فريد الدين العطار يتساءل: إنك لستِ في السماء ولا في الأرض فأين أنتِ؟ 

محمد الحمامصي
ملكة علي التركي توضح أن الملامح العامة لقصص "إلهي نامه" تتمثل في: فن المناظرة، ثراء شخصيات القصص، تعدد الشكل القصصي، الوحدة الموضوعية، الرمز الصوفي.
الإنسان الكامل نظرية ملخصها أن الإنسان هو الكون الجامع لجميع حقائق الوجود
"إلهي نامه" تعتبر من منظومات العطار الواضحة المعالم، الجلية الرمز
البناء الفني في المنظومة يعتمد على فن المناظرة

تقدم العلامة الراحلة د. ملكة علي التركي لترجمتها للمنظومة الصوفية "إلهي نامه" للقطب الصوفي الشاعر فريد الدين العطار، مدخلا يشكل دراسة مكتملة الرؤية للتصوف الإسلامي، ظهوره وتطوره منذ القرن الأول الهجري وحتى القرن السابع الهجري، وذلك بتوسع كاشف وقراءة متأنية لتجليات شيوخه وإرثهم الضخم الذي لا يزال إلى اللحظة الراهنة محل تقدير وإجلال، حيث لم تغفل أكابرهم من العرب أو الفرس أو غيرهما، هذا فضلا عن الطريقة والمراحل الخاصة بسلوك الطريق والتي قسمها الصوفية إلى منازلها ومراحلها إلى مقامات وأحوال يجب على السالك أن يجتازها بالتدريج والترتيب، لتنتقل بعد ذلك لقراءة منظومة "إلهي نامه" وتشرح مراحلها الستة، ثم تحلل الملامح العامة والأبعاد الاجتماعية والحضارية التي حفلت بها القصص الواردة فيها والتي تبلغ مائتين وسبعين حكاية، وتتوقف عند آراء العطار والأسس والمفاهيم الصوفية وغير ذلك من الأفكار الصوفية.
وأوضحت د. ملكة التركي في دراستها المستفيضة التي استهلت بها ترجمتها الصادرة عن دار آفاق أن منظومة "إلهي نامه" تبدأ بحديث يوجهه العطار إلى روح الإنسان الكامل، حيث يرى أن هذه الروح هي نائبة دار الخلافة وصاحبة الأمر الرباني والعالم كله منوط بها، ومع ذلك يصعب إدراك كنهها "إنك لست في السماء ولا في الأرض فأين أنت؟ إنك عند رب العالمين". 
والإنسان الكامل نظرية ملخصها أن الإنسان هو الكون الجامع لجميع حقائق الوجود، وهو العالم الأصغر الذي انعكست في مرآة وجوده كل كمالات العالم الأكبر، لهذا استحق الخلافة، ولا يصدق ذلك إلا على أعلى مراتب الإنسان، وهي رتبة الأنبياء والأولياء وأكملهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم والمقصود به الحقيقة المحمدية الأزلية الأبدية أو الروح المحمدي أو النور المحمدي الذي ظهر في صورة آدم ثم في صورة كل نبي بعده حتى ظهر أخيرا في صور الرسول عليه الصلاة والسلام.  
وقالت إن العطار يحدد للروح الخليفة ستة أولاد / مراحل على النحو التالي "واحد نفس مكانه الماديات، وواحد شيطان ينحو رأيه إلى الخرافات، وواحد عقل يناقش المعقولات، وواحد علم يبحث عن المعلومات، وواحد فقر يطلب الأشياء الوهمية، وواحد توحيد يبحث عن الذات الواحدة"، وبعد أن ينتهي العطار من حديثه إلى الروح، تأخذ الروح في رقيها إلى الله عز وجل وذلك في صورة قصة رمزية تتمثل في أحد الخلفاء وله ستة أبناء، وهم يقابلون الروح بمراتبها الستة، وتبدأ المنظومة بأن يجمع الأب أولاده الستة، ويطلب منهم أن يفضوا إليه بمكنون قلوبهم وما يجيش في صدورهم من رغبات وأمان ليحققها لهم على الفور. 

