الصومال.. بين الصوفية والإسلام السياسي

بلاد غرقت في الصراع والدين في الواجهة

اخترقت الطرق الصوفية الحواجز القبلية وتجاوزت بمسلكيتها الأخلاقية أطر التعصب ساعية بكل قوتها وعلي نحو عفوي لإيجاد تدامج وطني عام يشمل كل هذه الكيانات وكانت الحركات الصوفية الصومالية العابرة للحدود المزيفة بين الصومال وإثبوبيا أو بين الصومال وكينيا هي الرد الوحيد علي التجزئة الاستعمارية للطيف الصومالي.

أما ارتباط الحركة الصوفية بالسياسة، فنجد أنه كان ضعيفا في الساحة الصومالية. ولعل مرد ذلك طبيعة التنشئة الصوفية التي لاتكترث بالسياسة، وتشيطن ممارسة السياسة وتولي اهتمامها في الجانب الروحي.

انصبت جهود علماء الصوفية قبيل الاستقلال في ترسيخ إسلامية وعروبة الصومال، حيث واجهوا مخططات الاستعمار التي كانت ترمي إلى إقصاء الإسلام واللغة العربية، وردوا كثيراً من مخططات الاستعمار على عقبها بالتعاون مع رواد حزب وحدة الشباب.

وفي ظل الحكومات المتعاقبة في الحكم ما بين 1960-1990م لا نلاحظ دوراً صوفياً فعالاً، ما عدا محاولات النظام العسكري لكسب الود الصوفي وقيامه بتعيين بعض رموز الصوفية لمناصب عدة في وزارة الشؤون الدينية والأوقاف.

في بدايات الستينيات من القرن الماضي الذي تزامن مع استقلال الصومال، وظهور الدولة العصرية بمؤسساتها واستحقاقاتها السياسية والاجتماعية، والانفتاح على العالم الخارجي بدأت رياح ما عرف ب”الصحوة الإسلامية” تهب في الساحة الصومالية وتُحدث بصمات واضحة على جميع مجالات الحياة في البلاد، وصاحب هذه الظاهرة تيارات فكرية متعددة تقاطعت مع خطاب التجديد والإصلاح.

ويعد التيار السلفي صاحب الأسبقية في دعوة التجديد الديني في الصومال الذي تسرب عبر العالم الشيخ نور الدين علي علو والذي قدم من مصر في بدايات الخمسينيات وخاض مجادلات عقدية وفكرية مع التيار الصوفي منتقدا عقائد الصوفية وطقوسها لا سيما الجانب المرتبط بالتضرع للأضرحة وكرامات الأولياء، وصاحب في ذلك أيضا بروز النخبة ذات التعليم العالي التي نزعت نحو ابتعاد الفكر عن التصوف متهمة إياه بالتخلف والانكفائية.

ويبدو أن ما بعد السبعينيات من القرن الماضي لم يتجاوز دور الصوفية على كونه ظاهرة احتفالية بعد أن التصقت بثوب التقليدية وتكلست عن إنتاج أي ممارسات علمية أو اجتماعية أو سياسية إيجابية يمكن أن تمثل خطوات وآليات مقابلة لتكتيكات وأساليب خصومهم.

أسباب تراجع الدور الصوفي

ضعف حجج الجانب الصوفي في الدفاع عن سلوكيات يطلق عليها خصومها “شركيات” أو “خرافات” و”خزعبلات”، وكذلك فإن المناخ الاشتراكي المحتقر لمظاهر التدين -مهما كان- وخصوصاً الإيمان بالخوارق والكرامات ضرب الصوفية في مقتل، حيث ظهر من منظور السلطة وقتها أن التصوف هو شغل التعساء والكسالى والساقطين من ركب الحياة إلى كهوف العزلة، وأصبح تهمة شنيعة، ولونا من ألوان التقاعد العقلي المبكر، وأصبح الصوفي هو الرجل الكسول..‏ رث الثياب‏..‏ قليل العلم‏..‏ المتسول‏..‏ الذي يفترش الأرض ويلتحف السماء‏..‏ ويجد سعادته في الموالد والطرقات‏..‏ واستقرت هذه الصورة في الأذهان وشاعت‏ وسيطرت،‏ وأصبح من الصعب تغييرها بل رفض الناس غيرها‏.

