الأحزاب والشخصيات السياسية في الجزائر بين تغيير الواقع والتموقع

المعارضون يضعون مصالحهم فوق كل اعتبار حتى لو كانت النتيجة مد النظام المريض بالأوكسجين ليستمر بالحياة.

أفرزت الساحة السياسية في الجزائر ثلاثة تيارات، بعد التجربة الأولى من التعددية التي عاشتها الجزائر، وكان ذلك نتيجة الانفتاح المؤقت الذي جاء بعد أحداث أكتوبر كتنفيس محتوم.

 التيارات التي أفرزتها المرحلة قبل عملية الاغراق التي تعرضت لها الجزائر، الى درجة أن كفر معظم الجزائريين بالعمل الحزبي، هي التيار الوطني الذي قادته جبهة التحرير الوطني ممثلة في زعيمها عبدالحميد مهري، والتيار العلماني الذي قادته جبهة القوى الاشتراكية ممثلة في زعيمها حسين آيت أحمد، والتيار الاسلامي الذي قادته الجبهة الاسلامية للإنقاذ ممثلة في زعيمها عبدالقادر حشاني (بعد ادخال علي بن حاج وعباسي مدني السجن).

لقد عاشت الجزائر مرحلة حاسمة من تاريخها ربما لن تتكرر، وعاش الشعب في غالبيته أحلاما عسلية بخصوص الحريات جلها تبخر، لاسيما بعد اللقاءات والتشاورات التي قام بها قادة الجبهات الثلاث والتي كان يمكنها أن تصل الى توافق وطني يبعد نار الحرب والمأساة وتمزيق الوحدة الوطنية على الشعب الجزائري ويقينا من السنين العجاف.

بعد الصدمة التي أصيب بها عموم الشعب، والنكسة التي حدثت، والارادة التي حرّفت عن مسارها، والدماء التي سالت، والأموال التي بدّدت والأملاك التي أتلفت، والفرص التي ضاعت من عمر الجزائر، وبعد أن عرف كل من قادة الأحزاب نفسه ماذا يساوي أمام الشعب، بدأت عملية التدجين والتشتيت والاغراق  أمراض خطيرة تطفو الى السطح وتنخر المجتمع، وهي الآن في اتساع إذا لم يوضع لها حدّ.

حيث فقدت الأغلبية الثقة، واتسعت الهوة بين الشعب وأصحاب القرار المتسترين كل مرة بقناع جديد، وكثر الجشع وحب الأنا، وحب الزعامة والمشيخة,

ولم تعد شرائح واسعة من الشعب الجزائري تعبأ بالشأن العام، وسيطرت المصالح الخاصة والآنية، والمحسوبية، والجهوية، والفساد، وكثر التزوير والاحتيال، وبدأ التفسخ والانحلال،وغاب الضمير، وبدأت الاسرة تتضرر وتنفك روابط لحتمها،نتيجة طول المأساة وتغييب أهل الاصلاح، وكثرت الموبقات والجرائم، وتعطل الاقتصاد وقطاعات حيوية كثيرة، كالنقل، الفلاحة، السياحة، وحلت الكارثة باختصار لولا لطف الله وبعض الخيرين من أبناء الشعب.

 أصبح قادة الاحزاب وبعض الشخصيات السياسية، يبحثون عن التموقع مع المرشح المختار من أصحاب القرار، بدل تغيير الواقع الموبوء في الجزائر، الى درجة أنه لم يعد النقاش حول البرامج ولا على المصالح العامة، ولا على استشراف المستقبل ولا على ما يجمع الجزائريين ويوحد صفوفهم ويبعد عنهم سبل الافتتان والاقتتال والتحاسد والتباغض، بل أصبح النقاش حول: من هو مرشح السلطة؟ ماذا تعطيني مقابل دوري؟ وعلى ماذا أحصل في الوقت القريب والمتوسط والبعيد؟

 أصبحت بعض الشخصيات بدل أن تتوجه الى الشعب الذي تذكر في كل مناسبة أنه هو مصدر السلطات، وتتباكى أمام وسائل الاعلام أنها تعمل لصالحه، تتوجه الى أصحاب القرار، وتطلب السلطة، وفي أحسن الأحول انتظار رنة الهاتف من الجنرال الفلاني أو رب المال العلاني.

غابت الأفكار والتصورات وحلت محلها الموائد والعملات والقبلات وحب الاستجمام بدل الصالح العام، وكلما أعلنت السلطة اقتراب موعد الانتخابات، تحركت هذه الأحزاب، لجمع الحطب، ومعها الشخصيات السياسية الا ما رحم ربي.

