"قاتل لمدة عام" مناجاة شاب يريد أن يقتل قاضيا نازياً

فريدريش كريستيان دليوس يعالج أحداثا وشخصيات حقيقية عاصرها في التاريخ الألماني الحديث.
الرواية تنطلق من سماع الراوي لحكم البراءة على القاضي هانز يواخيم ريزه المحامي السابق بمحكمة الشعب العليا
"قاتل لمدة عام" هي الأولى لكاتبها بالعربية

تعالج رواية "قاتل لمدة عام" للروائي فريدريش كريستيان دليوس قصة أحداث وشخصيات حقيقية عاصرها المؤلف في التاريخ الألماني الحديث، وذلك دون أن تفتقد الرؤية الفنية حيث ينسجها المؤلف بأسلوب سردي وتقني جمالي متميز. 
تتناول الرواية قصة الطبيبين جيورج جروسكورت وزوجته أناليزه جروسكورت اللذين كوّنا جماعة مقاومة أيام النازية لمساعدة السياسيين الملاحقين، وعندما اكتُشف الأمر واعتقل أعضاؤها، وقدموا إلى محكمة الشعب العليا التي كانت تنظر قضايا الخيانة في الحقبة النازية، أصدر القاضيان رولاند فرايزلر وهانز يواخيم ريزه أحكاما بالإعدام، تم بمقتضاها قطع رأس جيورج في حين بقيت أناليزه على قيد الحياة. 
وقد انطلقت الرواية من سماع الراوي لحكم البراءة على القاضي هانز يواخيم ريزه المحامي السابق بمحكمة الشعب العليا الذي حكم بالاعدام على جروسكورت، حيث يقرر عندها أن يكون قاتلا لهذا القاضي، ليبدأ في تتبع خيوط القصة منذ البداية، بداية تشكل جماعة المقاومة على يد جروسكورت.
الرواية التي ترجمها وقدم لها سمير جريس وصدرت أخيرا عن دار آفاق، هي الأولى للروائي بالعربية، ولفت المترجم أن دليوس ينجح في رواياته في إحياء الفترة التاريخية التي يتناولها بحيث يجد فيها القارئ كثيراً من التشابهات والتقاطعات مع الحاضر، وخصوصا مع حاضرنا العربي. 
وفي "قاتل لمدة عام" على سبيل المثال يلقي دليوس ضوءاً كاشفاً على حقبة النازية التي تعد من أشد فترات التاريخ الألماني ظلاماً، وسرعان ما تبين القارئ أن النازيين الجناة ليسوا بالضرورة وحوشاً آدمية، بل إن الشر عادي، مثلما قالت الفيلسوفة "هنه آرنيت"، كما تبين الرواية أن الديموقراطية عملية طويلة وصعبة، وأن شعباً ساير الديكتاتور سنوات طويلة وآمن به لن ينقلب شعباً حراً ديموقراطياً بمجرد إسقاط الطاغية".
وأضاف جريس أنه عندما حصل دليوس في عام 2011 على جائزة بوشنر، أهم الجوائز الأدبية في ألمانيا مثّل الأمر مفاجأة لكثيرين، ليس لأن دليوس مجهول لدى القراء أو النقاد، على العكس إنه يحظى باحترام النقاد وإعجاب جمهور القراء معاً. لكن دليوس ليس بالكاتب النجم، وجائزة بوشنر تذهب في كثير من الأحيان إلى كتاب نجوم راسخين، كما أنه ليس بالكاتب الطليعي المجدد مما تتزين بهم الجائزة أحيانا. إنه بالأحرى كاتب ملتزم في عصر فقد فيه الالتزام بريقه وألقه، كاتب لا يعرف المهادنة، ما زال يؤمن بالكلمة وبدور الأدب، في إصلاح المجتمع.
ورأى أنه يمكن اعتبار الروائي الألماني فريدريش كريستاين دليوس (من مواليد 1943) "صنع الله إبراهيم الأدب الألماني". مثل الروائي المصري، اشتهر دليوس برواياته التوثيقية والتسجيلية النقدية التي لا تتصالح مع المؤسسة السياسية الحاكمة، ومثله هو كاتب يساري يرى للأدب أيضا دورا سياسيًا. ومن يطالع عمل دليوس الوحيد المنقول إلى العربية حتى الآن ـ رواية "قاتل لمدة عام" ـ يعرف كيف يضفر هذا الروائي الأحداث التاريخية بكل تفصيلاتها المملة أحيانا "الفترة النازية وما أعقبها من انشطار ألمانيا إلى نصفين، ثم الحرب الباردة والثورة الطلابية" مع سيرته الذاتية ناسجا منها رواية شيقة تمزج الواقع بالمتخيل. 
