الإسلام السياسي.. أزمات الهوية والغرب والحداثة

سؤال إصلاح الديني في سياق الفكر النهضوي تحول إلى سؤال الانقلاب الديني في بواكير التنظيرات للإسلام السياسي كما أن عدم الانشغال النهضوي بهاجس سيطرة الدين على الدولة سيصبح مع الإسلام السياسي الهاجس الأكبر والمحرك الأهم لخطاباتهم المتعددة.

بقلم: إسلام سعد 

 تتعرض هذه المقالة لتأثير الحداثة والعولمة والغرب في ترسيخ الانتماء الديني كأهم عنصر في بناء الهوية لدى الحركات الإسلامية. ولما كانت الهوية، أو أزمتها بمعنى أصح هي - كما أرى - أصل الإشكالية ومناط الاشتغال للعقل الإسلامي/ العربي على العموم، بل ولكونها المفهوم الذي يمكن من خلاله الاشتباك مع المعضلات العالمية ككل، وليست فقط العربية[2]، فإنه يلزم مقاربتها ابتداءً في محاولة لضبط المفهوم، والانتقال به من التعريف العام لرصد أنواعها، والتركيز على أنواع الهوية الجمعية التي ستفيد في السياق التحليلي لتطورات كلٍ من حركة الفكر النهضوي وحركة الإسلام السياسي.

في ثلاثيته المهمة، والمُعَنْوَنَة بـ "عصر المعلومات The Information Age" يحاول مانويل كاستلس Manuel Castells تقديم قراءة لثلاثة مفاهيم رئيسة في العصر الحديث (الاقتصاد، الاجتماع، الثقافة)، ودراسة الكيفية التي تصبح بها هذه المفاهيم فاعلة في الواقع، وكيف تتطور، وكيف تترابط بين بعضها البعض.

في ضوء هذا المسعى، تهدف هذه المقالة لتقديم قراءة عن "الهوية" في سياقنا العربي/ الإسلامي، مستعينة بالتنظير الذي قام به كاستلس في كتابه الثاني من هذه الثلاثية بعنوان: "سلطة الهوية - The Power of Identity".

في البدء، يلزم القول إن الهوية تتم مقاربتها بما هي الحامل للتغيير الاجتماعي بغض النظر عن محتوى هذا التغيير، والهدف منه، ومن هم فاعلوه بالتحديد. ووفق المنظور السوسيولوجي، فإنها تركيبية على الدوام، وليست أبدًا مفهومًا أو كيانًا نظريًا ناجزًا، لا يفعل المرء منا إلا السعي لمحاولة تحقيق أقصى قدر ممكن منه دون القدرة على استنفاده بالكامل. بمعنى آخر، الهوية ليست قيمة تأسيسية مطلقة تأبى على الاغتناء ومراكمة الحمولات الثقافية والتطلعيَّة عليها. الهوية، إذن، تركيب يتنامى، ويأخذ في التطور، إذ إنها، وهي تُشيَّد، "تستخدم مواد بنائية من التاريخ والجغرافيا والبيولوجيا ومن المؤسسات المنتجة (الفاعلة)، والتي تعيد إنتاج الثقافة reproductive، ومن الذاكرة الجمعية، والخيالات الشخصية، ومن أجهزة السلطة وأنساق الوحي الدينية". هناك، بالتالي، حالة تركيبية للهوية، على الدوام تتطور، ويضاف إليها أو يُنزَع منها بحسب طبيعة الخطاب المُشَيِّد للهوية من خلال فاعليه المؤثرين. هذه الهوية، وإن كانت يتم خلق معناها وإعادة ترتيب هذا المعنى وفق "المحددات الاجتماعية، والمشاريع الثقافية المتجذرة في بنيتها الاجتماعية، وفي إطار المكان/ الزمان الخاص بها"، إلاّ أن "هذا الذي يقوم بتشييد الهوية الجمعية، وللسبب الذي ينشده، يحدد بشكل كبير المحتوى الرمزي لهذه الهوية، ومعناها عند هؤلاء الذين يُعَرِّفون أنفسهم من خلالها (بالتَبَنّي الكامل لتصوُّرِ هذه الهوية)، أو هؤلاء الذين يضعون أنفسهم خارجها"[3].

