كيف نجعل الصحيفة قابلة للقراءة

لسوء الحظ مازال نموذج صحيفة برافدا السوفيتية قائما وبامتياز في صحافتنا العربية، وذلك ما يجعل حال الصحافة لدينا مخيبا لآمال القراء، بل أن الصحافة العربية أضحت متهاونة حتى عن زرع بذور الشك في الحكومات الفاسدة!

إليك خطوات فن الصحافة في إيذاء النفس: أولا نشر أخبار وكالات الأنباء الحكومية كما هي، بما فيها أسماء المسؤولين الذين حضروا في حفل الاستقبال وتناولوا وليمة الطعام في مجلس الرئيس أو الأمير… مساحة ذكر أسماء الحاضرين أكبر من الخبر نفسه! إن كان يوجد خبر أصلا!

التحليل الإخباري المرافق لنشاطات الرئيس وظيفته ليّ عنق الحقائق والاستهانة بوعي الجمهور، وفي النتيجة يرغم القارئ على أن يرمي الصحيفة إن حصل واقتناها.

الحشو غير المفيد، من أجل تجنب الخبر الإشكالي المثير لمزيد من التساؤلات لدى القراء، نشاطات الحكومة أغلبها حشو بما فيها تصريحات الوزراء، لأنهم ببساطة لا يدفعون غير ضريبة الكلام المجرد. ومن أجل أن تكون أخبار الحكومة مفيدة للقراء، يجب أن تهدف إلى منع التغول والفساد وتنتقد الأداء وتكشف الهدر في الأموال.

ما ثمن هذا المزاج الصحافي الذي يبدأ بأخبار لا أهمية لها وينتهي بتقارير من الحشو الفارغ؟ إنه ببساطة يجعل من الصحيفة مجرد ورق مطبوع وغير مقروء!

ليس معيبا أن تقرأ الصحيفة الخبر وفقا للزاوية التي تراها أكثر تحققا وتدافع عن هذه القراءة من بين عدة سيناريوهات مقترحة، لكن المعيب أن تقلب الحقائق، فالاضطهاد لا يمكن أن يكون حرية ولا يمكن اعتبار التذمر الشعبي ولاء، والهزيمة ليست نصرا إلا في نظر الحكومات الفاسدة والصحافة المتبنية لذلك الفساد.

في تلك العقدة تكون الصحافة قد خسرت نفسها، ليتكرر السؤال الكلاسيكي: كم من الصحف العربية ربحت قراءها؟

لسوء الحظ مازال نموذج صحيفة برافدا السوفيتية قائما وبامتياز في صحافتنا العربية، وذلك ما يجعل حال الصحافة لدينا مخيبا لآمال القراء، بل أن الصحافة العربية أضحت متهاونة حتى عن زرع بذور الشك في الحكومات الفاسدة!

إذا كان رجل واحد مثل الرئيس الأميركي دونالد ترامب يتصدر عناوين الأخبار، فهو وفق كل الأحوال ليس مثل تصدر أخبار الرئيس والأمير في صحافتنا العربية.

بالنسبة لأخبار الرئيس الأميركي، فالشكوك متصاعدة في كل ما يقدم عليه، تصريحاته ومواقفه معركة الصحافة اليوم، وليس كما يحدث مع أخبار الرئيس والأمير في الصحف العربية، ثمة مفارقة في تصدر الأخبار هنا وهناك، ترامب يتصدر لأنه عدو الصحافة، والرئيس والأمير العربي يتصدران العناوين لأنهما صديقا الصحافة!

ماذا لدى الرئيس العربي أن يقوله عن الصحيفة إن لم تعجبه؟ بلا تردد سيحكم عليها بالخيانة وسيصدر أوامر المصادرة والسجن بحق الصحافيين! ترامب مثلا قال “لماذا نعمل بجد مع وسائل الإعلام في حين أنها فاسدة؟ اسحبوا منهم أوراق الاعتماد؟”.

