حرية الدراما وحرية الصحافة في مصر

العاملون في الدراما هذا العام، أثبتوا أنهم أكثر ذكاء من العاملين في الصحافة.

المتابع لبعض المسلسلات المعروضة حاليا على عدد من الفضائيات، يستطيع أن يضع يده على كثير من نقاط القوة والضعف في عدد من مناحي الحياة. هناك أعمال تعكس الواقع الحقيقي، بكل انجازاته واخفاقاته. ربما توجد مبالغات في القضايا التي يتم طرحها، غير أن من ينظر لها بروية يجدها تقدم صورة مصغرة لأشياء كثيرة تدور حولنا.

القضايا التي تم التعرض لها متعددة وتحتاج لصفحات. لذلك سيتم التركيز على زاوية واحدة، وهي ارتفاع درجة الحرية التي تتمتع بها الأعمال الدرامية، مقارنة بالصحافة. ما يؤكد أن المسئولين عن هذه وتلك لهم دور كبير في توسيع وزيادة الحرية المتاحة.

التجربة علمتنا أنه لا يوجد رقيب مباشر لكل من يكتبون في الصحافة أو من يقدمون برامج في الفضائيات. نحن الذين نخترع بأنفسنا الرقابة الصارمة ونلعب دورا مهما في تحديد السقف. الحكومة، أي حكومة، تتصور أن مصلحتها تكمن في عدم توجيه انتقادات لها إنما تقع في خطأ. الخطأ الأكبر أن هناك من يستجيبون أحيانا دون أن تطلب منهم ذلك، أملا في كسب ودها وعطفها أو تجنب غضبها.

مياه كثيرة جرت في حقل الصحافة خلال الفترة الماضية، صبت في محاولات الحكومة الهيمنة على مفاصلها الرئيسية. بالاستحواذ والسيطرة تارة، والتدجين والتكبيل تارة أخرى. هذا كلام غير دقيق وتشوبه بعض المغالطات. نردده لتبرير الأخطاء، لأنه يوجد فضاء رحب اسمه مواقع التواصل الاجتماعي أصبح ملاذا لكل من يتصور أن مساحة الحرية قد ضاقت.

العاملون في الدراما هذا العام، أثبتوا أنهم أكثر ذكاء من العاملين في الصحافة. نجحوا في توظيف ملكاتهم التقنية وتمكنوا من طرح قضايا متنوعة لجذب شريحة واسعة من الجمهور، لا تمتلك مثلها وسائل الإعلام بجميع أطيافها.

بعض الأعمال الدرامية بذلت جهدا كبيرا لتقديم صورة ناصعة لرجال الشرطة. لكن أيضا هذه الأعمال وجهت انتقادات بالغة لهؤلاء. وكما قدمت نماذج خارقة للعادة، قدمت أخرى فاسدة. هم بشر من لحم ودم. الانتقادات لم تستثن أحدا، بل طالت قيادات كبيرة وأجهزة حساسة.

مسلسلات "رحيم" و"كلبش 2" و"طايع" و"أيوب" مثلا، تطرقت لموضوعات مختلفة. مثل غسيل الأموال والإرهاب وتهريب الآثار وفساد الكبار، والتشابكات التي تدار بها العمليات القذرة، بينها إشارات واضحة لمسؤولين في أجهزة متباينة. غالبية المسلسلات التي تصب في مصلحة جهاز الشرطة لم تخل من تلميحات وتصريحات لتجاوزات وانتقادات، ما منحها بعدا عمليا.

النتائج التي يخرج بها المراقب لهذه النوعية من الأعمال كثيرة. في مقدمتها أن هناك من يجيدون التعامل مع الفضاء العام ويحسنون قراءته، ولا يبخلون على الجمهور بالتفكير وملامسة قضايا في صميم اهتماماتهم، بالصورة والصوت والمؤثرات المختلفة.

من قدموا الدراما يعيشون في البلد ذاته الذي يعيش فيه العاملون في الصحافة. منهم كتاب يجمعون بين الاثنين. لماذا تبدو عليهم الجرأة والشجاعة والاقتحام لقضايا هنا، بينما تكاد تختفي هذه الظاهرة من الصحافة؟

الإجابة مضنية، ولا توجد وصفة محددة تفسر الظاهرة التي تنامت خلال السنوات الماضية، في وقت تعاني فيه الصحافة من انحسار دورها وانتشارها، وهو ما جعل مصير بعض الصحف مجهولا.

