حرب حزيران 1967 بين روايتين

لم تتغير موازين القوى منذ هزيمة 1967 وحتى اليوم. وكل مشاريع السلام تبقى عرجاء طالما ميزان القوى يبقى لصالح إسرائيل.

الصراع بين الأمم له أوجه متعددة منها الصراع على الرواية التاريخية للأحداث الكبرى، حيث هذه الرواية تلعب دورا في المخيال الشعبي الجمعي وفي تَشَكُل الهوية ونظرة الشعب لذاته وللآخرين كما يُبنى عليها سلوكيات ووقائع. كل الدول تحاول أن تؤسِس لرواية أو تاريخ تعَظِّم من شأنه الأمة وتقلل من قيمة الخصم وتبرر من خلاله سلوكياتها الآنية والمستقبلية. في هذا السياق تأتي الرواية العربية للحروب العربية الإسرائيلية الثلاثة، 1948، 1967، و1973 في مقابل الرواية الإسرائيلية.

ما نود الحديث عنه الآن هو حرب حزيران 67 وتمحيص ومراجعة الروايتين العربية والإسرائيلية بشأنها.

في فجر الخامس من حزيران 1967 قامت إسرائيل بهجوم خاطف على مصر وسوريا والأردن وفي اليوم الأول دمر الطيران الإسرائيلي غالبية طائرات الاسطول الجوي المصري والسوري والأردني وعدد من الطائرات العراقية بالإضافة إلى تدمير أهم المواقع العسكرية الإستراتيجية. وخلال ستة أيام تمكنت إسرائيل من احتلال الضفة الغربية وسيناء والجولان بالإضافة إلى قطاع غزة وبذلك زادت مساحة ما بيدها من أراضي إلى ثلاثة أضعاف ما كان معها بعد حرب 48 حيث أصبحت تسيطر على 89,395 كم مربع.

الرواية الإسرائيلية تقول بأن إسرائيل تحركت عسكريا لأن العرب وخصوصا مصر كانوا يستعدون للحرب على إسرائيل بل والقضاء عليها ورمي اليهود بالبحر وبالتالي فإن إسرائيل تحركت ضمن سياسة الدفاع عن النفس. وقد دعمت إسرائيل مزاعمها بتصرفات وتصريحات كانت تصدر عن الطرف العربي منها: مساعي العرب لتحويل مجرى نهر الأردن لمنع إسرائيل من الاستفادة من مياه النهر حيث التأمت قمة عربية في القاهرة 13-17/1/1964 خصوصا للبحث في مخاطر محاولات إسرائيل تحويل مجرى نهر الاردن وضرورة التصدي لها، إعلان جمال عبدالناصر يوم 17 مايو 1967 عن إغلاق مضائق تيران في وجه السفن الإسرائيلية مما اعتبرته إسرائيل بمثابة إعلان حرب. في يوم 19 مايو وقبل أسبوع من الحرب طلبت مصر سحب القوات الدولية المرابطة في قطاع غزة وعلى الحدود المصرية الإسرائيلية، دعم العرب لتأسيس منظمة التحرير الفلسطينية التي تطالب بتحرير فلسطين وإنهاء دولة إسرائيل، وتصريحات الإعلام العربي وخصوصا المصري الذي يدعو لتدمير إسرائيل وأن الجيوش العربية تستعد لتحرير فلسطين وأنها تملك صواريخ القاهر والظافر الموجهة لإسرائيل وقد برز في هذا السياق المعلق السياسي أحمد سعيد.

لا شك أن العرب كانوا رافضين لوجود دولة إسرائيل من منطلقات دينية وسياسية قومية كما لم ينسوا الهزيمة المخزية للجيوش العربية أمام العصابات الصهيونية في حرب 48 وما اقترفته بحق الفلسطينيين من جرائم، كما لا يمكن نكران أن الخطاب الرسمي كان يُعلي من وتيرة العداء لإسرائيل. ولكن، كل مُلم بحقيقة الأنظمة العربية وقدراتها وعلاقاتها الدولية يدرك جيدا أن لا عبدالناصر ولا أي من الزعماء العرب كان راغبا في الدخول بحرب ضد إسرائيل، وبالنسبة لعبدالناصر تحديدا فلم يذكر ولو مرة واحدة أنه يريد تدمير أو انهاء دولة إسرائيل وهذا ما ذكره لوفد فلسطيني التقى به قبل الحرب حيث قال لهم عبدالناصر حرفيا: "من يقول لكم إن عنده خطة لتحرير فلسطين يضحك عليكم". كان الخطاب المتوتر بشأن إسرائيل موجها للجماهير العربية أكثر مما هو موجه لإسرائيل، كما لم يكن الواقع السياسي والعسكري للدول العربية يسمح لها بمباشرة حرب مع إسرائيل.

