خرافة الفراغ الدستوري في العراق

الدستور مفهوم تجريدي ليس له وجود في العراق. لا أحد من العراقيين يمكنه أن يناقش دفاعا عن الدستور الملغوم الذي يقول الشيء ونقيضه في الفقرة نفسها.

يُدار العراق بطريقة غرائبية. ليس هناك ما هو طبيعي في ذلك البلد الذي وضعه المحتل الأميركي في منطقة عمياء، يمكن فيها أن يقع أي شيء من غير أن يسبقه ما يمهد له.

الأوضاع هناك يمكن أن تنفجر في أية لحظة لأسباب، ليس مطلوبا الإعلان عنها أو توضيحها. فالقاتل المجهول لا يزال شاخصا، بالرغم من انقضاء سنوات طويلة انفقت خلالها الحكومة المليارات من أجل تدريب كوادر أجهزتها الأمنية التي يسعدها أن يكون القاتل مجهولا.

لا تزال الأدوات الأمنية بدائية بسبب غياب الرغبة لدى أفراد أجهزة الأمن في العمل الحقيقي. لا لشيء إلا لأن أولئك الأفراد هم على يقين من أن آخر هموم الحكومة هو مطاردة القتلة. 

لقد انتهى العراقي إلى حقيقة أن العمل لصالح المجتمع ينطوي على الكثير من المجازفة الخطرة. شيء من ذلك الموت قد يقوده إلى الموت وعلى يد قاتل مجهول هو الآخر. لذلك صار العراقيون يعزفون عن القيام بأي عمل من شأنه ان يهدد مصالح جماعة مسلحة أو يمس بامتيازاتها غير القانونية.

الديمقراطية في العراق لها مناطق، تتحرك داخل أسوارها ولا تغادرها.

يمكنك أن تقول كل شيء ولا تُقتل. ويمكن أن تكون كلمة واحدة سببا في اصدار الامر بتصفيتك.

لا اعتقد ان امرا من ذلك النوع هو من صنع الصدفة.

فعلى سبيل المثال يمكننا النظر إلى ظاهرة الميليشيات باعتبارها واجهة المشهد الذي ينذر بالعنف الدائم. وهو عنف لا تقوى الدولة على التحكم به أو تصريفه وتفادي أضراره بل العكس يقع تماما.

يتساءل المرء وهو يرى المساحة التي تتحرك عليها تلك الميليشيات "ما الدولة في العراق؟ أين تقع؟ ما الذي فعلته الدولة من أجل أن يكون لها هيبة في ظل انفلات تلك الميليشيات؟ ولكن هل هناك دولة في العراق حقا؟"

لذلك يبدو الحديث عن الفراغ الدستوري التي صارت تقلق سياسيي العراق الجديد نوعا من الملهاة التي تنطوي على قدر هائل من السخرية.   

خرافة الفراغ الدستوري تضاف إلى سلسلة الخرافات العراقية التي وجدت طريقها إلى التداول بعد عام 2003.

بعد تلك السنة كُتب على العراقيين أن يكونوا ديمقراطيين رغم أنوفهم. صار الفصل بين السلطات الثلاث، القضائية والتشريعية والتنفيذية ضروريا. بالرغم من أن تلك السلطات خاضعة كلها للأحزاب التي تمكنت من الاستيلاء على السلطة بحكم تبعيتها لسلطة الاحتلال.

يعرف العراقيون أن كل تلك السلطات لا تدير شؤونهم. إن اختفت واحدة منها فإن ذلك لن يؤثر في شيء على حياتهم التي تسير في سياق، يجهلون معادلاته ولا يفرقون بين الخيط الأسود والخيط الأبيض من خيوطه.

تلك المعادلات لن تتأثر بالتأكيد بغياب الحكومة أو تبخر السلطة القضائية أو هروب أعضاء مجلس النواب كلهم.

لا يفكر العراقيون بالفراغ الدستوري ما دامت الميليشيات هي التي تحكم الشارع. هي التي تسمح وهي التي تمنع.   

يكذب السياسيون في الحديث عن الدستور الذي يضمن وجودهم. إنهم موجودون في الحقيقة بقوة تلك الميليشيات. هي التي تجعل العودة إلى البيت ممكنة وهي التي في إمكانها ان تنقل العراقيين بدراجات غير مرئية إلى الجحيم بلحظة واحدة.

ولأن الدستور وهو مفهوم تجريدي ليس له وجود في العراق فلا أحد من العراقيين يمكنه أن يناقش دفاعا عن الدستور الملغوم الذي يقول الشيء ونقيضه في الفقرة نفسها.

بالنسبة للسياسيين فإن الدستور ليس سوى وسيلة للضحك على الجمهور العام ما دام لا يلزمهم بشيء.

كل الرئاسات تتحالف اليوم على أن تعطل الدستور. رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ورئيس مجلس النواب اتفقوا على أن يبقوا في مناصبهم خشية أن يقع فراغ دستوري. وهو ما لم ينص عليه الدستور، غير أنه الواقع الذي تم فرضه بقوة الميليشيات في انتظار ما يقرره الإيرانيون وهم في أسوأ أحوالهم داخل العراق.

سيظل تشكيل حكومة جديدة في بغداد مرجئا إلى أن تقرر إيران ذلك.

وهو السبب الذي اخترعت من أجله خرافة الفراغ الدستوري.

علينا أن نتذكر في هذا المجال أن العراق بلد تحكمه الميليشيات وليس القانون، فهل علينا أن نصدق أن هناك دستورا في بلد لا يحكمه القانون؟