تصاعد قوة التيار السلفي المسلح، والذي ركز على مواطن الضعف الظاهرة لدى المتصوفة، كالنذر للقبور والطواف حولها، وادعاء كرامات الأولياء، والتملق للسلطة وقصائد الشاعر الصومالي أبشر نور فارح “بعدلي” -وهو أحد تلاميذ الشيخ نور الدين علي الذي لعب دورا كبيرا في إضعاف كفة الطرق الصوفية- التي امتلأت بأسلوب مشحون بالتندر والفكاهة اجتذب الكثيرين من حظيرة التصوف.

إن الجماعات الإسلامية استقطبت منذ بدايتها العناصر الشابة، وطلاب الجامعة، وحملة الشهادات المرموقة؛ بعد أن قدمت نفسها كحملة لحامية الإسلام من التشويه الداخلي المتمثل في الطرق الصوفية، ومن القوى العالمية المتربصة به كأميركا، والاتحاد السوفيتي، ومتأثرة بخط الحركة الإسلامية الصاعد –آنذاك- في بلاد المنبع كمصر، والسعودية، والصومال، التي تعد روافد أساسية للحركات الإسلامية في الصومال.

النظام الحاكم أيقن أن من مصلحته وقوف الصوفية بجانبه في مواجهة القوى الإسلامية المناوئة له، ولذا عمل طوال الوقت على إلهاب وقودها ليظل مشتعلا، وهؤلاء كانوا يفتون بجواز إعدام النشطاء الإسلاميين، كما منعت وزارة الشئون الدينية -التي كان تتحكم فيها المؤسسة الصوفية- إدخال الكتب التي تناصر الأفكار السلفية مثل كتاب التوحيد وشروحه مثل فتح المجيد.

التيار الصوفي أصبح سيئ السمعة بالتصاقه بالنظام الذي نشأت عدة جبهات لمحاربته وعارضته العديد من القبائل، وهذا لا شك أفقده التعاطف الشعبي، وأيضا فإن التيار الصوفي لم يلعب دورا كبيرا أثناء الحرب الأهلية في مجالات التعليم والإغاثة، بخلاف الجماعات الإسلامية التي قامت بدور فعَّال في مجال الإغاثة، مستفيدة من الدعم القادم من بلاد الخليج وتفردهم بإدارة المعونات الإغاثية.

السمة الغالبة على الطرق الصوفية في الصومال هي ظاهرة ‏(‏الانشقاق‏)‏ مثلها مثل بعض الجماعات الإسلامية المعاصرة، فمن رحم طريقتين هما: القادرية، والأحمدية، تولدت عشرات الطرق، ربما تماشيا مع القاعدة الصوفية الأصيلة‏:‏ “الطرق إلى الله‏ على عدد أنفاس البشر”،‏ أو أن الأمر لا يعدو تنوعا في أساليب التدريس والتعليم والتعبير عن الحب، وهو أمر لصالح الصوفية وليس عليها.

الصوفية والانخراط في العمل العسكري

بدت بعض طرق الحركة الصوفية في العشرية الأخيرة تمارس تغيرا شاملا في مضامين أفكارها وتقتحم حقل العمل المسلح من أوسع أبوابه، حيث ظهرت حركة صوفية مسلحة تحت اسم “أهل السنة والجماعة” في أواخر عام 2008م في المناطق الوسطى واصطدمت مع حركة الشباب والحزب الإسلامي في مناطق وسط الصومال على خلفية قيام الأخيرتين على نبش مقابر بعض أقطاب علماء الصوفية وهدم مزارات في أكثر من منطقة وحظر المناسبات الدينية التي تعج بها الساحة الصوفية.

