الحل الإيراني في العراق

لم تتحسن أخلاق أو سلوكيات "الميليشيات الوقحة". الصدر هو من انقلب على ما استأمنه العراقيون عليه.

من حق إيران أن تفكر في مستقبلها. سيكون ثمن المواجهة مع الولايات المتحدة باهظا بعد انسحاب الأخيرة من الاتفاق النووي وتراجعها عن رفع العقوبات الاقتصادية.

لقد استفادت إيران كثيرا من الاتفاق النووي في تكريس هيمنتها على دول عربية عديدة، غير أن حصة العراق من تلك الهيمنة كانت هي الأكبر، بسبب تمكن الأحزاب الشيعية الموالية لإيران من الاستيلاء على السلطة السياسية والاستحواذ على ثروات البلد. أمر ما كان ليحدث لولا المخطط الأميركي الذي فرض نظام المحاصصة الطائفية والعرقية هناك بديلا عن دولة المواطنة المدنية.

لذلك لم تبذل إيران جهدا كبيرا في عملية تحويل رموز العملية السياسية في العراق إلى ذيول لها. ذلك لأن تلك الرموز كانت في حاجة إلى حماية خارجية لتمارس عمليات فسادها من أجل تدمير الداخل العراقي وهو مطلب أميركي ــ إيراني مشترك.

حاجة الطبقة السياسية العراقية إلى ظهير خارجي اتسقت مع الرغبة الإيرانية في تحويل العراق إلى محمية هي ليست في حاجة إلى أن تتخذ قراراتها بنفسها وبما يناسب مصالحها.

العراق بالنسبة لإيران ليس دولة مستقلة، ذات سيادة. بل هو مجموعة من الفرق الحزبية المتناحرة التي يحق لقاسم سليماني باعتباره ممثلا للولي الفقيه أن يتدخل متى يشاء لفض الاشتباك بينها.

وهو ما جرى مؤخرا حين تدخل سليماني من أجل انهاء الخلاف حول نتائج الانتخابات الأخيرة وذلك من خلال الغاء البرنامج الانتخابي للكتلة الفائزة واجبار تلك الكتلة على التحالف مع عدوها الذي يطرح برنامجا نقيضا.

من الطبيعي أن تفكر إيران في مصلحتها في العراق لا في مصلحة العراقيين. وهو ما يمكن تفهمه في ظل شعور إيران بأن الأوقات العصيبة التي ستمر بها ستجعلها في أمس الحاجة إلى الجبهة العراقية التي يمكن أن تقاتل وتبتز من خلالها العالم.

كان العراق ولا يزال بالنسبة لإيران هو غنيمة الغزو الأميركي.

مفارقة تمزج السخرية بالألم.

لقد يأس العراقيون من ولادة العراق الأميركي، ذلك الحلم الذي بشر به الكثير من مثقفي المشروع الأميركي العراقيين فكانت ولادة العراق الإيراني بمثابة الكابوس الذي استيقظوا عليه.

حسمت إيران موقفها في العراق في اتجاه منفعتها ولما يمكن أن يتضمنه وجودها في العراق من أوراق ضغط يمكن أن تستعمل في أية مفاوضات محتملة مع العالم. وهو موقف لا يمكنها التراجع عنه.

كل الجبهات الأخرى من لبنان إلى اليمن مرورا بسوريا تعتبر جبهات ثانوية أما العراق فإنه جبهة إيران الأولى والرئيسة.

ولكن العراقيين قالوا كلمتهم الرافضة لاستمرار الهيمنة الإيرانية في الانتخابات الأخيرة. وهبوا أصواتهم لمَن وعدهم بالعودة إلى العراق المستقل والحر الذي ينأى بنفسه عن إيران وحروبها. فهل قامت تلك الجهة بسرقة أصوات العراقيين وباعتها إلى إيران؟

الحل الإيراني الذي وافق عليه السيد مقتدى الصدر يشير إلى شيء من ذلك القبيل. لقد تم تضليل العراقيين باسم الوطنية من أجل أن تقوم دولة الحشد الشعبي في العراق.

لو صح ذلك الكلام فإن الصدر يكون قد ارتكب جريمة خيانة الشعب الذي وقع ضحية عملية خداع مارسها الصدر نفسه من خلال تصريحات سابقة ندد فيها بما اسماها "الميليشيات الوقحة" التي يتحالف معها اليوم.

لا أعتقد أن في إمكان أحد أن يقنعنا بأن تحولا إيجابيا طرأ على ميليشيات الحشد الشعبي بحيث صار التحالف معها ممكنا على أساس الثوابت الوطنية التي سبق للصدر أن وضعها أساسا لبرنامجه الانتخابي الذي اجتذب إليه الشيوعيين ودعاة الدولة المدنية.

فالحشد هو مجموعة الميليشيات الطائفية التي تأتمر بأوامر الولي الفقيه وهي ذراع إيران في العراق. كانت ولا تزال وستظل كذلك ما دامت إيران قادرة على فرض هيمنتها على الأراضي العراقية.

ولكن قد يكون ذلك التحالف عبارة عن زواج متعة، ارتكبه الصدر مضطرا لأسباب لم يفصح عنها بعد. احتمال من ذلك النوع يفرض نفسه بقوة في ظل عدم وضوح موقف رئيس الوزراء المنتهية ولايته حيدر العبادي الذي يتزعم هو الآخر كتلة برلمانية فائزة وهو الأقرب إلى إيران من الصدر.

ترى لمَ لم تتوجه إيران بحلها إلى إقامة تحالف بين الحشد وحزب الدعوة ممثلا برأسيه (المالكي والعبادي) وفضلت أن تتوجه إلى إنشاء تحالف يمكن أن يفجر العملية السياسية برمتها بسبب ما يمكن أن يحدثه من غضب شعبي جديد من نوعه؟

من المناسب لإيران أن تقوم بإفراغ النصر الذي حققه ائتلاف "سائرون" بزعامة الصدر من محتواه الوطني. تلك خطوة ضرورية من أجل إعادة الاعتبار لنظام المحاصصة الذي يتيح للأحزاب الطائفية السيطرة على الحكم والقرار السياسي والثروة في ظل بقاء الدولة ضعيفة ومرتهنة لإيران.

ما لم يُهزم المشروع الوطني من داخله فإن الحل الإيراني سيكون مهددا بالانهيار في أية لحظة. ولا يمكن أن تتحقق تلك الهزيمة إلا إذا تخلى دعاة ذلك المشروع عن الخطوط الحمراء التي فرضوها على ميليشيات إيران.

هنا بالضبط تُنجز الفضيحة التي تنتهي بموجبها شروط زواج المتعة وينفض التحالف بعد أن يكون الصدر قد اعترف علنا بخسارته على مستوى النزاهة في المحافظة على أصوات ناخبيه.