الأكراد ما بين سيفر والحاضر: مائة عام من الانكسار

الشعب الكردي اليوم تائه أكثر من أي وقت مضى ولا يعرف إلى ما ستؤول إليه الأمور ولا يريد أن ينكسر أكثر مما انكسر من قبل.

يكاد التاريخ يعيد نفسه بحذافيره فيما يتعلق بالقضية الكردية بعد مرور حوالي مئة عام إلا قليلا على مؤتمر سيفر ولوزان وفي هذا المقال سنلقي الضوء على بعض هذه الإحداثيات التاريخية المتشابهة ودور كل دولة والأخطاء التي كررها الساسة الكرد في كلتا المرحلتين.

في مؤتمر سيفر عام 1920 قاد رئيس الوفد الكردي شريف باشا المفاوضات بشكل جيد واستطاع الحصول على بنود صريحة بحق الشعب الكردي في إقامة حكم ذاتي محلي يتحول بعد سنة إلى حق تقرير المصير وإنشاء دولة كردية إذا صوت الشعب على ذلك. ومن الجدير بالاهتمام أن الوفد الكردي قدم رؤية لدولة كردية تمتد حتى البحر المتوسط لتصدير موارد الدولة الكردية نحو الخارج ما يدل على وعي مبكر بهذه المسألة لكن الدول الاستعمارية وقتها حددت حدود الدولة الكردية من جنوب أرمينيا حتى شرق الفرات ومن الملاحظ أن قضية شرق الفرات هي محورية اليوم أيضا ما يعني أن الصراع الحالي يعتمد على نفس الخرائط التي وضعت في مؤتمر سيفر منذ ذلك الوقت ومن الملاحظ أيضا حسب محددات مؤتمر سيفر أن كردستان كانت ستقسم إنتدابيا بين فرنسا وأميركا وبريطانيا أما اللجنة الضامنة للإستفتاء بعد سنة فكانت تضم فرنسا وإيطاليا وبريطانيا. لاحظ أنها نفس الدول الموجودة اليوم شرق الفرات.

ما حدث وقتها أن روسيا البلشفية بدأت تتقرب من تركيا ثم دعمتها بالمال والسلاح ما جعلها تحقق الانتصارات في حربها مع اليونانيين وبدأ نجم كمال اتاتورك بالسطوع. وهنا تغيرت المعادلة وبدأ الإنكليز والفرنسيون بالتقرب من تركيا خوفا من انتشار الشيوعية نحو تركيا والعالم الإسلامي فعقدوا اتفاقيات مغايرة مع الأتراك والإيرانيين لكنها كانت تتضمن حقوق الحكم الذاتي للأكراد وتعهد الأتراك بتنفيذها لكنهم استطاعوا اختراق الصف الكردي الداخلي وخربوا الموضوع وقمعوا بوحشية الثورة الكردية التي طالبت بتنفيذ الإتفاقية.

في مؤتمر لوزان لم يعترف الكماليون بالاتفاقيات التي عقدتها حكومة فريد باشا التركية في مؤتمر سيفر ورضخت الدول الإستعمارية لمطالب الأتراك بعدم مناقشة القضية الكردية نهائيا في المؤتمر خاصة أن ولاية الرئيس الأميركي ويلسون كانت قد انتهت وهو الرئيس الذي وضع المبادئ المتعلقة بحق تقرير المصير للشعوب وكان هناك بند خاص ضمن مبادئه الأربعة عشر بحق شعوب السلطنة العثمانية في تقرير مصيرها وقد انسحب الأميركيون من مؤتمر لوزان لعدم اهتمام الرئيس الجديد به وبقضايا الشعوب.

أوجه التشابه بين المرحلتين

1 - مساندة روسيا لتركيا بعد مؤتمر سيفر بينما كانت الخطة الغربية التضييق الجغرافي على الدولة التركية الجديدة بإنشاء دولة كردية ودول عربية ما جعل الغرب يغير من خططه بسبب الدعم الروسي لتركيا ونلاحظ في الوقت الراهن أن روسيا فعلت نفس الشيء وساندت تركيا وعقدت معها اتفاقيات بيع أسلحة بما فيها منظومة صواريخ متطورة وسلمتها أجزاء من الأرض السورية ومن ضمنها منطقة عفرين ما جعل الغرب أيضا يتقرب من تركيا ويغير من استراتيجيته نحوها وهنا نستنتج أن أصل البلاء الكردي قد بدأ من روسيا ثم تبعتها الدول الغربية وما زال هذا البلاء مستمرا حتى اليوم بنفس الوتيرة مع تشابه الأحداث.

