نقد الحاضنة الثقافية لتصريحات أدونيس بمصر

نحن بحاجة لتغيير الصورة الذهنية المستقرة عن الذات العربية ولا نحتاج لهدمها.

في احتفالية شعرية بالقاهرة مؤخرا جمعت عبدالمنعم رمضان الشاعر السبعيني صاحب العرس، ود.جابر عصفور عراب الثقافة المصرية السائدة منذ التسعينيات، وأدونيس أيقونة مجلة شعر اللبنانية في القرن الماضي، بالإضافة إلى آخرين، سرق أدونيس منصة الاهتمام بتصريحات اعتاد اجترارها في السنوات الأخيرة، لكن المختلف هذه المرة أن تصريحات أدونيس جاءت والمصريون يحلمون باستعادة ذاتهم الجماعية ونفخ الروح في مستودع هويتهم، جاءت والمنطقة العربية تشهد إرهاصات متجاورة للميلاد والوأد في آن واحد، بما يستحق الخروج لأدونيس وطرح وجهة نظر اخرى على الطاولة، ونقد الحاضنة الثقافية التي انتهت إلى تصريحات أدونيس.

مصر قلب الحاضنة وحافظة مستودع الهوية

في البداية يجب الإشارة لوجود خيط يجمع أدونيس بالسبعينيين بالعراب التسعيني وهذا الخيط سيتضح عبر الحديث، إذا قلنا أن لكل جماعة بشرية مركز وأطراف، واعتبرنا المنطقة العربية كانت تتكون من بلاد الشام والخليج والحجاز ومصر والسودان وبلاد المغرب العربي، فيصح القول أن مصر كانت هي مركز المنطقة العربية وقلب الحاضنة التاريخية لها وحافظة مستودع هويتها، وبالتالي عبر التاريخ كان لدى المصريين متخيل بمسئولية والتزام تجاه المنطقة، وهذا المتخيل كان يتمثل في القيم ومحددات الهوية وكذلك في الأدب وتمثلاته كلسان حال ناطق للأمم.

لكن ما علاقة كل ما سبق بالسبعينيين ومجلة شعر البيروتية والعراب التسعيني! والحقيقة أن العلاقة أوضح من أن يلتفت لها أحد! كان شعر الواقعية المصرية بأشكاله المتنوعة عند عبدالصبور وحجازي ودنقل هو آخر حلقات الحاضنة المصرية في علاقتها بالتزامها تجاه جماعتها العربية ومستودع هويتها، ولم يجرؤ هؤلاء تحت أي ظرف بتجاوز التزامات هذه العلاقة مهما ضعفت أو قويت.

بلاد الشام: سهولة استقبال الطرف للوافد

لكن الأمر لم يكن كذلك للطرف في بلاد الشام أو لبنان تحديدا. فرغم أن ادونيس سوري المولد إلا أن مشروعه تفتح في لبنان ومع مجلة شعر. يمكن القول أن بلاد الشام ساهمت بدور كبير في تلقي مجموعة المعارف الغربية أسرع من غيرها تحديدا في مصر، لأن المركز والحاضنة التاريخية لمنطقة ما في العالم عادة ما يرفض استقبال الوافد بسهولة، عكس الطرف المنتمي للحاضنة نفسها الذي لا يحمل تلك المسئولية التاريخية، وهنا نذكر السينما والصحافة والمسرح ودور الشوام في استقبالهم ودورهم في نقلهم إلي مصر أيضا.

الواقعية المصرية ضد القطيعة البيروتية

الشاهد هنا أنه لم يكن من السهل أبدا أن يسود نمط أدبي في مصر يتخلى عن علاقته بالمتخيل الجماعي والعربي بسهولة، لذا استقبل الطرف في لبنان مدارس الأدب الأوروبي وأفكارها التي تعلن قطيعة مع الذات وتتخلى عن كل ثوابتها بشكل سريع، في حين كانت مدرسة الواقعية المصرية بتنوعاتها ما تزال على صلتها التاريخية.

ولم يبادر إلى كسر صلة الأدب المصري بفكرة الجماعة العربية والتزاماتها التاريخية، سوى مجموعة صغيرة ظهرت في السبعينيات ولأسباب تتعلق بالسياق التاريخي، وانسحاب السياسة المصرية من حاضنتها أيضا، أصبح لهم مركز الصدارة في المشهد المصري ورصف الطريق لهم بشكل خفي وناعم ليكونوا الظهير الثقافي، لحالة الانسحاب السياسي المصري الرسمي من التزامات حاضنته التاريخية. وبطبيعة الحال كانت هذه هى المرة الأولي التي تمتلك الجرأة فيها مجموعة أدبية لتعلن انسلاخها عن ذاتها الجماعية وانكفائها على ذاتها الفردية، بما يصحب ذلك من نزق ومزاجية وإعلاء الشكلي والأسلوبي على المضمون، كأحد أعراض التخلي عن الجماعة وقيم مستودع الهوية بالتبعية.