أورد العطار مائتين وست وسبعين حكاية في منظومة "إلهي نامه" وقد أجراها كلها على لسان الأب في جو يعيد إلى الأذهان ليالي ألف ليلة وليلة، والحكايات تمثلت في حكايات دينية وتاريخية وعن رجال الصوفية والشعراء. 

ورأت د. ملكة أن الملامح العامة للقصص "إلهي نامه" تتمثل في: فن المناظرة، ثراء شخصيات القصص، تعدد الشكل القصصي، الوحدة الموضوعية، الرمز الصوفي، حيث أكدت أن البناء الفني في المنظومة يعتمد على فن المناظرة، وتدور المناظرة في المنظومة بين الأب / الخليفة وأولاده الستة، فيجمع الخليفة أولاده الستة ويطلب من كل واحد منهم أن يفضي إليه بأعز أمانيه وأغلى رغاباته حتى يحققها له في التو، فيبدأ الولد الأول في طرح أمنيته ومدى تعلقه بها أبيات قليلة، ثم يتبعه الأب بتقبيح هذه الرغبة في عدة أبيات أيضا، وبعد ذلك يبدأ العطار في سرد الحكايات المختلفة التي يدعم بها آراءه، ومع بداية المقالة التالية يبدأ الولد في جذب أطراف الحديث ويثير نقطة جديدة حول رغبته في أبيات قليلة، ثم يعقب الأب في عدة أبيات ويبدأ بعد ذلك في سرد الحكايات والقصص، وتستمر المناظرة على هذا النحو حتى يقتنع الولد الأول بخطئه ويقلع عن أمنيته، وتسير المناظرة مع بقية الأولاد على نفس المنوال.
أورد العطار مائتين وست وسبعين حكاية في منظومة "إلهي نامه" وقد أجراها كلها على لسان الأب في جو يعيد إلى الأذهان ليالي ألف ليلة وليلة، والحكايات تمثلت في حكايات دينية وتاريخية وعن رجال الصوفية والشعراء. 
وأكدت د. ملكة أن العطار امتلك قدرة فائقة كقصاص، وحللت قصتي "المرأة الزاهدة"، و"رابعة بنت كعب"، وقالت "امتازت القصة الأولى بتعدد الشخصيات، فالمرأة بطلة القصة تقابل شخصيات عديدة، وهذه الشخصيات تسهم كلها في تفاصل الأحداث، كما يتوافر عنصر الصراع بين هذه الشخصيات وبين بطلة القصة، كذلك تنتقل المرأة إلى أماكن عديدة، وبذلك تتعدد مشاهد القصة وتجري أحداثها في أماكن متفرقة، وتتطور الأحداث وتتصاعد، ثم تحل مشكلة المرأة في النهاية وربما تصلح القصة كنواة لقصة روائية طويلة.
والقصة الثانية "رابعة بنت كعب" تظهر فيها مقدرة العطار على نظم القصة أيضا، إلا أنها من نوع آخر فهي "قصة عاطفية تعتمد على وصف المشاعر وإن كانت لا تخلو من الأحداث أيضا، وتغيير مشاهد الحدث القصصي، ويكثر فيها الحديث عن الرسائل المتبادلة بين رابعة وبكتاش ووصف الأحوال النفسية والوجدانية للعاشقين. 