 كم من مبادرة أخترقت؟ وكم من أفكار سرقت؟ وكم من مشاريع حطمت؟ وكم من شخصيات شوهت واغتيلت؟ وكم من تاريخ حرف وزيف؟ وكم من أجيال شابة تم احتقارها وتهميشها؟ وكم من اطارات وارادات هجرت؟

 ردمت الأحلام الى درجة أننا بتنا نسمع من المجاهدين من يقول قولا كبيرا، وصرنا نرى من يموت في مستشفيات فرنسا بعد أن كان يدعي محاربتها، ويا ليته عالج في مستشفيات الجزائر بعد أكثر من نصف قرن من الاستقلال.

 بعد حراكنا الذي أثرناه في الانترنت ابتداء من منتدى بلا حدود وموقع اليوتيوب، وانتقادنا لمصالحة بوتفليقة الانتقائية سنة 2005 والتي صفق لها كل من يتظاهرون اليوم ويتفاخرون بأنهم كانوا على حق وقتها، وكان منهم من يعتبر أن من يخوض في موضوع المصالحة رجل فتنة،.ثم تحولوا الى دعاة التغيير بعد هروب بن علي، قبل أن يعودوا الى أوكارهم المألوفة.

وقبل أن تأتي مقابلة مصر والجزائر، في السودان، استطعنا أن نفرض واقعا من خلال الحوار على موقع اليوتيوب، وظهرت المبادرة الأولى الشعبية وهي من أجل مصالحة وطنية حقيقية في الجزائر وذلك عشية 5 يوليو سنة 2008، من خلال الحوار المفتوح الذي دعوت اليه وألحقته بفتح قناة على الانترنت تحمل اسم المصالحة.

بدأت تظهر ردود الأفعال وأنا هنا لا أعني الشخصيات التي دأبت على المبادرة منذ اندلاع الأزمة وكانت تدعو الى الاصلاح، ووضعت في طريقها العقبات،بل أعني الانتهازيين الذين ألفوا التموقع كلما قربت الانتخابات بفرقعات اعلامية، بدل تغيير الواقع الجزائري.

يا ليتهم ارتقوا الى الطرح الذي عرضناه في تشخيص الأزمة واقتراح الحلول التي تليق بطموحات الشعب الجزائري،بل أغلبهم يردد جزءا مما كنا نقوم به، وحتى المصطلحات، ثم يقوم بتغيير العنوان، وعيبنا أننا لا نمتلك أموالا لفتح قناة فضائية، وكان نشاطنا ولا يزال على الانترنت.

أصبحت الآن السياسة في الجزائر تميل أينما مالت الكفة، وحتى شرائح من الشعب أصبح وقوفها مع الواقف، أي من يمتلك المال والجاه.

قليل من أصحاب المبادئ ممن بقوا على العهد، ويعملون للصالح العام وتغيير واقع الجزائر.

 كيف لمن كان بالأمس قاضيا يصدر أحكام الاعدام على معارضين، وكيف لمن كان بالأمس نائبا في مجلس معين حلّ محلّ مجلس منتخب بعد انقلاب، وكيف لمن كان بالأمس يمنع المسيرات والتجمعات، وكيف لرئيس حكومة يمنع اعتماد الأحزاب والجمعيات،وكيف لمن كان يعتبر نفسه شريكا لنظام هو المتسبب، يأتون اليوم لا قناعنا بأنهم يريدون الحريات ويريدون العدالة ويريدون التوافق والاصلاح ويريدون مصلحة الشعب وليس مصالحهم؟

 الحقيقة المرة هي الآتي: بعدما اخترقوا الحراك الشعبي سنة 2011 وحرفوه عن مساره، وأبعدوا دعاة التغيير الحقيقي من الصفوف الأولى، وبعدما أفسدوا الندوة في مزافران، والتي جاءت بعد أن شرعنا في لقاء بعضهم كما تظهر التسجيلات، هاهم اليوم يقومون بنفس الدور وبعناوين مختلفة لمنع التغيير الحقيقي في الجزائر، واعطاء النظام مزيد من ربح الوقت من خلال محاولة التموقع. أو بعبارة أخرى: مده بالأوكسجين كلما اختنق، وتمكين النظام من تغيير الواجهة مقابل الحصول على الريع وحطام الدنيا الزائلة،وتضييع فرصة التغيير الحقيقي على الشعب.