 ولأن هذه الحالة كانت غريبة على المركز/ مصر في علاقته بمستودع هويته وحاضنته التاريخية، لم يجد السبعينيون لهم امتدادا في المشهد العربي، سوى في أدونيس ومدرسة مجلة شعر في الطرف/ لبنان/ الشام التي استقبلت قبلهم حالة الانسلاخ عن الذات.

السبعينيون والقفزة التسعينية

غير أن السبعينيين كانت لهم حالة خاصة من الازدواج القيمي والمراوحة ما بين الحنين لدور الحاضنة المصرية التاريخية في علاقتها بالجماعة العربية ومتخيل الهوية والالتزام تجاهها، وحالة التخلي والانسحاب. ثم جاء التسعينيون بأفكار خراب العالم وخراب الذات ليتجاوزوا أو يقطعوا الطريق على حالة الشيزوفرنيا عند السيعينيين والازدواج القيمي، ليعلنوا قتل وموت حالة المراوحة لصالح انفرادهم بحالة التخلي وإعلان نهاية وموت الجماعة تماما، وهو ما يفسر العلاقة الجدلية والمتناقضة في كثير من الأحيان بين السبعينيين والتسعينيين. فأحيانا يراهم السبعينيون الأبناء البررة لهم في فكرة التمرد والذاتية والجسد، وأحيانا أخرى يغضبون عليهم لتعاليهم على اللغة وجمالياتها وتقريرهم النهائي بخراب العالم الذي مازال يتراوح داخل السبعينيين. إلا أنه عند اشتداد الجدل بينهما يعلن التسعينيون أنهم ورثة القصيدة البيروتية وأن امتدادهم الأدبي التاريخي الفعلي يتجلى في مدرسة شعر اللبنانية، رغم التنوعات الأسلوبية فيما بينهم، إلا أن الإطار الحاكم يظل الخروج من الذات ومستودع هويتها وحاضنتها التاريخية.

هرمجدون الأدب العربي: تحالف المعركة الأخيرة

أومن أن أي نمط إنساني قبل أن يضمحل لا بد ان يصل لذروة عنفوانه ويقدم أقسى ما عنده. وأعتقد أن استحضار أدونيس أيقونة مجلة شعر البيروتية، وتصريحاته تجاه الذات العربية والتراث والمنجز العربي كانت هي واحدة من المرتفعات الأخيرة لتيار التخلي عن الحاضنة التاريخية ومستودع الهوية والذات الجماعية في المركز/مصر، فيبدو أنه يتجمع عندنا في الأفق ما يشبه تحالف المعركة الأخيرة؛ أو الإطلالة الأخيرة لنمط التخلي عن التزامات الحاضنة العربية قبل ان يذوي، فليس من قبيل الصدفة أن تجد عصفور إلى جانب بعض التسعينيين وأدونيس وعبد المنعم رمضان والسبعينيين في الاحتفالية، ولم تكن تصريحات أدونيس في القاهرة موقفا اعتباطيا أو فعلا للصدفة والعشوائية، إنما هي جاءت فيما يشبه حلاوة روح النزع الأخير في الحياة.

معضلة 25 يناير واستعادة الذات الجماعية

أزمة هذا التحالف قائمة منذ أن صححت المعادلة مسارها تلقائيا وخرجت الجماهير مطالبة باستعادة ما لها في يناير 2011 وخضم الثورة العربية الكبرى، فكان هذا التحالف ينتظر أن يُمكن له عن طريق علاقته مع سلطة ما بعد الاستقلال والدولة الوطنية السائدة منذ أواسط القرن الماضي في الحاضنة العربية، وكان يظن ان علاقته الوشيجة والدور الذي يقدمه للثقافة سوف يكلل بأن تنتج هذه العلاقة شكلا ما لإعادة إنتاج النموذج الغربي في نهاية المطاف. لكن الحراك الطبيعي للبنية التحتية العربية والقاعدة الشعبية كشف زيف بضاعة هؤلاء وأنها قشرة خارجية دخيلة لا تعبر عن شيء، والمعركة منذ حينها مشتعلة تحت السطح بين حملة مشروع البنية التحتية العربية والمعبرين عن الرغبة في العودة للحاضنة العربية ومستودع هويتها، وبين دعاة الانسلاخ عن الذات العربية واستنساخ النموذج الغربي فيها.