2 - الرئيس ويلسون كان رزينا متزنا وداعما للحقوق الكردية لكن ولايته انتهت أثناء انعقاد مؤتمر لوزان واستلم مكانه الرئيس هاردينغ والذي اعتمد مثله مثل ترامب على الأصوات الشعبوية وكان غير مهتم بحق تقرير المصير للشعوب وهنا نرى أوجه التشابه بين ما حدث قديما وما يحدث الآن حيث إن أوباما كان أكاديميا رزينا شهدت الحقوق الكردية انعطافة كبيرة في عهده خاصة في سوريا حيث بدا أن الكرد هم المستفيدون الوحيدون من الأزمة وعلى أعتاب إقليم يمتد حتى المتوسط وكذلك ما حصل عليه كرد العراق من دعم بعد محاربة داعش لكن ولاية أوباما انتهت واستلم ترامب الذي يتشارك مع الرئيس هاردينغ في أشياء كثيرة منها أنهما كلاهما اعتمدا على الأصوات الشعبوية وكلاهما تمرغا في الفضائح الجنسية وكلاهما أثيرت حولهما الكثير من الجدل وكره الطبقة الوسطى والمخملية لهما وكلاهما لم يهتما بالقضية الكردية وتركاها للقوى الإستعمارية القديمة وقد مات هاردينغ بسكتة قلبية قبل أن يكمل ولايته ولا نعلم هل سيتشارك معه ترامب في هذه أيضا أم أن التاريخ يكرر نفسه فيما يتعلق بالكرد فقط؟

3 - ترك هاردينغ القضية الكردية للإنكليز والفرنسيين وها هو ترامب يترك القضية الكردية في سوريا بيد الفرنسيين وفي العراق رأينا الدور السيئ للإنكليز في تسليم كركوك للحشد الإيراني مقابل امتيازات لشركات البترول البريطانية ونرى اليوم أن الفرنسيين بدؤوا بالتقرب من الأتراك وقبل عدة أيام اتصل الرئيس الفرنسي ماكرون بالرئيس التركي رجب طيب ارضوغان وأكد ماكرون على محورية الدور التركي في المنطقة وإعادة زخم العلاقات معها بعدما شابتها الشوائب في الفترة الماضية ثم رأينا كيف يعزز الغرب الدور التركي في الشمال على حساب الأكراد.

4 - إستطاع كمال أتاتورك خرق الصف الكردي قبل مئة عام عبر بعض الإقطاعيين الكرد واستطاع الأتراك اليوم خرق الصف الكردي عبر الأحزاب الكردية مثل بعض الشخصيات الموجودة في أحزاب إقليم كردستان والتي باتت ترتبط بوشائج إقتصادية عميقة مع الشركات التركية وتؤثر مصالحها الشخصية والإقتصادية على المصلحة الوطنية وكذلك استطاع الأتراك اختراق صفوف حزب العمال الكردستاني عبر عملائه خاصة أن الإيديولوجية الجديدة التي باتت تعرف بفلسفة القائد تخرج مباشرة بعد مرورها على كنترول المخابرات التركية بينما استطاع الإيرانيون اختراق صفوف أحزاب أخرى في إقليم كردستان والتي تسببت مع أسباب اخرى في ضياع كركوك عدا عن الإختراق الحاصل للمخابرات السورية في صفوف الأحزاب الكردية السورية بلا استثناء.

5 - الخطة الإستعمارية القديمة كانت تتضمن فصل الأتراك عن العرب عبر إقامة دولة كردية حتى لا يبقى للأتراك تأثير على العرب خاصة وأن الإنكليز أقنعوا العرب بشق الأنفس في مسألة الانفصال عن الدولة العثمانية لكن دعم روسيا لتركيا أخاف الغربيين فارتأوا أن التأثير التركي أكثر أهمية في منع العرب من التوجه نحو الشيوعية وفي الوقت الراهن نرى أن الخطة الغربية الأولى كانت فصل تركيا عن العرب السنة في سوريا نظرا لدعم تركيا للحركات الجهادية في سوريا وما لذلك من تأثيرات على العالم العربي وتداعيات إرهابية على العالم أجمع لكن روسيا قدمت البيدق التركي في الشمال بتسليمها جرابلس والباب بداية ثم غير الغرب استراتيجيته وأصبح هناك تنافس بينهم وبين روسيا لتقوية النفوذ التركي في الشمال.

