الحضور الفاضح لسمير قصير

ما تقرأه او ما تشاهده يبعث على الامل بان الصحافة العربية لم تمت بعد ولن تموت بسهولة.

بعد ثلاثة عشر عاما على اغتيال سمير قصير في بيروت، كان سمير حاضرا اكثر من ايه وقت. حضوره هذه المرّة ليس لبنانيا فحسب، بل هو ايضا عربي. سمير حاضر في فلسطين وسوريا والعراق واليمن وفي شمال افريقيا. يكمن حضوره في انهّ لا يزال يفضح، خصوصا في المرحلة الانتقالية التي تمرّ فيها المنطقة العربية كلّها.

يفضح حضور سمير قصير لبنانيا. هل كان سمير الذي اغتاله النظام الأمني السوري – الايراني، الذي استخدم في مرحلة معيّنة أدوات لبنانية معروفة، انّ رموز مرحلة ما قبل العام 2005، مرحلة ما قبل اغتيال رفيق الحريري ستطلّ برأسها مجددا؟ الأكيد انّه لم يتصور ذلك. لكنّه يستطيع تصوّر ان هذه الاطلالة في هذه المرحلة بالذات لا معنى لها ولا قيمة تذكر بعد انهيار النظام السوري، بل سوريا نفسها حيث لم يستمع بشّار الأسد الى أولئك الذين كانوا بالفعل يريدون انقاذ سوريا وتفادي سقوطها. كان سمير قصير على رأس هؤلاء. انّه يدرك حاليا ان ما فات قد فات وان لا مجال لإعادة عقربي الساعة الى خلف.

لم يقض بشّار الأسد على "ربيع دمشق" فحسب، بل قضى أيضا على كل القوى الحيّة في المجتمع. تلك القوى التي كان سمير يراهن عليها من اجل مستقبل افضل لسوريا نفسها، كذلك للبنان وفلسطين.

من يعتقد ان لسوريا مستقبل في لبنان وان في الإمكان استعادة ما قبل 2005، انّما هو ضحية العيش في الوهم ليس الّا. كلّ ما في سوريا ولبنان تغيّر منذ اغتيال سمير قصير قبل ثلاثة عشر عاما. كلّ شيء تغيّر بسبب الجهل الذي يعاني منه النظام الاقلّوي القائم في دمشق منذ العام 1970.

خرج النظام من دمشق في اليوم الذي خرج فيه من بيروت وسيخرج النظام الايراني من طهران في اليوم الذي سيخرج فيه من دمشق عاجلا ام آجلا. محزن، ان سمير قصير ليس هنا ليكون شاهدا على ما ادّت اليه "ثورة الأرز" او "استقلال 2005". يمكن ان تكون "ثورة الأرز"، التي فجّرها اغتيال رفيق الحريري والتي يرمز اليها يوم الرابع عشر من آذار- مارس 2005، فقدت معظم رونقها. لكنّ بعدها العربي، والسوري تحديدا، لم يأخذ مداه بعد.

كانت مشاركة كاتب المقال في اللجنة التحكيمية للجوائز الثلاث التي تمنح باسم سمير قصير في كلّ سنة فرصة للتعرّف على ذلك الجانب المثير في شخصية سمير قصير، أي سمير قصير الذي لا يزال يفضح منذ ذلك اليوم الذي عرّى فيه النظام الأمني السوري - اللبناني. لم يفضح سوريا ولبنان وممارسات سوريا في لبنان. فضح العراق أيضا. ففي الفيلم الوثائقي القصير لاسعد الزلزلي الذي فاز بجائزة سمير قصير لحرّية الصحافة - فئة التقرير السمعي البصري، ما يعطي فكرة عمّا آل اليه العراق. عنوان الفيلم القصير "أطفال داعش". تكمن خطورته في انّه يعطي فكرة عن عجز النظام القائم في العراق ممثلا بمسؤوليه وحتّى باعضاء في مجلس النواب عن فهم أي شيء يتعلّق بـ"داعش". هناك عقل "داعشي" آخر في مواجهة "داعش" وارتكاباته. لا يريد النظام في العراق سماع شيء عن "أطفال داعش" الذين صاروا معزولين عن العالم المحيط بهم عندما أقيم لهم مخيّم خاص بهم في احدى المحافظات العراقية. ما ذنب هؤلاء الأطفال الذين جاؤوا الى العالم جراء اغتصاب عناصر "داعش" للنساء في المناطق التي سيطروا عليها، في مقدّمها الموصل، ابتداء من صيف 2014 عندما كان نوري المالكي رئيسا للوزراء؟