ويُمَيِّزُ كاستلس بين أنواع الهويات المُشَيَّدة، ووفق سياق التحليل هنا، سأعتمد على نوعين من الهويات؛ وهما: هوية المقاومة Resistance identity، و"هوية المشروع" Project identity. وفيما يتعلق بهويات المقاومة، فإنها "عادة ما يتم تشييدها باستخدام المواد الموروثة من التاريخ (الله، الأمة، العِرقية/ الإثنية، المحلية locality)"، ويتم بناء أسوار من المقاومة باستخدامها للدفاع عن قيمٍ قارَّة في بنية الاجتماع تمَّ تهميشها أو حين يلوح سعيٌ ما لتغييرها، أو لصدِّ هجماتٍ خارجية تروم الانقضاض على الاجتماع أو دولته بالعموم. أما "هوية المشروع"، فإنها تسعى لتغيير المجتمع من خلال تقديم منظومة جديدة من القيم، وهذه الهوية تنبثق "عندما يقوم الفاعلون الاجتماعيون، على أساس المواد الثقافية المتاحة لهم، ببناء هوية جديدة تعيد تعريف موقعهم في المجتمع، ومن خلال هذا الفعل، يسعون إلى تحويل البنية الاجتماعية بوجه عام ..."[4]. هذه الهوية الأخيرة، لا تكون جديدة تمامًا وأقصد أنها لا تستغني عن مواد "القديم" – بالمعنى العام – دفعة واحدة. إنها هوية للخلاص الدنيوي، وتفعل ذلك من خلال تبنّي منظومة جديدة من القيم والسعي لترسيخها اجتماعيًا.

في الفكر النهضوي وتأسيس الإسلام السياسي

ينشغل التحليل هنا بشكل أساسي، بقراءة الإسلام السياسي، إلا أن المرور على اللحظة التاريخية السابقة على تبلوره أمر مهم، وستتحدد عليه الكيفية التي نقرأه بها في لحظة انبثاقه ثم لحظات تطوره.هناك لحظتان تأسيسيتان في التاريخ العربي الإسلامي الحديث؛ الأولى يمكن الإشارة إليها باللحظة التي تولَّد عنها الفكر النهضوي، والثانية هي لحظة تأسيس الإسلام السياسي.

وفيما يتعلق بالفكر النهضوي الذي تبناه الإصلاحيون الإسلاميون – كما يصفهم عزيز العظمة[5]–كالأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا ...إلخ، فإنه يمكن فهم هذا الحراك، على تنوع تجليات ممارساته وترتيب أولويات كل خطاب فيه، من خلال مفهوم هوية المقاومة.

لزم استخدام الدين، وبشكل أكثر تحديدًا، استخدام الشريعة الإسلامية، كحائط صدٍّ أمام الاستعمار الذي غادر بلاده واخترق جغرافيات المشرق بشكل شبه عام. وهنا، استلزم التمترس خلف الدين طريقة في التعاطي مع الدين والاجتماع المتدين كذلك. فالتعامل مع الدين، من خلال نمط التديُّن السائد في الاجتماعات العربية على سبيل المثال، أقرَّ بسلامة التدين بشكل مبدئي، واستلزم الأمر محاولة تنقية هذا التدين من "البدع" والإضافات التي لحقت به (وإن كان مُعَبَّرًا عن هذا التدين، في الخطابات الإصلاحية الإسلامية، بالدين) بالإضافة إلى استنفاذ الهمم وتوحيد الاجتماع في مواجهة الغازي المُحتَل. لم يرَ الإصلاحيون الإسلاميون عطبًا بنيويًا في الاجتماع، وإنما أنماط ممارسة مرذولة، من وجهة النظر الإصلاحية يلزم تلافيها ومحوها.

كان "سؤال الإصلاح الديني"، والحال كذلك، سؤالًا مركزيًا. وللتعامل معه، لم يجد أغلب الإصلاحيين الإسلاميين أي ضرر من الإقرار بفائدة أنماط الممارسة السياسية الغربية، حيث "تكاد أفكار إيتيان دي لابويسي، وجان جاك روسو، ولوك وشعارات الثورة الفرنسية ... تكون حاضرة في بعض الفكر النهضوي، سواء أكانت أفكارًا موجِّهة أم منتقِدة"[6]. وكذلك لم تكن أنظمة الحكم الغربية مصدر خطر أو تثير المخاوف عند هؤلاء الإصلاحيين، حتى عند المؤسس رفاعة الطهطاوي الذي لم ير غضاضة في أن الدستور الفرنسي هو سبب انصلاح حال الأمة الفرنسية، فيقول: "وإن كان ما فيه (يقصد الدستور) ليس من كتاب الله تعالى، ولا في سنة رسول الله، لتعلم أن العدل والإنصاف من أسباب تعمير الممالك وراحة العباد"[7]. وبشكل عام، "جاء الكلام الإصلاحي على إصلاح الشريعة وطبيعتها وعلاقتها بالأحوال المتجددة والمتحولة الأكثر رحابة لعمل الإصلاحية الإسلامية على استلال الكلام على الدنيا وأحوالها من خطاب الدين، وإدراجه في خطاب علماني المرجعية الفكرية، ولو تداخلت عناصره وتدخّلت فيه مسوِّغات دينية لأولوية المرجعية العلمانية ... (و) كان هذا الأمر – توسيع نطاق الدنيا وتضييق مجال الدين – صنو الاجتهاد الذي دعا إليه الإصلاحيون الإسلاميون"[8].