هذه الرواية اعتبرها الروائي جميل عطية إبراهيم "درساً لمن يريد أن يكتب رواية تاريخية"، مثل ما قال لي على هامش معرض القاهرة للكتاب في عام 2008. أما الروائية منصورة عز الدين فقد غيرت هذه الرواية من ذائقتها الأدبية، مثلما كتبت في مقالتها بأخبار الأدب عقب صدور الطبعة الأولى من الترجمة العربية: "الرواية الجيدة هي ـ بصورة من الصورـ تلك التي تربك قناعات قارئها، وتغير من رؤيته لذوقه في القراءة، ورواية دليوس نجحت في هذا لحد كبير - على الأقل معي - إذ لا أميل كثيرا للرويات الوثائقية التي تستند بقوة إلى أحدث ووقائع تاريخية مجردة، غير أني نسيت هذا مع الجملة الأولى المزلزلة التي افتتح بها دليوس روايته: كلفت بالقتل في ساعة الغسق، مساء عيد القديس نيقولاوس".
وأشار جريس إلى أن التاريخ الألماني هو شغل دليوس الشاغل وهمه المقيم، ربما منذ أن بدأ الوعي بما حوله بعد مولده في غمار الحرب العالمية الثانية. كان مولده في روما، حيث كان أبوه القس البروتستانتي، يعظ الجنود الألمان الذين يحاربون على الجبهة الإيطالية ونشأ في منطقة هيسن في قلب ألمانيا، وتلقى تعليمه هناك في الفترة التي حاول فيها الألمان أن ينسوا الماضي النازي قليلاً، أن يتركوا الماضي يمضي وأن يبنوا دولتهم بعد أن حولتها حرب هتلر إلى أنقاض. ومقاومة تناسي الماضي أو تجاهله سيصبح أحد الموضوعات المهمة لأدباء اليسار في تلك الفترة، كما سيشغل دليوس في أعماله اللاحقة.
وأوضح: عندما نقرأ في "قاتل لمدة عام" مناجاة الشاب الذي يريد أن يقتل قاضيا نازياً، نعرف أن الروائي إنما يتحدث عن نفسه: "لماذا لا أحيا حياة حرة بدون أوساخ التاريخ وشياطينه، لماذا لا أواصل الكتابة دون إزعاج من أحد، أن أسطر جملا طويلة جميلة، رشيقة وأنيقة، ثم يأتي الوقت بعد عشرين أو ثلاثين عاماً بعد أن يكون الألمان قد اندثروا، أوعلى الأقل تخلوا عن فظاظتهم، وبعد أن يكون النازيون قد وأدوا الروح النازية، عندئذ يكتشفونني ويحتفون بي، وعندئذ أجلس مثل إلياس كانيتي في إحدى مقاهي هامستيد هيث، وبنظرة باسمة أقرأ الصحف الألمانية..." ربما هذا ما خامر دليوس في شبابه. غير أنه اختار طريقا آخر.
التحق دليوس عام 1963 بجامعة برلين، ودرس هناك الأدب الألماني، واختتم دراسته عام 1970 بالدكتوراه. وفي برلين عايش دليوس فترة الانتفاضة الطلابية التي تفجرت عام 1968 بكل زخمها، وهي الفترة التي سيكتب عنها لاحقا كما سيكتب عن جماعة "بادر - ماينهوف" اليسارية الإرهابية التي تولدت من رحم الاحتجاجات الشبابية. عمل دليوس محرراً في إحدى أشهر دور النشر اليسارية "دار كلاوس  فاغنباخ" من عام 1970 حتى 1978. وفي تلك الفترة نشر كتاباً توثيقيا ساخراً بعنوان "عالم سيمنس. كتاب احتفالي بمناسبة مرور 125 سنة على تأسيس شركة سيمنس" (1972) شن فيه هجوماً أخلاقياً عنيفاً على الشركة المشهورة، مما تسبب في رفع عدة قضايا عليه وعلى دار النشر، خرج منها الكاتب منتصراً، ولكن بعد أن كادت الدار تشهر إفلاسها. 
وفي عام 1978 تفرغ للكتابة وراح يعيش متنقلاً بين برلين وروما. وابتداءً من مطلع الثمانينيات بدأ دليوس يلفت الأنظار برواياته الوثائقية التاريخية مثل "بطل الأمن الداخلي" (1981) و"مقديشيو، مقعد بجانب الشباك" (1987) و"يوم الأحد الذي أصبحت فيه بطل العالم" (1994). 
ونقل جريس عن دليوس قوله إن "الكتابة هي التي حررته من سطوة أبيه، كما عتقته من التهتهة وإحساسه بالخرس في طفولته الريفية". وفي جملة دالة صرح بها إلى صحيفة "فرانكوفورتر ألغامنيه" ذات مرة قال إنه "لجأ إلى الكتابة لأنه فشل في إجادة السباحة فهو شخص لا يستطيع أن يطفو على السطح، دليوس كاتب يغوص في العمق، يرسم بقلمه شخصيات روائية جذابة، لكنها ليست أحادية البعد، يهاجم النازية، ولكنه يسلط الضوء أيضا على المقاومين في تلك الفترة، يشن حرباً شعواء على إحدى كبريات الشركات الرأسمالية في ألمانيا، ولكن دون أن يقع في الأيديولوجية اليسارية المبسطة الساذجة، يكتب عن الثورة الشبابية التي شارك فيها، ولكن دون تمجيد، بل بسخرية هادئة من الشاب المتحمس الذي كانه يوما".
 

قاتل لمدة عام
ينسجها المؤلف بأسلوب سردي وتقني جمالي متميز