مازال صحافيو العراق يستحقون التعاطف!

ماجرى في حملة الانتخابات البرلمانية العراقية يحمل من التخلف والوضاعة والانحطاط السياسي والديني، فوق ما يمكن أن يتحمله التاريخ العراقي مع جلجلة كل الأهوال التي مرت عليه في الزمن الشاذ الذي يعيشه، فهل من المقبول أن يكون صوت الإعلام العراقي هامشا وليس ناقدا مفككا لكل هذا السقوط السياسي المريع؟

لا يستحق الصحافيون في العراق التوبيخ أو التجريح أو الملامة بقسوة، إنهم يستحقون وفق التقويم المفرط بالتفاؤل الرثاء والتعاطف، لأنهم يعبرون عن عجزهم أسوة بطبقات فقيرة ومحرومة ومهمشة سائرة في طريق الخرافة في المجتمع العراقي، أليس الصحافيون جزءا من هذا المجتمع؟

لذلك عندما أكتب وأنا في وضع مستقر وأراقب المشهد برمته من خارج البلاد من دون قلق وخوف أن تمس كرامتي كإنسان وكصحافي، لا أعرف ماذا سيكون رأيي عندما أكون بينهم في بغداد المكبلة بالرثاثة والتخلف السياسي ودوران عملية اختراق العقول المستمرة من السياسيين ورجال الدين على حد سواء.

الصحافيون العراقيون جزء من واقع مرير، هذا أمر صحيح، لكن لا يقبل منهم أن يصابوا بالعجز عن ربط المجتمع بديمقراطية حرة من الأفكار والمعلومات، وليس كما يحدث اليوم بقبولهم دور الهامش للطبقة السياسية المريضة وسطوة رجال الدين الفاسدين.

ما جرى في حملة الانتخابات البرلمانية العراقية يحمل من التخلف والوضاعة والانحطاط السياسي والديني، فوق ما يمكن أن يتحمله التاريخ العراقي مع جلجلة كل الأهوال التي مرت عليه في الزمن الشاذ الذي يعيشه، فهل من المقبول أن يكون صوت الإعلام العراقي هامشا وليس ناقدا مفككا لكل هذا السقوط السياسي المريع؟

لست بطرا عندما أطالب الزملاء هناك بما يفوق طاقتهم، لكنني أطمح في أن يعبروا على الأقل عن أرائهم كما هي، وألا يكون صوتهم خافتا أمام السياسيين الفاسدين ورجال الدين المتخلفين.

تبرير الفساد والانهيار السياسي وانتهاك فكرة الانتخاب الديمقراطي، من قبل الأصوات الإعلامية العراقية، هو سقوط لا يقل عن ضحالة الفساد نفسه، لقد فقد العراقيون الثقة بالقضاء وهذا مؤشر مريع على انهيار مفهوم الدولة، إذ لم يبق أمام العراقيين غير الإعلام المعبر عن مرارة الألم الذي يكابدونه، فيرونه –وياللأسف– هامشا ذليلا للسقوط السياسي الهائل الذي يلف البلاد برمتها.

ما الذي فعلته وسائل الإعلام العراقية “المستقلة” من أجل العراقيين في الزمن الانتخابي الرث؟

في واقع الأمر- إذا اتفقنا جدلا أنها حرة – لم تفعل أكثر من ممارسة دور المعلن وتقديم الخدمات الصحافية مدفوعة الثمن! وهي تعبر عن سعادة غامرة بذلك على اعتبار أن الانتخابات مصدر رزق لا يتكرر إلا كل أربع سنوات.

ما كان مهولا، هو الخضوع الإعلامي المهين للخرافة الدينية بوصفها مصدرا سياسيا لإدارة البلاد، وهذا يفسر توجه المايكروفونات برمتها إلى خطبة الجمعة باعتبارها المكان الأمثل لصناعة المستقبل السياسي للبلاد.