التصوف الإسلامي
276 حكاية

وأكدت د. ملكة أن "الهي نامه" تعتبر من منظومات العطار الواضحة المعالم، الجلية الرمز، فهو لم يكلف القارئ أي مشقة أو يحمله عناء لفهم هذه المنظومة، حيث شرح ما يقصده بالخليفة والأولاد الستة من خلال حديثه إلى الروح، فالروح هي خليفة الله على الأرض، منه أتت وإليه تعود، وفي قوس صعودها من الأرض إلى السماء تترقى في ست مقامات هي "الحس، الوهم، العقل، العلم، الفقر، التوحيد"، وكل ولد يمثل بالرغبة التي يطلبها مرحلة من المراحل، فالولد الأول يريد الزواج من ابنة ملك الجان، وينتهي الأب من مناظرته معه بأهمية عدم التعلق بالماديات والقضاء على النفس الأمارة، والتعرف على القوى الإلهية داخل النفس الإنسانية وتنميتها والسلوك في طريق الله. 
والولد الثاني يطلب تعلم السحر، فيوضح له الأب أنه يتجه إلى أشياء وهمية يصورها له الشيطان، وعليه أن يجعل شيطانه يسلم ويسلك طريق السحر الحقيقي وهو طريق الإيمان الذي يصل إلى الخلود. 
أما الولد الثالث فيرغب في الحصول على "كأس جمشيد" ويوضح له الأب أن إدراك العوالم الخفية والأسرار العليا لا يتأتي إلا بالنفس الفانية التي تسقط من أمامها الحجب، أما الكأس فلا تؤدي إلا إلى الهلاك، وكأسه الحقيقية التي تصل به إلى العوالم العليا هي عقله الذي يحمل كثيرا من الأسرار والمعارف وعليه توجيهه إلى طريق الله. 
ثم يأتي المقام الرابع وهو طلب الولد لماء الحياة وقد استطاع الأب أن يدل ابنه على ماء الحياة الحقيقي وهو المعرفة الإلهية التي تنير الطريق أمام السالك فيرى العالمين. وفي المرحلة الخامسة يطلب الولد خاتم سليمان ليتحقق له ملك سليمان، ويتحدث الأب ويوضح لابنه تفاهة مطلبه، وفي النهاية يقتنع الولد بأن خاتم سليمان ليس إلا القناعة، وسلوك طريق الفقر الصوفي هو أساسها، والقناعة هي الملك الحقيقي لأنها تصل بالسالك إلى نهاية الطريق وتجعله يتحمل مشاقه.
وتأتي المرحلة السادسة وهي أسمى المراحل وأرفعها، وفيها يتشوق الولد للوصول إلى طريق الدين ولكنه يتصور أن السبيل إليه يكون بتعلم الكيمياء، لكن الأب يفند له آراءه حتى يصل معه إلى كنه الكيمياء الحقيقية، فنجد أنها نور الله يقذفه داخل قلوب عباده، فإذا بهم يدركون سر الحياة الحقيقي ويفنون عن أنفسهم.
ورأت د. ملكة أن الروح التي تطوي هذه المقامات هي روح الإنسان الكامل، الذي هو خليفة الله تعالى.
وتناولت المؤلفة الأسس والمفاهيم الصوفية ورأت أن العطار اقترب في منظومته من نظرية وحدة الأديان وقالت "اتضح هذا المعنى في الهي نامه في قصة المجوسي الذي شيد جسرا من أمواله الخاصة، وذات يوم طلب منه السلطان محمود أن يأخذ من الذهب مقابل ما أنفقه في تشييد الجسر، فرفض المجوسي وقال "لن أبيعه ولن آخذ ذهبا في مقابله، لقد شيدته من أجل الدين". سجن محمود المجوسي وأذاقه ألوان العذاب وعندما تجاوز العذاب حده، أرسل المجوسي رسالة إلى السلطان، وطلب منه المجيء إلى الجسر، ومعه خبير ليحدد قيمته وعندما اعتلوا جميعا الجسر قال المجوسي:
ـ أيها الملك اطلب مني الآن ثمن هذا الجسر.  
ـ فسوف أنهي حياتي عليه، وبذلك أكون قد أجبتك.
ـ انظر ها هو الثمن، أيها الملك العظيم، قال هذا وقفز إلى الماء على الفور.
والدين الحقيقي يقوم على الثبات في عشق الله، لا على تأويل الأحكام الدينية، والاعتماد على الأدلة النقلية أو التقوى الظاهرية، وقد أوضح العطار هذا في قصة العلوي والعالم والمخنث، عندما سافروا إلى بلاد الروم وأسروا هناك وطلبوا منهم السجود لصنم وإلا أراقوا دماءهم، فطلبوا مهلة ليلة واحدة لتدبر الأمر:
ـ تحدث العلوي وقال: لا مفر يجب التمنطق بالزنار أمام الصنم.
ـ وجدي يستطيع تماما أن يشفع لي يوم القيامة.
ـ وتحدث العالم وقال أنا أيضا لا أستطيع التضحية بروحي وجسدي.
ـ وقال المخنث إنني حائر فلا عون لي ولا شفيع.
ـ لكما شفيع وليس لديّ، فلا يليق مني هذا السجود.
ـ إن قطعوا رأسي كالشمع فأي خوف؟ لذا لن أستطيع السجود للصنم ففي هذا هلاكي.