من وجهة نظري أن الكرد في التقسيمات القديمة لا يتحملون مسؤولية كبيرة عما حدث ونستطيع أن نقول بلغة النسبة والتناسب أن الإقطاعيين الكرد كانوا يتحملون نسبة ثلاثين في المئة من المشكلة لكن الدول الإستعمارية وخاصة بريطانيا وفرنسا كانت تتحمل الجزء الأكبر من المسؤولية أما في الأحداث الراهنة فإن الكرد يتحملون المسؤولية الكبرى بنسبة تصل إلى سبعين في المئة بينما تتحمل الدول الإستعمارية روسيا والغرب ثلاثين بالمئة من المسؤولية.

المسؤولية الكبرى التي يتحملها الكرد اليوم أنهم اتكلوا على الدول الكبرى بشكل فج ونسوا العامل الذاتي حتى إن أبسط تخل عنهم من الحلفاء يجعلهم ينهارون بكل سهولة مع عدم القدرة على القتال والصمود لمدة وجيزة هذا عدا عن خلافاتهم التي لم تكن تتناسب مع ظرف المرحلة وحالة السعار التي أصابت الأحزاب الكردية ففكرت بشكل ساذج أنها من الممكن أن تمحي بعضها وظن كل حزب أنه من الممكن أن يكون هو الوحيد المتصرف في التغييرات الجديدة في المنطقة بل إن بعضها تجاوزه الوهم ليعتقد أنه النموذج الذي سيطبق على كامل الشرق الأوسط الجديد.

الحلول

في اعتقادي إن الكرد اليوم هم في مرحلة السمكة الثانية أما معنى مرحلة السمكة الثانية فهي قصة ذكرها ابن المقفع في رائعته كليلة ودمنة التي دفع حياته ثمنا لها وهو كتاب سياسي في كل الأحوال وتتلخص القصة في أن صيادين مرا ليلا بجانب غدير ماء موصول بنهر كبير كانت تعيش فيه ثلاث سمكات فقالا غدا نأتي صباحا ونفصل الغدير عن النهر ونصطاد السمكات الثلاث وحين سمعت السمكات مقالهما هرعت إحداها بسرعة البرق واتخذت طريق النهر واختفت فيه بينما قالت الأخريات لننتظر في دفئ الغدير فما زال الصباح بعيدا ثم أتى الصيادان باكرا وقطعا الغدير عن النهر فعلمت السمكتان سوء فعلتهما لكن إحداها لم تغلبها الحيلة فتظاهرت بأنها ميتة حتى إذا أخرجها الصيادان من الماء واقتربا من النهر قفزت سريعا إلى النهر وانقذت نفسها لكن السمكة الثالثة غلبتها الحيلة وارتبكت وتاهت وفشلت فكانت طعاما للصيادين.

المغزى من القصة وحتى لا يصبح الكرد طعاما للصيادين فإنهم ما زالوا في مرحلة السمكة الثانية وما زال هناك الكثير مما يقدمونه لو صدقت النوايا بعد فوات فرصة السمكة الأولى وأكبر مثال على ذلك هو حزب العمال الكردستاني فبدل أن يستفيد من فرصة سبع سنوات من الإدارة الكردية في بناء مجتمع قوي سياسيا وعسكريا ومعنويا رأيناه غارقا في الفساد والإهتمام بتوافه الامور وخلق مجتمع الحزب الواحد على أسس من شعارات الستينات والتي سقط كل الذين نادوا بمثلها سواء كانت دكتاتوريات أوروبا الشرقية أو العالم العربي أو أميركا اللاتينية أما إقليم كردستان فظل مستقرا لمدة خمسة وعشرين عاما كانت كافية لبناء مجتمع مكتف ذاتيا إقتصاديا وعسكريا وسياسيا لكن النتيجة أنهم لم يستطيعوا الصمود أربعا وعشرين ساعة في كركوك وبدا البيت الداخلي أوهن من بيت العنكبوت.

