مهمة تصحيح ثلاثة مسارات فلسطينية

القناعة التي وصلت إليها دوائر سياسية مصرية كثيرة، أنه لا أمل في تفاهمات واتفاقيات فلسطينية تصمد لفترة طويلة بين القوى المختلفة.

القضية الفلسطينية حافلة بالمسارات السياسية والأمنية والاقتصادية، ولكل منها طريق أو أكثر يتشابك مع الآخر، يحتاج شروح وتفسيرات متعددة لفك ألغازه. خلال الفترة الماضية دخلت، ولا تزال، القوى الفلسطينية في سلسلة من المناوشات، كلما انطفأت نيران إحداها اشتعلت مرة ثانية بدون سابق إنذار.

القناعة التي وصلت إليها دوائر سياسية كثيرة، أنه لا أمل في تفاهمات واتفاقيات تصمد لفترة طويلة بين القوى المختلفة، لأن الحسابات التي تتأسس عليها التصورات والتصرفات من الصعوبة أن تلتقي عند نقطة ثابتة. البعض تعامل مع حديث المصالحة وفك الحصار وحل الأزمة الانسانية في غزة والتهدئة العسكرية والتسوية السياسية، على طريقة العنقاء والخل الوفي، كدليل على استحالة العثور عليهم.

مصر في مقدمة الدول التي تعاملت مع مستحيلات القضية الفلسطينية باعتبارها ممكنة. بذلت جهدا مضنيا لتقريب المسافات بين حركتي فتح وحماس والالتفاف حول ورقة أو مقترحات المصالحة. قدمت تسهيلات كبيرة لوضع نهاية لمأساة سكان غزة، في وقت حاول فيه كثيرون توظيفها سياسيا.

اللقاءات الماراثونية في القاهرة، شملت أطراف فلسطينية ودولية. وصل وفدان من فتح وحماس، وحل نيكولاي ميلادينوف مبعوث الأمم المتحدة للسلام في الشرق الأوسط. ولم تتوقف جهود الوساطة لتثبيت التهدئة العسكرية بين إسرائيل وحماس، خشية أن تنزلق المنطقة إلى حرب جديدة، قد يخسر فيها من يعتقدون أنها ملاذ لهم.

المشاهد التي مرت في المنطقة مؤخرا، تؤكد ضرورة حدوث مراجعة فلسطينية، وعدم التمادي في الخصومة السياسية، لأن القضية الأم دخلت منعطفا خطيرا، مع ذلك قد تخرج من رحمه فرصة لحل كثير من الأزمات، التي تريح غالبية الأطراف الباحثة عن الهدوء الحقيقي.

يمكن التوقف عند ثلاثة مسارات رئيسية، إذا تم تصحيحها وأخلصت النوايا الفلسطينية حيالها وجرى التعامل بجدية مع الطروحات المصرية، سوف تتغير الكثير من المعالم التقليدية التي رسخت في الأذهان وجعلت من استحالة الحل أمرا منطقيا.

المسار الأول: حل الأزمة الإنسانية في قطاع غزة. بدأت البوادر تتجلى من خلال فرملة المحاولات الرامية إلى استغلال الأزمة في مآرب سياسية، من قبل قوى فلسطينية وقطر وتركيا وإسرائيل، علاوة على الولايات المتحدة التي اعتقدت أن الأوضاع المتدهورة سوف تكون مناسبة لإطلاق مبادرتها المسماة إعلاميا "صفقة القرن".

الجميع عزفوا ألحانا مختلفة، لكنها تصب في مربع واحد. مربع فصل القطاع عن الضفة الغربية. وهو ما انتبهت إليه مصر مبكرا، ومضت توجهاتها تسير في خطوط متوازية لمنع إيجاد أمر واقع يسمح بتحويل الفصل الرمزي إلى واقع مادي.

المياه التي جرت في هذا الاتجاه تدفقت بسرعة شديدة، بشكل يصعب صدها، لأن من وقفوا خلفها امتلكوا أنواعا متباينة من القوة، السياسية والإنسانية والأمنية والإعلامية، إلى أن حانت الفرصة وبدأ يتوارى قليلا هذا السيناريو.