 

إذن، وبصرف النظر عن وصف نوع العلاقة التي أنشأها العرب، ورواد الإصلاح الأوائل منذ بواكير النهضة وما تلاها من لحظات تاريخية، يبقى الأمر المؤكد هو وجود نوع من التفاعل والتعاطي الإيجابي مع الحداثة، حيث لا توجد أية معضلة مركزية (على المستوى الثقافي أو السياسي أو الاجتماعي) تمنع من استلهام تجارب الآخر/ الغربي (الذي كان ذا نزوع كولونيالي مباشر في لحظة تاريخية طويلة سطرت المصائر الكبرى لعوالم العرب)، وتبنّي أنظمته وإجراءاته السياسية[9]، ناهيك عن السعي الدؤوب لزرع مفاهيم الحداثة (على المستوى الحقوقي والسياسي وعلى مستوى هياكل البنى الاجتماعية) في السياق العربي[10]. كما كان الشعور بالقومية مغذيًا للتجييش والتعبئة ضد الاستعمار.

الإسلاموية: المخاوف، الإمكانات، والرهانات

عادت مركزية الإنسان في الكون، انقلابًا على ما اكتشفه كوبرنيكوس، في المجال الكوني/ السياسي، متمثلة في العصر الحديث على شكل المركزية الأوروبية Eurocentrism التي لم تلبث أن تتحول إلى المركزية الأمريكية في فضاءات العولمة[11] والعالم المفتوح. وصارت محاولات "أمركة" العالم Americanization تلقى ردود أفعال مقاوِمَة من جميع الجغرافيات العالمية. ويذهب كاستلس إلى أن الدين ليس فقط مجرد مكون أو سمة أساسية من سمات المجتمع، ولكنه يمتلك سلطة تؤهله، لأن يكون حاسمًا في عمليات بناء هويات المقاومة ضد "هيمنة قيم السوق وما يسمى بالثقافة الغربية في سياق عملية العولمة ...(وفي هذا الأمر ما يُفَسّر) الاندفاع الواسع الانتشار لتعبيرات قوية للهوية الجمعية التي تتحدى العولمة والكوزموبوليتانية باسم التفرُّد الثقافي"[12].

تضاف إلى كل هذه العوامل، لتفسير الأصولية الإسلامية وما انبثق عنها من تيار سياسي صار معروفًا بالإسلام السياسي، حقيقتان: تتمثل الأولى في أن حراك الإسلام السياسي هو ابن الحداثة "العاق"، والذي لم يكن ليوجد لولا التفاعل مع الحداثة والتأثر بما وَلّدَته في الاجتماعات العربية من نتائج؛ فقد ظهر الإسلام السياسي بمفهومه الحديث "في فترة ما بين الحربين مع حركة الإخوان المسلمين، لا قبل ذلك، وبالتحديد في سنة 1928، مع حسن البنا ... (وهو) متصل إذن بنشأته بظهور الدولة الحديثة أو التي تنزع إلى أن تكون حديثة"[13]، بينما تتمثل الحقيقة الثانية في أن إخفاق الدول العربية الحديثة على مستوى التطلعات السياسية لمواطنيها[14]، وكذلك على مستوى الصراعات العسكرية (وهزيمة 1967 مثال زاعق على هذا المستوى). وبالتالي، يمكن القول إنه يتواصل بناء الهوية الإسلامية المعاصرة، باعتبارها ردَّ فعلٍ على الحداثة البعيدة المنال (سواء كانت رأسمالية أو اشتراكية)، والعواقب الخبيثة للعولمة، وانهيار المشروع القومي ما بعد الاستعماري[15].