الشعب الكردي اليوم تائه أكثر من أي وقت مضى ولا يعرف إلى ما ستؤول الأمور ولا يريد أن ينكسر أكثر مما انكسر من قبل في التاريخ ولذلك فإن أفضل حل للحالة الراهنة هو انعقاد مؤتمر كردستاني عام تتشارك فيه جميع القوى الكردية الفاعلة في المنطقة والعالم ثم يتمخض المؤتمر عن بيان ختامي غير متشنج أي لا يصيب دول العالم أو الدول الإقليمية بالتشنج بل يكون بيانا واقعيا حرفيا وسيكون لهذا المؤتمر دور رمزي كبير على المستوى الداخلي ورسالة قوية لدول العالم وتبيانا وتوضيحا وشفافية للمطالب الكردية بدل حالة التوهان التي نعيش فيها ومن أهم ما يجب أن يتمخض عنه المؤتمر ويتضمنه البيان الختامي هذه المطالب السلسة الواقعية:

1 - حق تقرير المصير لإقليم كردستان وفق الإرادة الشعبية وحل مسألة كركوك والمناطق المتنازع عليها وفق أسس قانونية ودستورية سليمة.

2 - الإدارة الذاتية للمناطق الكردية في سوريا ضمن سوريا موحدة وأن يتضمن الدستور السوري الجديد ذلك وإيجاد مفاوضات شفافة مع دمشق وفق أسس سليمة وليس على مبدأ المراوغة والتضليل.

3 - المطالبة بإنسحاب تركيا والفصائل المرتزقة من عفرين ووقف كافة عمليات السلب والنهب ومضايقة المدنيين والإستيلاء على البيوت وعملية التغيير الديمغرافي وتقع على الدول الغربية وروسيا مسؤولية الضغط على حليفهم تركيا لتنفيذ ذلك.

4 - إطلاق سراح كافة السياسيين الكرد من السجون التركية وإطلاق عملية سياسية جادة على أسس السلام بدل حالة الحرب.

5 - وقف حملات الإعدام بحق الناشطين الكرد في إيران وعدم تدخل إيران في الشؤون الداخلية للمناطق الكردية في سوريا والعراق.

6 - على دول العالم المتحضر القيام بمسؤولياتها في حماية الشعب الكردي من المجازر والسبي والسلب والنهب كما حدث في شنكال وكركوك وخانقين وطوز خرماتو وكوباني وعفرين وغيرها من المناطق الكردية.

7 - توقف الدول الغربية عن إمداد الدول والميليشيات بالسلاح الذي يستخدم في ارتكاب المجازر بحق الشعب الكردي كما حدث مع ميليشيات الحشد الشعبي في كركوك وميليشيات المعارضة السورية في عفرين.

8 - لكل جزء كردي خصوصيته ويعتبر ما يحدث في كل جزء شأنا داخليا لا تتدخل الأطراف الأخرى فيه إلا بالمشورة وتقديم الدعم والتكاتف الطبيعي القائم على روابط الدم والقربى.

9 - وقف استخدام الدين الإسلامي ضد الشعب الكردي المسلم في غالبيته كما تفعل تركيا والتيارات الإسلامية في المنطقة وما يسببه ذلك من امتهان للدين الحنيف واستخدام سياسي سيئ لقيم سامية وما يحدث من شرخ في المنطقة وتكالب المجاهدين المخدوعين على الكرد وما يتبعه ذلك من مجازر بحق الشعب الكردي بدعوى الإلحاد والردة بحملات تحريضية ممنهجة.

10 - المناطق الكردية مناطق إثنية تعيش فيها كافة الأديان والمكونات والأعراق ولها كامل الحقوق في الترشح والحكم والقيادة والإدارة.

ترسل نسخة منه إلى الأمم المتحدة والإتحاد الأوروبي وجامعة الدول العربية وكافة المنظمات الدولية والهيئات السياسية والدينية بما فيها الأزهر والفاتيكان.

في المحصلة هناك الكثير من الأوراق والحلول ولم يفت القطار على الشعب الكردي بعد وكل هذا إذا اعتبرنا أن ما حدث كانت أخطاء ارتكبها الساسة الكرد وكل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون أما إذا كانت المسألة سوء نية مبيتة وتنفيذا لأجندات الأعداء فحينها سنكون مثل السمكة الثالثة الحمقاء التائهة بما أننا نمتلك ذاكرة السمكة أيضا وسنصبح صيدا سهلا  وعلى الكرد السلام حتى مئة عام أخرى أو تزيد.