يمكن الاعتماد على هذه الاستفزازات لجعل الصحافيين يلجأون بصورة متواصلة إلى مبدأ حرية التعبير وفق الكاتب أندرو جونسون من صحيفة فايننشيال تايمز، لكن هذا يفوّت نقطة أوسع. جويل سايمون من لجنة حماية الصحافيين الأميركية قال “يبدو أنها جزء من إستراتيجية متعمدة لتقويض ثقة الجمهور من خلال زرع التشويش وعدم اليقين بشأن ما هو صحيح”.

سبق للكاتب فرانسيس ويلكنسون أن اتهم المؤسسات الصحافية الرائدة بالتصرف أحيانا كما لو كانت تترفع كثيرا عن ألاعيب مهرجي الأحزاب السياسية، متسائلا عما إذا كان هذا يعد نوعا من أنواع أفلام التجسس الرخيصة؟ إنه أمر لا يكاد يستحق النظر أو الاعتراف بوجوده، فضلا عن سبر غور أساليبه وتكتيكاته.

دعونا نتفق على المساحة النسبية للحرية والاستقلالية الصحافية، فحتى صحيفة الغارديان البريطانية الممولة من مؤسسة خيرية تجد نفسها في أزمة مع استقلاليتها عندما يتعلق الأمر بتمويلها، وهذا ما جعلها تستنجد بالقراء الأوفياء لدعمها من أجل الاستمرار في ربط المجتمع بأفكار حرة ومستقلة، وعدم ترك الساحة للصحافة الحكومية والحزبية.

فقد حثت الغارديان قراءها على التبرع للحفاظ على استمراريتها في عالم الصحافة. وجاء في رسالة وجهتها لقرائها “لا نعتمد في قراراتنا التحريرية على مالك ثريّ يفرض سيطرته على المحتوى المقدم، كما أننا لا نقبل وجود مساهمين، أو مُعلنين، أو ناشرين من أصحاب المليارات يحددون نهج رئيس التحرير، الغارديان تعمل في ظروف اقتصادية صعبة للغاية، حيث تستمر إيرادات الإعلانات بالتدهور”.

واعترفت رئيسة التحرير كاثرين فاينر بحصول الصحيفة على مبالغ من الأعضاء المشتركين والقرّاء الذين يتبرعون للصحيفة، ما يعادل إيرادات الإعلانات.

ومثل هذا الحل الذي لقي انتقادا في بريطانيا نفسها، لا يبدو مجديا مع صحافة العالم العربي بسبب الثقة المهتزة بينها وبين الجمهور، فهل يتبرع القراء العرب لمن لا يثقون به!

متراجحة التمويل والاستقلالية مستمرة مع الصحافة، ولا يمكن أن تكون الوسيلة التي لجأت إليها الغارديان حلا للصحف العربية، لذلك يبقى الطموح أن تحتفظ تلك الصحف بما تبقى من الهامش الضئيل لثقة القراء فيها.

في أحدث استطلاع لمعهد رويترز عبر أكثر من ثلاثين بلدا قال 43 في المئة فقط من الأشخاص الذين شاركوا في الاستطلاع إنهم يثقون بالأخبار وفي بلدان ديمقراطية، لكن الأرقام أكثر كآبة حتى من ذلك بالنسبة  إلى أندرو جونسون. ومعدل الكآبة يزداد كلما اقترب الاستطلاع من صحافتنا العربية.

يستخلص كين فيشر الرئيس المؤسس لشركة للاستثمارات في أوروبا، الدرس الكبير مما يسمى حادثة الدمار التكنولوجي أو السياسي بالقول “عندما تصبح وسائل الإعلام مشغولة تماما ولا شأن لها سوى الحديث عن زاوية حديثة لا تشتمل على أي تحسين، سيكون من المحتمل جدا أن تكون هذه مرحلة عابرة قصيرة الأجل أكثر من كونها اتجاها عاما طويل الأجل”، لكنها للأسف مرحلة مستمرة، فمنذ عقود وصحافتنا العربية لا تقرأ!