يصبح حتميًا الآن، التركيز على الفصل بين ثلاث ظواهر إسلاموية، وهي: 1- الأصولية الإسلامية، 2- الإسلام السياسي، 3- ما بعد الإسلاموية Post-Islamism.

يمثل الظاهرة الأولى أبو الأعلى المودودي وسيد قطب، وذلك لمركزية خطاب الواحد منهما في صوغ الأفكار الرئيسة للإسلام السياسي، ورغم اختلاف السياقات الجغرافية (على الأقل) بين الخطابين، إلا أن المصطلحات والتنظيرات التي قاما بتقديمها صارت هي مصدر التغذية الأهم للتيارات الإسلاموية اللاحقة[16].

ترتكز الأصولية في مساعيها على مفهوم "هوية المشروع"؛ أي أنها خلق لنظام هووي جديد، وهذا النظام يعادي الاجتماع القائم ودولته على السواء، ويظهر له التدين السائد بما هو خروج على روح الدين الأصلي، وهو لا ينشد مجرد إصلاح المجتمع، وإنما قَلْب المجتمع رأسًا على عقب بتغيير الهياكل الكلية التي تضمن لحمة هذا الاجتماع القائم وتمريره بمسارات إيمانية/ عقائدية (من خلال خطاب شعبوي تجييشي، شعاراتي بطبيعته)تجعل من الاجتماع المنشود (المتحول عن جاهلية الاجتماع السابق عليه) وكأنه سيأتي للحياة من خلال "دين الولادة الجديد (الذي) ينبذ الميراث الثقافي والعائلي، ويميل إلى اعتبار الأشكال الموجودة "فاترة" أو ملوثة بالوثنية"[17].

وفيما يتعلق بخطابي المودودي وقطب، فإنهما قاما على مخاصمة تامة للدولة القومية[18]، وهو، بشكل ما، أوفي جانبٍ منه، ينبني على العداء للغرب[19] بالأساس.

وتتبدى المفارقة في أن سؤال إصلاح الديني في سياق الفكر النهضوي تحول إلى سؤال الانقلاب الديني في بواكير التنظيرات للإسلام السياسي، كما أن عدم الانشغال النهضوي بهاجس سيطرة الدين على الدولة سيصبح مع الإسلام السياسي الهاجس الأكبر، والمحرك الأهم لخطاباتهم المتعددة. وهنا، يمكننا تمييز الفارق بين هوية المقاومة في الحالة الأولى، و"هوية المشروع" في الحالة الثانية[20].

لكن حالة العدمية السياسية لن تدوم طويلًا، وهي الحالة التي أرساها سيد قطب، وجماعات التكفير والجهاد المسلح، وسيتضح لتيار الإسلام السياسي أنهم، لكي يحققوا مسعاهم، فإنه لا بد لهم من العمل من داخل ما يريدون نفيه؛ أي العمل من داخل الدولة ووفق آلياتها. وإذن، يتضح ما تقوم به حركات الإسلام السياسي (وفي القلب منها الإخوان المسلمون) من تقديم "تنازلات" عن الأسس العقائدية في نسقهم الخطابي، لصالح الاندماج أكثر في "السياسي" على مستوى الممارسة.

ما بعد الإسلاموية: تنازلات أم خطابات جديدة؟

يبزغ أمامنا مصطلح "ما بعد الإسلاموية" في كتابات العديد من المفكرين المنشغلين بحراك الإسلام السياسي، كأوليفييه روا على سبيل المثال (وهو صاحب محاولات جادة لتثبيت المفهوم)[21]، وكذلك عند أ. ج. نوراني الذي ذكره في هيئة نبذة تنبؤية[22].

يستلزم الحديث عمّا- بعد الإسلاموية تحليلًا هادئًا. فإن كانت الإسلاموية، بالتعريف العام، تشير إلى "الأفكار والحركات التي تسعى من أجل إقامة "نظام إسلامي" يتمثل في دولة دينية، وإقامة حكم الشريعة، وفرض القوانين الأخلاقية في المجتمعات الإسلامية (كما ينصب اهتمامها الرئيس) على إقامة مجتمع عقائدي، ويجب أن تكون الأهداف الأخرى المتعلقة بالعدالة الاجتماعية، وتحسين حياة الفقراء تابعة لهذا الهدف الاستراتيجي"، فإن ما بعد الإسلاموية تمثل "قطيعة خطابية و/ أو ذرائعية عن النموذج الإسلاموي ... (وهي أيضًا) عملية مركبة للانقطاع عن الحزمة الأيديولوجية الإسلاموية من خلال الالتزام بمشروع ديني مغاير وأكثر استيعابًا يستمر فيه الإسلام كدين ومكون للمجال العام"، وقد يتشارك الفكر ما بعد الإسلاموي مساحة لا بأس بها مع "الإسلام الليبرالي" من جهة دعمه للديمقراطية والدولة المدنية غير الدينية وحرية الفكر والتقدم الإنساني[23].