ففي الوهلة الأولى ظهرت جماعة “أهل السنة والجماعة” أنها ليست انتفاضة عاطفية لبسطاء من المجاميع الصوفية ثاروا على خلفية هتك حرمات رفات مشايخهم وإنما هي واجهة مسلحة تتمتع بمصادر تمويل وتسليح منظمة نظرا للتقدم العسكري السريع الذي حققوه على حساب خصومهم، والقوة العسكرية الهائلة التي ظهرت في حوزتهم، مما مكن الحركة من السيطرة على عدة مدن في وسط وجنوب الصومال في وقت قياسي، وإلحاق الهزيمة بخصومهم وإرغامهم على التقهقر أمام زحف مسلحي أهل السنة والجماعة في أكثر من مواجهة.

وفي ظل هذا الصراع المسلح، حاول كلا الطرفين إضفاء الشرعية على قضيته، فحركة الشباب أصرّت على أنها لا تقاتل مجاميع صوفية وإنما تقاتل من وصفتهم “بمرتزقة” مدعومين من الحكومة الإثيوبية، وجماعة أهل السنة والجماعة من جانبها حاولت تبرير حربها ضد الشباب بوصفهم تكفيريين مدعومين من جهات خارجية لنيل مقدسات الأمة وتراثهم الديني.

السؤال الذي ينبغي أن يشغلنا هو: كيف تمكّنت جماعة حديثة مثل هذه الجماعة أن تواجه حركة الشباب والحزب الإسلامي هذه الفترة، خاصَّة أن وجودها كحركة مسلحة لم يستغرق طويلا، وتعود أفكارها إلى الفكر الصوفي المعروف بقطيعته الكاملة مع العنف أو حمل السلاح طوال مدة الحرب الأهلية، مما يجعلنا نفترض أن هناك عوامل خارجية وداخلية تقاطعت مع الجماعة في ضرب حركات السلفية المتطرفة.

مستقبل الصوفية

على الرغم من التراجع الصوفي في أكثر من مجال من مجالات الحياة العامة في الصومال، وعدم تمتعه بالتفاف جماهيري كبير حاليا، ورجحان الكفة لصالح التيارات الإسلامية حاليا، إلا أن الفكر الصوفي ظل وسيظل كامنا ثقافيا لكثير من مكونات الشعب الصومالي التي ما زالت تحتفظ ببقية من الحنين الخافت إلى الطرق التقليدية. ومن السهل أن تنتقل إليه حين تستعيد دورها المؤثر، وتفعِّل العديد من المقومات الإيجابية الكامنة في التصوف، وتعمل جنبا إلى جنب مع الحركات الإسلامية المعاصرة بشقيها السلفي والإخواني، متسلحة بمشروع نهضوي أو تعبوي يساهم في تحقيق الأمن والاستقرار للشعب الصومالي، ويمكنه من تحقيق حلمه بقيام دولة قادرة على بناء صرح مجتمعي يحقق متطلبات النهوض والإقلاع الحضاري، بعد أن انكفأ المشروع الوطني الصومالي طويلا في دوامة الحرب الأهلية.

وفي ظل تحول الصراع الصومالي ليعبر عن حالة من الاستقطاب الواضح بين جماعات الإسلام السياسي المتصارعة، هناك ما قد يرشح جماعات الصوفية مثل حركة “أهل السنة والجماعة” أن تقدم نفسها كواجهة صوفية تمثل مصالح الطرق الصوفية في الصومال وتتقاطع المصالح مع أي جهة داخلية أو خارجية تناصب العداء للمجاميع السلفية المسلحة مثل حركة الشباب والحزب الإسلامي ومن خلال ذلك التقاطع المصلحي، قد تكتسب الحركة دعما عسكريا وسياسيا واقتصاديا من أطراف إقليمية ودولية همها الأكبر ينصب في محاصرة التطرف الإسلامي في الصومال.