التخلص من الإعلانات التلفزيونية، نوع من الإعلان


فكرة الباب الدور التي يلجأ إليها السياسيون، كانت فكرة شيطانية استثمرتها شركات الإعلان بطريقة “فلوس الشيطان في جيب إبليس” وبذريعة تخليص الجمهور من إزعاج الإعلانات أثناء المتابعة المشدودة للبرامج والمباريات.

تغري التطبيقات التي تعرضها الشبكات التلفزيونية على المستخدمين فرصة مشاهدة ما يفضلونه من دون إعلانات، وبطبيعة الحال هذا عرض إعلاني يخترق المسلسلات والبرامج على شاشة التلفزيون من أجل أن يروج لمشاهدة من دون إعلان، وتلك مفارقة مثيرة بشأن الإزعاج الذي تسببه الإعلانات، بينما وظيفتها الأصلية اختراق الحواس من أجل مزيد من الإغراء للشراء.

مشاهدو هيئة الإذاعة البريطانية “بي.بي.سي” يدفعون ضرائب مفروضة سنويا على كل منزل يمتلك جهاز تلفزيون، من أجل برامج تخدمهم وتمنع الإعلانات المفسدة لمتعة المشاهدة، فكيف إذا دخلت تلك الإعلانات في لحظة شد مع مشهد درامي متصاعد أو أثناء نقل مباراة رياضية.

ثمة حادثة مثيرة سلبت من المشاهدين البريطانيين متعة متابعة تسجيل هدف في مباراة كرة قدم عندما اختارت القناة التلفزيونية توقيتا حرجا صادف بث إعلان دعائي مع لحظة تسجيل هدف! فاتهمت القناة وقتها بتفضيل المصالح التجارية على أي اعتبار آخر يهم المشاهدين، كان الحدث حينها درسا تاريخيا للتلفزيونات التجارية برمتها لم يتكرر بعدها.

اليوم التطبيقات على الإنترنت وشبكات الاشتراك تقترح مشاهدة مسترخية للبرامج والأحداث من دون إعلانات، وتضع الخيار أمام المشاهد، وهو بطبيعة الحال ليس خيارا عادلا في كل الأحوال لأنه ليس مجانيا!

ويبدو أن شارع الإعلانات في نيويورك لم يعد يمتلك السطوة بلا منازع للتحكم في مصيرها، السيطرة آخذة في التحول إلى وادي السليكون، وهنا تكمن المفارقة عندما تقدم مشاهدة مستمرة من دون إعلانات، لكن بمقابل! تمتع بمادة درامية أو مباراة رياضية من دون أن يفسد عليك معلن متعة الفرجة، وعليك أن تدفع مقابل هذه المتعة المسترخية. شركات الإعلانات بدورها ترفع صوتها المخاتل وتقول “نحن لا نهدف إلى إفساد متعة المشاهدين بقدر ما نقدم لهم عروضا قد تكون فاتتهم أو يبحثون عنها”!

مع أن الإعلان هو صناعة يصعب فهمها، حسب جون جابير الكاتب في صحيفة فايننشيال تايمز، لأن “القصة تدور حول أعمال عالمية تراوح قيمتها ما بين 1- 2 تريليون دولار سنويا عادة، لكن لا أحد يعرف حقيقة مقدار الأموال التي تدور في هذه الصناعة وحيث الشخصيات لا تزال مهمة لكن الفن يتم ابتلاعه الآن من قبل البيانات”.

لذلك لا يمكن أن تخسر هذه الصناعة أموالها، مثلما لا يمكن أن يتخلى المصنعون عن فكرة الترويج لبضاعتهم ويعملون المستحيل من أجل دخول عقول وجيوب المستهلكين.

الحل ثنائي وفق المفهوم الإعلامي للإعلان، نخلص المشاهدين من الإعلان بمقابل، وهو نوع من الإعلان المدفوع بلا إعلان! عبر عملية الاشتراك في قنوات الكيبل التلفزيوني كما تقدمها نيتفليكس وأمازون وياهو والعروض مستمرة….، ونعود لنخترق عقولهم عبر ملاحقتهم على الإنترنت!

الشركات الإعلانية تتعقب بطاقات الولاء الائتمانية والهواتف الشخصية لمعرفة العادات الشرائية ومقارنتها مع تفاصيل البيانات عبر الإنترنت.

يقول جابير “لا عجب في أن تلك الإعلانات تلاحقك أثناء تصفح الإنترنت فهي تعلم في الأصل طبيعة شخصيتك” لكنه يتساءل ما إذا كان المستهلكون سيتمردون فيما لو أدركوا مدى الملاحقة التي يتعرضون لها، لكنهم يلجأون إلى الموقف الذي يقول إن هذا صفقة عادلة. وإلا فمن الذي سيدفع ثمن الخدمات المجانية بطريقة أو بأخرى؟

سبق وأن حذر خبير متخصص بالأمن الرقمي من أن الهواتف الذكية تنصت إلى كل المحادثات التي يجريها المستخدمون، ثم تستغل ما تحصل عليه من معلومات لاستخدامها في مجال الإعلانات الدعائية.

وقال بيتر هينواي الباحث في شركة الأمن الرقمي “أستي ريسك”: إن الكلمات التي يلتقطها الهاتف تصل إلى تطبيقات مثل تويتر وفيسبوك وانستغرام، لتستفيد منها لاحقا في نشر إعلانات دعائية.

وهكذا صار التخلص من الإعلانات بالنسبة للمشاهدين نوعا من الإعلان المدفوع، وفي النهاية لا يوجد خاسر بين الشركات، ودائما على المشاهد أن يدفع لأنه يشتري استرخاء أعصابه، ومن لا يدفع عليه ألا يتذمر من الإعلانات التي تقطع متعة المشاهدة، بطريقة تزعج أفراد أسرته.

لم تعد القضية بضاعة فاسدة وإعلانا أنيقا كما نظر إليها جاك سيغيلا خبير الدعاية ومطلق حملة كبار السياسيين الفرنسيين، بالقول: مهما كنت عبقرياً فإنك لا تستطيع تسويق بضاعة فاسدة. بل تكمن القضية في كيف تتم عملية تخليص مشاهدي التلفزيون من الإعلانات بمقابل مادي، ومن ثم العودة إلى بطاقاتهم الائتمانية وهواتفهم الشخصية وحساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، والدخول إلى جيوبهم عبر بوابة الإنترنت الخلفية.

فكرة الباب الدور التي يلجأ إليها السياسيون، كانت فكرة شيطانية استثمرتها شركات الإعلان بطريقة “فلوس الشيطان في جيب إبليس”وبذريعة تخليص الجمهور من إزعاج الإعلانات أثناء المتابعة المشدودة للبرامج والمباريات، وتقديم بديل اشتراكات بقنوات بث بلا إعلانات، واستثمار الإنترنت كحديقة خلفية لبث الإعلانات.

وفي النهاية لم نتخلص بعد من فكرة إرغامنا على مشاهدة ما لا نحب.

المشاهدون البريطانيون أكثر الناس حظا في عالم بلا إعلانات، فهم يتمتعون بمشاهدة مستمرة في محطات “بي.بي.سي” من دون أن يفسد أحد عليهم المشاهدة ببضاعته الفاسدة أو المغرية.

وهم اليوم يتابعون مونديال روسيا من دون ضجيج متعلق بحقوق البث وأين نشاهد مباراة اليوم ومحاولة اختراق التشفير… وبالطبع من دون صداع إعلان. لذلك تبقى أعصابهم باردة، الأمر الذي لا يرضي الإعلانات المتدفقة والساخنة!