صحيفة دولية بحجم الحياة اللندنية أغلقت بابها الورقي نهاية الشهر الماضي دون مقدمات. يمكن أن تلحق بها صحف أخرى تضاف لقائمة طويلة تلاشت نسخها الورقية واحتفظت بمواقعها الالكترونية.

اتساع مساحة المهنية والحرية والنقد والتحليل، أحد مقومات النجاة للصحف الورقية، مع ذلك لا تزال هذه المسألة ضيقة وربما مختفية. بينما وجدناها في عدد متميز من الأعمال الدرامية، ولم يتعرض أصحابها لتوجيه اللوم أو المنع من العرض، ما يثبت أن جانبا من القيود نتطوع بفرضها على أنفسنا دون أن يطلبها أحد من المسؤولين أو المراقبين. بذريعة ايثار السلامة ورغبة في الهدوء والاستقرار والاستمرار.

تؤكد واقعة اعتراض السودان على مشاهد بمسلسل "أبوعمر المصري" تربط بين الخرطوم وجماعات إسلامية، أن الرقيب على الأعمال الدرامية، العام والشخصي، كان محكوما بزاوية التناول الموضوعي، ولم يخضع لحسابات سياسية، لو التزم بها حرفيا لتأثرت بقوة حرية الابداع. في حين تجاهلت غالبية الصحف تغطية وتحليل الواقعة.

عندما كشف السودان الشقيق عن غضبه، تم حذف المشاهد المسيئة له، وبقي العمل ليقدم صورة معقدة للحرب ضد الإرهاب والمتطرفين، ربما لم نر معالجة قريبة منها في الصحف، فما تزال الرؤية قاصرة ومحكومة بمحرمات، جزء كبير منها يدخل في باب الخيال.

من بذلوا جهدا لتقديم أعمال درامية اقتربت من قضايا تلامس أوجاع الناس، أثبتوا أن اتساع أو ضيق قماشة الحرية يخضع لطبيعة الثقافة التي تتحكم في طريقة تفكير الشخص، الدرامي أو الإعلامي. فالأول نجح في الامساك بطرف الخيط الذي يمثل الحرية في التناول، وعندما قرر مده لآخره لم يتم شنقه أو خنقه أو ركله. الثاني يفكر ألف مرة في القبض على الخيط، ويفرط فيه بسهولة عند أول محك، الأمر الذي فهمه الناس على أن الصحافي مجبر، ولم يسأل هؤلاء أنفسهم، لماذا لم يكن الأول مسيّرا وكيف أفلت؟

الحاصل أن جانبا مهما من القيود والضغوط والهيمنة والاستحواذ، سمها ما شئت، يتحملها الصحافيون- الإعلاميون، لأنهم اختاروا ما تصوروا أنه أمان لأنفسهم ومواقعهم وليس أمانا لمهنتهم وبلدهم.

جزء معتبر من المشكلات التي تتعرض لها الإعلام ناجمة عن سوء فهم أو قلة وعي من بعض القائمين عليه، لأنهم اعتقدوا خطأ أن رضاء الحكومة يكمن في تحاشي نقدها أو توجيه اللوم لها أو الابتعاد عن القضايا الشائكة. النتيجة أن الطرفين خسرا. الإعلام فقد مصداقيته وتراجع تأثيره. والحكومة تظل متهمة، بالحق والباطل، أنها تفرض قيودا على الإعلام، وهي مصدر الحل والعقد، وتتعرض لانتقادات خارجية تحمل تداعيات سياسية.

المسؤولية الوطنية في الدراما والصحافة، المفتاح الذي يمكن من خلاله خدمة الجمهور وتنويره، وخدمة الحكومة لتصحيح أخطائها قبل أن تجد نفسها بلا أذرع أو أنياب تدافع عنها في المستقبل. ومساحة الحرية هي رأس الحربة التي تمكن الطرفين من كسب المعارك.