الصحافي ليس جزءا من القصة


الصحافيون أنانيون مثل أي إنسان آخر، وهم يمنحون أنفسهم دورا في القصص الإخبارية والإعلان عن مواقف تلغي فكرة الشاهد الطامح إلى حرية نشر المعلومات واحترام وعي الجمهور.

لم يكن جورج أورويل إلا محاولا أن يكون حياديا بتخليص ذاته من التأثير على كونه صحافيا في جملته الشهيرة “هناك أوقات لا يستطيع فيها الصحافي تجنب كونه جزءا من القصة” كان يريد أن يقول: الصحافي سمع وشاهد القصة وليس جزءا منها، ولا يملك الحق الأخلاقي أن يقحم نفسه كجزء فاعل أو هامشي في متنها.

الاستقلال التحريري والنزاهة هما أكبر أسلحة وسائل الإعلام في الدفاع عن خطابها أمام منافسة متزايدة، هذه ليست مجرد مسألة أخلاقية في العصر الرقمي، فجملة “ثق بي، أنا صحافي” لا يمكن إطلاقها لمجرد المزاح، الأمر أكبر بكثير من مصالح المعلنين والتجار ورجال الدين وأصحاب القرار السياسي.

لكن الصحافيين أنانيون مثل أي إنسان آخر، وهم يمنحون أنفسهم دورا في القصص الإخبارية والإعلان عن مواقف تلغي فكرة الشاهد الطامح إلى حرية نشر المعلومات واحترام وعي الجمهور.

لسوء حظ الصحافة، الأنانية أضحت مرحلة متأخرة قياسا لما يحدث في التلفزيونات العربية اليوم، هناك جيل إعلامي يمارس العبث الصحافي والتسطيح المريع والتخلي عن صناعة الأفكار العميقة والاكتفاء بالتكرار واستخدام مصطلحات ركيكة في التعبير وكأن اللغة باتت عاجزة، بل أن المحاورين على شاشات التلفزيون لم تعد من مهامهم صناعة الأسئلة، هم يتحدثون عن أنفسهم كشركاء في القصص أكثر مما يقدمون للمشاهد صورة عن منجز المُحاور!

عندما يكون الصحافي جزءا من القصة ينتهي نضال الصحافة الحرة من أجل حريتها. فإحدى مقدمات الاستبداد هي تقويض شرعية الإعلام المستقل. الهدف واضح: لفسح المجال لأجهزة الدعاية المتطرفة والحكومات الفاسدة وتحويل الصحافة إلى مشروع تجاري أو ديني، ليس من مهامه ربط المجتمع في ديمقراطية حرة من الأفكار والمعلومات.

وفي المحصلة هناك إعلام يتجاوز مفهوم التابع والمتبوع، بل أكثر إيغالا في التبعية، إعلام مطابق فعليا لفعل الحشد في صوره ومحتواه. من صنعه إذن غير الجماهير وإعلامها وفق نظرية غوستاف لوبون في كتابه “سيكولوجية الجماهير”.

اليوم الإعلام المعبر عن مصالح سياسية وتجارية ودينية، أكبر بكثير من إعلام مدافع عن حرية المجتمع في العالم العربي، الأمر الذي يعبر عن الارتداد والنكوص، إعلام يقدم نفسه لجمهور ليس بحاجة إلى مثل هذا التقديم!

من يساعدني بأمثلة عن وسائل إعلام عربية لا تضع نفسها جزءا من القصص السياسية؟

هذا الأمر لا يمكن أن يروق لجين مارتنسون الكاتبة بصحيفة الغارديان بتساؤلها عمّا إذا كان مثل هذا الكلام يقودنا إلى تحول الصحافي إلى رجل أعمال يفكر في المال أكثر ممّا يفكر في صناعة الرأي.

على الجانب الآخر ثمة جدل لا ينتهي بين الإعلام الغربي المستقل والسلطات التي تحاول تقويض حريته وفقا لمصالحها، الأمر الذي دفع ريتشارد سامبروك أستاذ الصحافة في جامعة كارديف، ورئيس مجلس وسائل الإعـلام المسـتقلة، إلى التركيز على الشقاق القائم والمتصاعد بين وسائل الإعلام والحكومات، لأن الشكوك لم تتراجع بشأن قدرة السياسيين على قبول مساءلة الحكومة، بينما تلقي حرية التعبير بظلالها على وجوب التزام وسائل الإعلام برسالتها.

سبق وأن لعب كاتب السيناريو آرون سوركين على جملة فيلمه الشهير “القليل من الرجال الفاضلين” عندما استبدل كلمة الصحافيين بالرجال! وتمادى في وصفه الصحافة بالمضللة أكثر من القراصنة أنفسهم، وهو يتحدث عن نشر معلومات شخصية استحوذ عليها متسللون إلى حسابات إلكترونية لنجوم مجتمع.

وتأسى سوركين الذي أنجز كتابة سيرة مؤسس شركة آبل ستيف جوبز، على الصحافة واصفا إياها بمساعدة المجرمين بمجرد نشر أي معلومة استحوذ عليها الهاكرز.

من المفيد هنا، التذكير بكلام لرئيس حزب العمال البريطاني السابق إد ميليباند، عندما كان سياسيا في مواجهة الصحافة “ميليباند اليوم صحافي يقدم برنامجا حواريا إذاعيا من هيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي”. عندما كان يرى أنه ليس بمقدور أحد إحداث أي تغيير إذا كانت فكرة مثل إن كل السياسيين مرتشـون وغير شرفاء، سائدة فـي كل ما تكتبه الصحف.

يصعب على ميليباند السياسي بالأمس والإذاعي اليوم، الاستمرار في الدفاع عن فكرته تلك، لأن الصحافة حسب آلن روسبريدغر رئيس تحرير صحيفة الغارديان السابق، لا تتسول أخبار التجسس كما يعتقد بعض السياسيين أو غيرهم.

ميليباند صحافي اليوم، لكنه بقي يحتفظ بصفته السابقة كجزء من تاريخه الشخصي، أحتاج هنا لمن يساعدني على الإتيان بأمثلة عن سياسيين عرب بعد أن يغادروا مواقعهم في السلطة! هل ينصب همهم على جمع الثروات، هل يصابون بالترهل والكسل لمتقاعدين لديهم ما يكفي من الأموال؟ كم من السياسيين العرب عاد إلى مهنته بعد مغادرته موقعه؟ هل يوجد لدينا معادل موضوعي لميليباند السياسي بالأمس والصحافي اليوم، أو جورج أوزبورن وزير المالية في حكومة المحافظين ورئيس تحرير صحيفة ايفينيغ ستاندارد اليوم؟