إلا أن هذا التمييز يتعرض لجملة من الانتقادات:

هل هناك منهجية يمكن بها قراءة الفارق، بشكلٍ محدد، بين الإسلاموية وما بعد الإسلاموية؟ وحيث يمكننا تحديد ما إذا كانت مرحلة ما بعد الإسلاموية وليدة خطابات جديدة أم أنها مجرد "تنازلات" لضمان الاستمرارية في المجال السياسي الدولتي؟ في الحقيقة يُعرب آصف بيات نفسه عن هذه التساؤلات، ويقدمها تارة، باعتبارها نقدًا له من آخرين أو كمساءلة نقد-ذاتية لخطابه؛ حيث رأى بعض الناقدين أن ما بعد الإسلاموية ما هي إلا "شكل من السياسات الإسلاموية"[24]، بينما رأى الباحث نفسه أنه قد "نشهد عمليات متزامنة من الإسلاموية وما بعد الإسلاموية" باعتبار أن الأخيرة "رؤية نقدية تتجاوز السياسات الإسلاموية المرتكزة على الواجب"[25].

لكن الواقع يشهد بأن الإسلام السياسي، أو الإسلاموية، ما زالت تضع نصب عينها زرع الهوية التَطَهُّريَّة للاجتماع، حيث يبقى الشاغل الاجتماعي، والسعي للتغيير على المستوى الفردي والجماعي حاضرًا وبقوة، بجانب التدخل في أخلاقيات المواطنين، ورصد أفكارهم، وأكثر من ذلك، كل هذا يشير إلى أنه لم تحدث تغييرات عميقة على مستوى الخطاب الإسلاموي بالقدر الذي يمكّننا من الحديث عن ما بعد إسلاموية في أي قطر من الأقطار العربية.

كما أن الربط أو محاولة إيجاد أرضية مشتركة بين ما بعد الإسلاموية والإسلام الليبرالي أمر غير ممكن بسهولة، إذ إن الإسلام الليبرالي يجد سياقات وإمكانات أوسع للنجاح خارج عالم العرب، في السياق الآسيوي (إندونيسيا كمثال قوي على ذلك الأمر)، بينما تعاني المجتمعات العربية، حتى الآن من صراعات تجعل من الليبرالية، على المستوى الحقوقي على الأقل، هدفًا منشودًا لم يتحقق بشكل عميق.

إلا أنه يلزم التأكيد أن حركة الإخوان المسلمين – كمثال - تقطع أشواطًا متباينة من التقدم باختلاف الجغرافيا التي تعمل من داخلها؛ فقد أبدى حراك الإخوان المسلمين بتونس حركية أو مرونة في التعامل مع قضايا الدولة والحقوق المدنية العامة أكثر - بما لا يقاس - من حركية أو مرونة تيار الإخوان المسلمين في مصر، قبل وبعد توليه الحكم لفترة لم تَطُل كثيرًا.

بدا أن الأول أقدر على خلق خطاب "جديد" أو بمعنى أدق "تنظير" جديد يتجاوز فيه أغلب ما تم تسكينه في الخطابات السابقة عليه، أو ما تم التعامل معه بشكل راديكالي في السابق، بينما انشغل الثاني بالاستزادة من المكاسب السياسية، وركَّزَ على خطاب السياسة دون أن يقدم حلولًا لأزمات التنظير الأقدم، بل يمكن القول إنه، حين وصل للحُكم، صار يؤكدُّ شيئًا فشيئًا أنه ما زال وفيّا لحلم الإسلاموية الأساسي بإنشاء الدولة الدينية وهيمنة الإسلام على مستوى الدولة ككل، وهو الأمر الذي عجَّل بالإطاحة بهم بعد الرفض الذي قوبلت به سياساتهم بعد أن اتضح بأنهم يسيرون في طريقٍ يجعل من منظومة حُكمهم "منظومة "كُلّانيّة"، لا تأذن بأن يفلت منها شيء"[26].