يكشف الوثائقي وجود روح ومذهبية وعنصرية تتحكّم بالنظام العراقي والمسؤولين فيه. هناك جهل كامل بالقيم الحضارية السائدة في هذا العالم. من لم يكتف بالألم الذي يصدر عن أطفال عراقيين يسمّون "أطفال داعش" يصيحون باعلى صوت: "ما ذنبنا"، يستطيع قراءة مقال لعراقي شجاع آخر هو خالد سليمان عن "محاولة لتعديل الدستور بغية تشريع زواج الفتاة في عمر التاسعة". المقال مخيف بالفعل. هناك بلد اسمه العراق، كان فيه قانون للأحوال الشخصية وضع في العام 1959، ويعتبر من بين الارقى في المنطقة، يشهد محاولة لـ"جعل الاحوال الشخصية مثل الزواج والميراث والطلاق في يد رجال الدين، فيما يصبح القاضي مجتهدا للنص القانوني ولا تبقى له سلطة قانونية". من حسن الحظ، ان محاولة تعديل الدستور لم تمر بعد. لا يزال العراق يقاوم تشريع تزويج الفتاة في عمر التاسعة!

بين نحو مئتي مقال وتحقيق صحافي وفيلم قصير عرضت على افراد الهيئة التحكيمية لجائزة سمير قصير، كان هناك صحافيون متميّزون بالفعل. في مجال صحافة الاستقصاء برزت المصريتان أسماء شلبي، التي تحدثت عن "مآسي نساء في قرى الفيوم"، وصفاء عاشور التي عالجت مشكلة التلوث في بعض المناطق المصرية. تقول أسماء شلبي في التحقيق عن نساء في قرى الفيوم: "ازواج خارج الخدمة اتخذوا من أجساد زوجاتهم سلعة تباع وتشترى والثمن جنيهات معدودة". تستشهد بما قالت نجاة التي تقطن في قرية اسمها عشّة: "وصلوا صوتي انا عايشة مع ضرتين واثني عشر طفلا عيشة ضنك، ولو رجعت من غير فلوس سي رمضان (زوجها) بيطلع عيني".

ما تقرأه او ما تشاهده يبعث على الامل بان الصحافة العربية لم تمت بعد ولن تموت بسهولة. قلّ عدد الصحف، لكن الصحافيين المتميزين ما زالوا كثرا. يكفي مشاهدة الوثائقي المتميز للبناني محمد شريتح عن تجارة الأعضاء في لبنان للتأكد من ذلك. تكفي أيضا قراءة تحقيق لليمني اصيل سارية عن "زواج المقايضة في اليمن" لتكتشف حجم المآسي التي في اليمن، وهي مآس غير مرتبطة بالحروب الدائرة حاليا بمقدار ارتباطها بالتخلّف داخل المجتمع حيث "أجبرت فتاة في التاسعة عشرة من العمر على الزواج من شخص لا تعرفه في مقابل اقتران شقيقها باخت عريسها في سياق ما يطلق عليه اسم زواج "الشغار" او "المقايضة".

حتّى في الجزائر، لا يزال هناك صحافيون متميزون بكلّ المقاييس. يصعب إيجاد تلخيص دقيق لماهية النظام الجزائري افضل مما ورد في مقال ميلود يبرير وعنوانه: "مقعد في العتمة. النظام الجزائري اذ يولد في قاعة سينما". باسطر قليلة قال ميلود يبرير كلّ شيء: "ليس غريبا ان تكون اهمّ محطتين في تأسيس ايّ نظام سياسي وهما كتابة الدستور واختيار رئيس الجمهورية قد حدثتا في قاعة سينما. الاغرب انّ هذا النظام الذي ولد في قاعة سينما لن يبرحها ابدا".

يتعلّم المرء الكثير من سمير قصير وجائزته التي تؤكد انّه لا يزال حيّا وانّه لا يزال صاحب النظرة الثاقبة. يتعلّم الكثير من شجاعة الذين يعملون من اجل رفض الاستسلام للقاتل. على رأس هؤلاء جيزيل خوري والاتحاد الاوروبي الذي وفر الرعاية المطلوبة للجائزة عبر سفيرته في بيروت كريستينا لاسن.