تفوق الرؤية المصرية في الأزمة الليبية

غسان سلامة أضحى أقل خيالا مما كان عليه منذ توليه إدارة الأزمة. بدأ يقترب من معرفة الأوزان النسبية لكل طرف.

المتابع لتطورات المشهد في ليبيا، يستطيع القول أن مصر اقتربت من الأزمة بدون أجندات خفية. منذ البداية تقف مع أمن واستقرار هذا البلد الحيوي. رأت مبكرا أن الجيش الوطني الليبي رمانة الميزان الصلبة. لم تنجرف وراء حرب عصابات أو ميليشيات. تعاملت بمسئولية مع المتشددين الإسلاميين وأدركت حجم خطورتهم. لم تفرق بين متطرفين ومؤدلجين.

عندما انجرفت بعض القوى وراء استرضاء هؤلاء، تمسكت مصر بأنهم جزء من الأزمة وليس وسيلة لحلها. وقفت دوائر خارجية تتفرج أو تدعم الإرهابيين، بينما أخذت القاهرة على عاتقها مهمة محاربتهم وفضحهم أمام العالم.

النتائج التي تحققت خلال الفترة الماضية، تؤكد أن هناك تحولات حدثت في الأزمة الليبية، وجهودا مصرية بذلت لتتخلى بعض القوى عن التشبث بمقارباتها الفاشلة التي تعاملت مع ليبيا على أنها أزمة عادية، دون مراعاة لتوازنات القوى، وبتجاهل بالغ لمفتاح الحل الرئيسي المتمثل في دعم وتوحيد المؤسسة العسكرية الليبية.

لم يكن من السهل أن تتغير رؤى بعض الجهات، ما لم يقترب أصحابها من فهم أبعاد الأزمة، ويخفق الضجيج الذي حدث من قبل بعض الأطراف الدولية في وضعها على مسار صحيح. لم تكن الأصوات الزاعقة مثمرة، فمن أطلقوها نظروا للأزمة على أنها أشبه بنزهة سياسية، أو يمكن استرضاء هذا ومعاقبة ذاك وتتغير المعادلة بضغطة زر واحدة.

ما حدث في ليبيا أثبت أن أزمتها أشد تعقيدا، بحكم طبائعها الأمنية والسياسية والاجتماعية، التي تحتاج لفهم خاص للتركيبة الداخلية وعلاقاتها المتشابكة. الشعب الليبي يصعب تصنيفه على أنه مشرقي أو مغربي أو حتى أفريقي، الهوى.

شعب بسيط للدرجة التي تغريك بسهولة اقناعه، وصعب للدرجة التي يستحيل معها تغيير قناعاته. هو باختصار مزيج من هذا وذاك. الأمر الذي فهمته مصر وتعاملت معه باقتدار، مكنها من معرفة مكامن القوة والضعف في الأزمة.

غالبية التصورات التي قدمتها أطراف إقليمية ودولية، لم تلامس جوهر الأزمة، المتمثل في خصوصيتها، مقارنة بأي أزمة أخرى في المنطقة. مصر الوحيدة التي تدرك أبعادها. تعاملت معها بحنكة ومن منطلق الرغبة الصادقة في تسويتها، قبل أن تتزايد تداعياتها. لم تسع للاستثمار فيها أو توظيفها، كما فعل غيرها.

هذه واحدة من نقاط فهم الأحداث التي أدت إلى مزيد من الانسداد. كلما تبنت الأمم المتحدة خطابا وجدت أمامها تلالا من العقبات. عندما سعت بعض القوى لطرح مبادرات سياسية حاصرتها أزمات من جهات مختلفة. حتى التلويح بتدخلات عسكرية لم يكن كافيا للبناء عليه والوصول لتسوية ناجحة.

التحولات التي ظهرت في مواقف بعض القوى مؤخرا، ليست هينة، لأنها مقدمة لتفاعل من نوع جديد مع أزمة تبدو مثل كرة اللهب. كل طرف يحاول أن يقذف بها في وجه طرف آخر، وهو محكوم بتقديرات بعيدة تماما عن مصلحة الشعب الليبي.