وكما أرى، فما بعد الإسلاموية هي مرحلة مستقبلية، لم تأتِ بعد، وهي لن تتحقق إلا بتنازلات متبادلة بين الإسلام السياسي والمؤسسات الدينية الرسمية من جهة، والتيار العلماني المعادي للدين والتيار العلماني المصطلح معه من جهة أخرى. فعلى الفريق الأول، وبالتحديد الإسلام السياسي، إعادة النظر في مفاهيم تأسيسية كالحاكمية الإلهية ورؤيتها التوتاليتارية للاستحواذ على كلٍّ من الدولة والمجتمع، وعلى المؤسسات الدينية الانشغال الجدّي والمكثَّف بإنتاج خطاب ديني جديد، وليس مجرد "تجديد" للخطاب الديني القائم الذي يعجز عن الردِّ بشكل قاطع على أسئلة الآخر الغربي أو الآخر غير المسلم المنتمي لنفس الدولة، بينما على الجانب العلماني المتشدد، الرافض لحضور الدين، أن يتنازل عن مقولة "الاضمحلال والزوال" وانزواء الدين في الأركان المظلمة من كهوف التاريخ العتيقة[27] لأن ذلك الانزواء لا يوجد إلا في عقل من يؤمنون به فقط، ولا يفيد سوى تأجيج الصراعات مع طرفٍ إسلاموي يحمل العداء بطبيعته لتبنيه، في العمق، لنظام "انعزالي سكوني مغلق"، ولعل الحل يكمن في لزوم التحول من هذا النظام والأخذ بـ "وعود الإسلام نفسه التي هي وعود إنسانية حية، رحيمة، منفتحة بامتياز"[28].

بعيدًا عن هذه التنازلات من جميع الأطراف، يصبح الخلاصُ بعيدَ المنال، ويزداد ابتعادًا بمرور الوقت.

 الهوامش:

1-     Castells, Manuel: The information age, The power of identity (Wiley-Blackwell, 2010), Vol. 2.

2-             بيات، آصف، "ما بعد الإسلاموية، الأوجه المتغيرة للإسلام السياسي"، ترجمة: محمد العربي، جداول للنشر والترجمة والتوزيع، بيروت، 2016

3-             جدعان، فهمي: "المقدس والحرية"، المؤسسة العربية للدرات والنشر، بيروت، 2009

4-             جدعان، فهمي، في الخلاص النهائي، مقال في وعود النظم الفكرية العربية المعاصرة"، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، ط2، 2012

5-             روا، أوليفييه، "عولمة الإسلام"، ترجمة: لارا معروف، دار الساقي، بيروت، 2003

6-             روا، أوليفييه، "الإسلام والعلمانية"، ترجمة: صالح الأشمر، دار الساقي، بيروت، 2016

7-             روا، أوليفييه، "تجربة الإسلام السياسي"، دار الساقي، بيروت، ط2، 1996.

8-             الشرفي، عبد المجيد، "الإسلام والحداثة"، الدار التونسية للنشر، ط2، 1991

9-             الشرفي، عبد المجيد، "مرجعيات الإسلام السياسي"، التنوير، مصر، تونس، لبنان، 2014

10-         العظم، صادق جلال وحسن حنفي، "ما العولمة؟"، دار الفكر، دار الفكر المعاصر، لبنان، سورية، ط4، 2010

11-         العظمة، عزيز: "العلمانية من منظور مختلف"، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط2، 1998

12-         العلام، عبد الرحيم: "العلمانية والدولة المدنية، تواريخ الفكرة، سياقاتها وتطبيقاتها"، مؤسسة مؤمنون بلا حدود، الرباط، 2016

13-         مبروك، علي: "ثورات العرب – خطاب التأسيس"، دار العين للنشر، مصر 2012

14-         المسكيني، فتحي، "الكوجيطو المجروح، أسئلة الهوية في الفلسفة المعاصرة"، منشورات ضفاف والاختلاف، الرباط، الجزائر، 2013

15-         المودودي، أبو الأعلى، "الحكومة الإسلامية"، ترجمة: أحمد إدريس، المختار الإسلامي، ط2

16-         نوراني، أ. ج، "الجهاد والإسلام – التحيز في مواجهة الواقع"، ترجمة: رياض حسن، دار الفارابي، بيروت، 2007

17-  ياسين، عبد الجواد، حول الدين والمستقبل، بحث منشور على موقع مؤسسة "مؤمنون بلا حدود"، بتاريخ 13 يناير،