إغلاق صفحة هذا الملف تماما يستوجب من القوى الفلسطينية وضع تسوية عملية له. فإسرائيل التي أغلقت معبر كرم أبوسالم لزيادة حدة التضييق على المواطنين في غزة، اضطرت إلى الرضوح لفتحه عندما وجدت خسائرها تتزايد. لذلك مطلوب من فتح وحماس عدم التمادي في الخصومة والانتباه إلى أن المشاركة في الحصار، عبر تبني خيارات سلبية، يضع على عاتقهما أو كلاهما حملا ثقيلا.

تصحيح المسار الإنساني- الاقتصادي الذي قدمت فيه مصر جهودا كبيرة وبديعة، على علاقة وطيدة بمسارات أخرى مؤثرة. يكفي أنه يوقف عمليات المتاجرة به، ويقطع أذرع القوى التي ترى فيه مدخلا لمزيد من الإنحراف السياسي في الأراضي الفلسطينية.

المسار الثاني: الخروج من نفق المصالحة الغامض. يمثل الدخول في تفاهمات جادة بين فتح وحماس أحد الأدوات الرئيسية لإستعادة القضية الفلسطينية لجزء معتبر من عافيتها على الصعيد الدولي. ويحرم إسرائيل من المرواغات السياسية التي اعتادت ممارستها، بذريعة وجود أكثر من صوت فلسطيني.

تحت هذا العنوان بدأت إسرائيل تشكك المجتمع الدولي في أن الرئيس محمود عباس، يفتقر للإجماع الوطني، وأخذت تماطل بحجة أن حماس جماعة "إرهابية" يصعب الجلوس معها على طاولة واحدة، بينما في الحقيقة لا تتردد في الحوار معها عبر قناتي قطر وتركيا.

وصول وفد من فتح وآخر حماس إلى القاهرة وإجراء مشاورات مع مسؤولين مصريين، واحتمال توجيه دعوة رسمية قريبا للفصائل الفلسطينية الفاعلة، يفتح باب الأمل لتكوين رؤية أكثر ثباتا لتطبيقها على الأرض. وأكدت خبرة الأشهر الماضية عدم قدرة كل طرف (فتح أو حماس) على الفوز بالمباراة، لأنها تتكون من أشواط عدة، سوف تستغرق بهذه الطريقة سنوات طويلة، تصاب فيها القضية الفلسطينية بمزيد من التشويه.

المسار الثالث: التفاهم على صيغة شاملة للتسوية السياسية. لم يعد التباعد الفلسطيني الحاصل حول السلام مجديا. من الضروري الالتفاف حول تصور عملي، يركز على الثوابت والمنطلقات الأساسية، لأن التصور الأميركي الرائج كشف عن قصور في قراءة المشهد على حقيقته، وتلقت واشنطن تحفظات حاسمة على صفقة القرن، من مصر ودول عربية عدة.

النتيجة أن الولايات المتحدة تراجع الآن طرحها، وتأكدت أن من تصدروا الترويج له ليسوا أكثر من هواة سياسيين خرجوا من البيت الأبيض نحو الشرق الأوسط، بحاجة لحنكة وحكمة ورشادة تمكنهم من إقناع الأطراف المعنية بالتسوية أولا، لأن السلام لا يمكن فرضه من أعلى إلى أسفل، وما لم تكن هناك قوة معنوية تحميه، يستحيل على أي قوة مادية أن تفرضه، حتى لو اعتقدت أنها تملك من القوة العسكرية المفرطة الكثير.

المراجعة الحالية، تمت بعد وصول الرسائل المصرية لأسس التسوية، التي حددها الرئيس عبدالفتاح السيسي، إلى من يعنيهم الأمر في واشنطن وغيرها، ما يسمح بإعادة الحديث عن السلام، ومحاولة استثمار اللحظة الراهنة التي تبدو فيها أطراف إقليمية ودولية مستعدة لمناقشته بما يجعله حلا ممكنا.

لذلك على الطرف الفلسطيني، بأطيافه المختلفة، تصحيح مسار التسوية والجلوس والتفاهم حول المطالب التي يجب تحقيقها والاستعداد ليكون هناك وفد تفاوضي مخول قبول أو رفض ما يطرحه الراعي الأميركي، أو أي راع آخر. وفد غير خاضع لحسابات حركية أو أيديولوجية. فقط يتصرف من وازع وضمير ورؤية وطنية، سوف تكون كفيلة بتخفيف المعاناة عن قطاع كبير من المواطنين.