مصر امتلكت فهما عمليا وفكرا رصينا. قامت بتحركات متعددة، وعلى مستويات أمنية ودبلوماسية متباينة، لوضع الأزمة على الطريق الصحيح. ضبطت بخشونة ونعومة معا بعض التوازنات المختلة. بدأت بعض القوى الدولية تقتنع بأهمية رؤيتها وتحرص على التنسيق والتعاون معها لتحريك المياه الراكدة.

كان البيان الذي أصدرته الولايات المتحدة وفرنسا وإيطاليا وبريطانيا، الخميس الماضي، نقلة مهمة. كشف عن عمق التغير في طريقة الإدارة. فبعد وقت من الشد والجذب بين باريس وروما على مناطق النفوذ، خرجت واشنطن عن ترددها، وشهرت ما يمكن وصفه بـ "الفيتو"، لأن التعامل مع الأزمة كاد يدخل مرحلة العبث، وكأن ليبيا لا تزال مستعمرة لهذه أو تلك.

قراءة مقدمات ومضامين البيان الرباعي، تشير إلى أننا أمام تغير يفتح المجال لتسوية سياسية جادة، لأن بعض القوى بدأت تعي ضرورة وضع الأمور في نصابها، في مقدمتها تثمين الدور الذي يلعبه الجيش الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر، في ضبط الأمن والاستقرار، وهو ما شددت عليه القاهرة خلال السنوات الماضية.

الاعتراف بأن هناك توزيعا غير عادل للثروة بين الغرب والشرق يجب تصويبه، كان نقطة محورية. التسليم بأن طريقة إدارة المصرف المركزي لموارد الشعب الليبي غير منصفة. وهذا انتصار ستكون له نتائج سلبية على قدرة القوى المسلحة غير الشرعية في الصمود الفترة المقبلة، بل والنظر بوضوح إلى أن الميلشيات الإسلامية تسببت في حالة عدم التوتر السائدة.

كما أن عملية إجراء الانتخابات، واقتناع الأطراف الفاعلة أخيرا بتوفير الأجواء المناسبة لها، عملية في غاية الأهمية. الميل ناحية تشكيل حكومة وطنية للإشراف عليها، سوف ينهي الاستقطاب الراهن، ويضاف إليها تمكين القوات المسلحة من التأمين وضمان تنفيذ النتائج.

بالطبع لم تكن القوى الكبرى الأربع، تغير مواقفها وتلتقي حول رؤية أقل ارتباكا، ما لم تكن متأكدة أن تعاملها التقليدي يؤثر على مصالحها، ويفضي إلى مزيد من الانفلات والفوضى، ولن يصلح معه أي استرضاء أو مسكنات أو حتى ضغوط عسكرية.

لذلك بدأت تنظر للمسألة بقدر من الموضوعية، وتضاعف التنسيق مع مصر، بعد أن اكتشف مسئولون في الدول الأربع أنهم خضعوا لفترة طويلة لرؤية مجموعة من الهواة لم يحسنوا قراءة الأوضاع في ليبيا.

الخطاب الذي ألقاه غسان سلامة، مبعوث الأمم المتحدة إلى ليبيا، الاثنين الماضي، ينطوي على تغير لافت. الرجل أضحى أقل خيالا مما كان عليه منذ توليه إدارة الأزمة. بدأ يقترب من معرفة الأوزان النسبية لكل طرف، أو بمعنى أدق يتخلى قليلا عما كان يعتبره ضمن ثوابته الأساسية التي يصعب المساس بها. بدأ يشعر أن الولايات المتحدة غير راضية على توجهاته، بعد تعيين سفيرتها في طرابلس استيفاني وليامز، نائبة له في ليبيا.

ضبط المعادلات بدقة من أهم العوامل التي تقود إلى الاستقرار في ليبيا. السعي لتضخيم دور بعض الأطراف لخدمة أهداف معينة لم يكن مجديا.

جماعة الإخوان التي تحولت إلى رأس حربة في ليبيا، بدأت تظهر على حقيقتها، ومرجح أن يتغير تعامل بعض القوى معها، عقب تحولها إلى عبء جراء انخراطها الواسع في دعم الميلشيات التي أصبحت مشكلة تبحث بعض القوى عن وسيلة لحلها، والتفكير في فرض عقوبات على قياداتها التي تريد الهروب من المحاسبة. بالتالي فالانحياز لرؤية مصر سوف يكون مدخلا رئيسيا للاقتراب من حل الأزمة سياسيا.