لا أحد من صحافيي العراق اليوم – مازلت أقول يستحقون التعاطف – افترض أن المساجد وخطب الجمعة والمراجع ورجال الدين ليسوا مصدرا سياسيا لإدارة الدولة، وعليهم كصحافيين بث رسالتهم بأقوى ما قدر لهم من أجل منع استمرار وقوع الناس في شراك اللعبة الدينية.

بدلا من ذلك قام الصحافيون في العراق بدور الهامش الخاضع لما يمليه رجال الدين من خطب المنابر، وليس الناقد المفكك لتلك الأفكار، بل وصل الحال ببعضهم إلى اعتبار بيان المرجعية في النجف أشبه بالبيان الشيوعي الجديد الذي لم يكتبه ماركس. يا للخيبة! أو بتعبير الزميل فاروق يوسف “أفهم أن المغالاة والمبالغة هما طبعان عراقيان غير أنني لا أفهم كيف يصل الإسلاميون إلى مستوى قبيح من الصلافة يؤهلهم لتسويق الرذيلة والخداع والتضليل والقبح بما لا يليق بالعقل السليم”.

يمكن أن تفهم صلافة رجال الإسلام السياسي في العراق اليوم، لكن يصعب أن نتقبل أن يصبح الصحافيون هامشا لهم، ولسوء حظ العراقيين الدائم، أن الصوت المفترض أن يعلو لمنع الفساد صار شريكا في صناعة الفساد.

سجلت كل الجرائم المريعة في العراق على مدار السنوات المريرة الشاحبة، ضد مجهول وفق البيانات الحكومية، غير أن الفاعل اليوم في الجريمة المستمر ارتكابها ليس مجهولا، عندما وضع الإعلام في العراق نفسه شريكا في صناعة الجريمة واستمرارها بقبوله خاضعا للدور الذي وضعه السياسيون ورجال الدين، بدلا من أن يكون ناقدا ومحاسبا لهم. فالصحافة الحرة تعني فسادا أقل.

لقد فقد العراقيون الثقة بمفهوم الدولة بمجرد انهيار القضاء وتحوله إلى مصدر لإصدار البيانات المعبرة عما تريده الحكومة ولا تزعج بها رجال الدين، لكن قوة المجتمع تكمن في الثقة الكامنة في إعلام معبر عنه، وبمجرد أن يفقد الثقة بهذا الإعلام، يقع المجتمع العراقي في المتاهة أكثر مما هو تائه اليوم.

لم يشعر التاريخ العراقي بالهول أكثر مما يشعر به اليوم إثر الاختطاف الطائفي لشعب كامل، وعلى عكس ما ينبغي أن يكون عليه الشهود بقصصهم المصورة والموثقة على هذا الاختطاف، كانوا شركاء في عملية الاختطاف الطائفي. وتلك محنة مهولة تصيب العراقيين عندما يكون صوتهم الإعلامي شريكا في اقتيادهم صوب الكارثة.

لقد تغير السؤال الذي أطلقه العراقيون على أنفسهم بعد أيام من صدمة الاحتلال “هل نحن مختلفون إلى هذا الحد؟” إلى ترقب عما ينتظر البلاد بعد أن سقط القضاء وأصبح الإعلام هامشا للفساد؟

سأقبل في كل الأحوال، تهكم أي زميل صحافي في العراق بشأن السؤال المشروع عما إذا كنت سأبقى أفكر بنفس الطريقة التي أفكر بها الآن، لو تعرضت مثلهم لكل هذا الغسيل الهائل للدماغ منذ دخول البلاد في لجة الاحتلال عام 2003؟ وهل سأبقى أطالبهم بما أطالب به الآن؟

لسوء الحظ لا أعرف الإجابة حقا، لذلك سأبقى أتعاطف مع زملائي الصحافيين في العراق وهم يعيشون الكارثة ويشتركون في استمرارها سواء عن رضا أو مرغمين عليها.