فكيف سيخوض العرب موحدين حربا ضد إسرائيل والعلاقات البينية بينهم في أسوأ حالاتها حيث فشلت كل المشاريع الوحدوية والعرب منقسمين ما بين المعسكر التقدمي والتحرري بقيادة عبدالناصر والمعسكر اليميني المحافظ بقيادة المملكة العربية السعودية، وكل دولة منها منشغلة بمشاكلها وهمومها الداخلية؟ مصر الناصرية تواجه تحديات الوضع الداخلي الاجتماعي والاقتصادي والسياسي كما أنها متورطة بالحرب في اليمن، وسوريا تلهث وراء الاستقرار حيث تتوالى الانقلابات العسكرية والمكائد السياسية، والأردن وعلاقاته المعروفة مع الغرب شأنه شأن غالبية الدول العربية الأخرى.

كانت إسرائيل تعرف كل ذلك والأجهزة الاستخباراتية الغربية كانت تعرف ذلك وتُعلِم إسرائيل بحقيقة القدرات التسلحية للعرب. وعليه فإن الرواية الإسرائيلية التي تبرر الحرب بأنها للدفاع عن النفس ولمنع عدوان عربي وشيك رواية غير صحيحة. وفي اعتقادنا أن إسرائيل كانت ستقوم بالعدوان ولو بعد حين حتى بدون وجود هذه المبررات والذرائع.

قامت إسرائيل بالحرب لأنها تريد استكمال المشروع الصهيوني الذي بدأ مع حرب 1948 والتي سموها حرب التحرير، وهو المشروع الذي لا يكتمل من وجهة نظر الصهاينة إلا بالضفة الغربية أو يهودا والسامرة قلب الدولة التوراتية اليهودية التي يدعونها، ومن خلال تعديلات حدودية تحفظ أمن دولة إسرائيل الجديدة، وهذا لا يتحقق إلا باحتلال سيناء والجولان وغزة.

ومن هذا المنطلق يمكننا فهم لماذا وبعد أكثر من خمسين عاما على الحرب فإن كل القرارات الدولية ومشاريع واتفاقات التسوية السياسية التي تطالب بالانسحاب الإسرائيلي من الأراضي العربية المحتلة قد وصلت لطريق مسدود.

قد يقول قائل إن إسرائيل وقعت اتفاقات سلام مع مصر في كامب ديفيد 1979 ومع الفلسطينيين في اوسلو 1993 ومع الاردن في وادي عربة 1994، وهذا كلام صحيح. ولكن ماذا كانت النتيجة. مصر استعادت سيناء عام 1981 بعد حرب اكتوبر 1973 ولكن من خلال مفاوضات وليس من خلال الحرب نفسها وبشروط أهمها اعتراف مصر بإسرائيل وضمان أن لا تشكل سيناء مصدر تهديد لأمن إسرائيل. والأردن اعترفت بإسرائيل دون أن تستعيد الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية. والفلسطينيون لم يجنوا من اتفاقية أوسلو سوى سلطة هزيلة لم توقف سياسة الاستيطان والتهويد ولم تستطع ردع أو وقف إسرائيل وسياستها الاستيطانية والتهويدية.

لأن إسرائيل دخلت حرب 1967 وهي تعرف ما تريد، وما تريده هو التوسع والاحتلال، وحيث إن موازين القوى منذ 67 حتى اليوم تميل لصالح إسرائيل، وحيث إن الأمم المتحدة منذ تأسيسها إلى اليوم تعتبر إسرائيل فوق القانون الدولي وخارج المحاسبة الدولية، كما أنها لا تستطيع التمرد أو تجاوز الفيتو الأميركي، فإن إسرائيل لن تتراجع عن مكاسبها في حرب حزيران إلا بالقوة من خلال تغيير موازين القوى لصالح العرب، أو من خلال تغيير موازين القوى الدولية بما يُضعف السيطرة الأميركية وبما يغير من تركيبة الأمم المتحدة وطريقة تعاطيها مع إسرائيل.