيبة بعض العائلات التى ربما ينتمى معظم أفرادها إلى أصحاب حضارة كوش، وامتد إشراف نائب الملك فى كوش على المنطقة الواقعة جنوب مصر كلها.

بعد مرور 800 عام من بناء آخر هرم ملكي في مصر ظهر الشكل الهرمي للمقبرة الملكية الكوشية بشكل واضح فى مقبرة الملك بعنخي (بيى)، مع استمرار محافظة ملوكها على التقاليد القديمة فيما يتعلق بتصميم المبانى المقامة تحت الهرم منذ البداية، إذ واصل الملوك اعتماد الشكل المتوارث الذى كان مألوفًا بالنسبة إلى أماكن الدفن فى الجزء السفلى للمقابر، فكان الجزء العلوى يتخذ هيئة الكوم المستدير التقليدى، وكان الوصول إلى غرفة الدفن التى تقع أسفل الهرم مبارشة يتم من خلال درج، يبدأ هابطًا داخل الفناء الخارجى للمقصورة الهرمية الملحقة بالهرم مباشرة.
أهرامات مروى
أما أهرامات مروى فقد عاصرت كارثة كبيرة عندما وفد إليها عام 1830 الرحالة الإيطالى فرليني، وهو طبيب عين أولاً فى مدينة سنار ثم في كردفان، وعندما عاد إلى الخرطوم طلب من حاكم الخرطوم التركي خورشيد باشا الإذن بالتنقيب عن الآثار، وتحول إلى باحث عن الكنوز، وكان هدفه هو الحصول على الكنز الكبير الذي روت الأخبار عنه أنه يستقر داخل أهرامات مروى. 

غلاف الكتاب
من أهم روائع حضارة وادي النيل

ويكشف الكتاب أن المنظر العام لطبيعة الموقع الذي أقيمت عليه أهرامات مروى يوحي بأنه اختير على هضبة مرتفعة ليعوض الفرق في حجمها مقارنة بحجم أهرامات مصر، واستعملت في بنائها كتل من الحجر النوبي الرملي، ولا تحتوي فى داخلها على غُرف للدفن، وإنما حفرت غُرف الدفن في باطن الصخر الطبيعي تحت الهرم.
كما أن كل المصادر التي تتحدث عن جبانة مروى، تشير إلى أن عملية بناء الأهرامات انتهت نحو عام 300، ويمكن القول إن بناء المقابر الملكية على الشكل الهرمي الذي نشأ في مصر انتهى ظهوره بنهاية القرن الثالث في السودان، وظلت عاصمة دولة كوش في الفترة ما بين عام 300 ق. م، 350 قائمة في مروى إلى أن أجهز عليها عيزانا ملك أكسوم الإثيوبية، وخلال تلك المرحلة الطويلة استطاع بعض المناهضين للحكومة المركزية في مروى مرتين وبدرجات متفاوتة من النجاح أن يدعوا الملك وقاموا بنقل العاصمة شمالاً إلى نبتة مرة أخرى وبنوا أهراماتهم في منطقة جبل البركل، إلا أن نجاحاتهم لم تدم طويلاً، وظلت السلطة في مروى مستقرة.
وجميع الأهرامات التي بنيت للملوك سواء في نبتة أو في مروى استعمل الحجر في بنائها، ما عدا تلك الأهرامات في مروى التي أقيمت بعد عام 200 عندما استعمل في بنائها الطوب اللبن المغطى بالملاط.
إن منطقة النوبة وشمال السودان التي ازدهرت فيها حضارة كوش على مدى ألف عام اختصت بما يزيد على 180 هرمًا، وأن بناء الأهرامات في كوش بدأ بعد نحو 80 عاما من بناء آخر الأهرامات الملكية في مصر، في رائعة لإحياء واحدة من أهم روائع حضارة وادي النيل في مصر والسودان.
صدر كتاب "أهرامات السودان القديم"، عن الهيئة المصرية العامة للكتاب 2018، وتبلغ عدد صفحاته  83 صفحة من القطع المتوسط .(خدمة وكالة الصحافة العربية)