زلزال ثقافي في المعبد القديم

اهتزت الأرض تحت أقدام البنية الثقافية السائدة في المشهد المصري، وفي قلبها السبعينيون والتسعينيون. فقد اشتدت حالة التمرد على الأفكار المقدسة التي كانوا يصدرونها للمشهد، بداية من حالة الرطانة الثقافية المنفصلة عن واقعها التي قدمتها ثقافة التسعينيات وتحويلها الثقافة لمجرد حلية لا علاقة لها ببنيتها التاريخية أو الحضارية، مرورا بالقداسة الكبرى التي كان يعطيها السبعينيون لفكرة الذات المستقلة عن الجماعة وعالمها الخاص، وتفاصيله الأسطورية وطبقاته المتعددة كبديل عن حضور الجماعة والالتزام تجاهها، وصولا لحالة تصدير القبح والتحلل من كافة القيم التي قدمها التسعينيون.

وشيئا فشيئا أخذ عود خطاب العودة للحاضنة التاريخية يشتد في مواجهة القيم الثقافية التي كانت سائدة في مشهد ما قبل ثورة يناير، وبدأ التحول في القيم السائدة على استحياء يغزو المشهد المصري، والأصل هنا هو أن يعود دعاة التخلي عن مستودع الهوية لمواقعهم في الهامش، ويعود خطاب المتن لطبيعة مسئوليته وموقعها كما كل المجتمعات، فما فعله "تحالف الخروج من الذات العربية" هو شيء طبيعي في كل المجتمعات في فترات الاضمحلال، حينما تسود "قيم الضد" ويظهر "البطل المضاد" الذي يواكب مرحلة الانهيار ويعبر عنها، ولكن من الطبيعي أيضا أن يتراجع خطاب تلك الفئة ويعود ليأخذ مكانه الطبيعي كمجرد تنويعة في المزيج البشري الموجود في مجتمعه.

لذا أعتقد أن استدعاء أدونيس كان هو آخر الأوراق في جعبة المشروع السبعيني/التسعيني وثقافة الانسلاخ عن الذات، أعتقد أن حضور أدونيس كان محاولة للاحتماء بالأيقونة الخاصة بذلك النمط الثقافي الآفل، ومحاولة أخيرة بائسة للتشبث بالحياة، عن طريق تصريحات أدونيس بخراب الذات العربية وعجزها التام وأن تراثها والعدم يكاد أن يتساويا! أعتقد أن أدونيس من حيث أراد أن يمنح هذا التحالف الحياة، سوف يمنحه قبلة الرحمة، وبدلا من أن ينفخ فيها سوف يسحب ما تبقى في صدرها من أنفاس ليكتب خريف فصولها الأخيرة.

نهاية التناقضات أم محاولة التأكيد على دورها

وبالعودة لأدونيس؛ بالإضافة لنموذج التفسير الكلي الذي وضعته عن علاقة المركز والأطرف والتزام كل منهما تجاه حاضنته التاريخية بين مصر كمركز والشام كطرف، يوجد نموذج تفسير جزئي على مستوي التفاصيل أو التنخيب الزائف وخلق الأنماط الفرعية التي تشغل المشهد بالتبعية لنمط ما رئيسي أو ما يمكن تسميته إدارة وخلق التناقضات لشغل المشهد العام في مجتمع ما، فإذا اعتبرنا أن كل نظام سياسي او بنية اجتماعية تخلق معارضتها، أو أن كل نمط سائد يحدد بدرجة ما أنماطه الهامشية.

فيجوز القول بأن المشهد العربي منذ مرحلة الاستعمار الحديث وما بعد التحرر والدولة الوطنية والمشروع القومي، يستقطب ويرعى عدة أنماط على هامشه، هذه الأنماط يكون الغرض منها الإشغال وسد الفراغ الذي مفترض أن يشغله أهله من دعاة تحمل المسئولية التاريخية لمستودع هوية كل مجتمع بشري، ووفق نموذج التفسير الفرعي عن التنخيب الزائف، يمكن القول أن أدونيس ورفاقه شغلوا المشهد الموازي لأنظمة ما بعد التحرر في القرن الماضي، عوضا عن تيارات وحركات فكرية تنشأ خارج الأطراف التقليدية تسعى لاستعادة النهضة العربية، حيث لم يواجه أدونيس ورفاقه الاختيارات الفكرية للأنظمة العربية في القرن العشرين، ولم يحاولوا أن يقدموا بديلا لها يخرج من بنيتها التحتية وحاضنتها الثقافية والتاريخية.

واكتفوا بأن ينادوا بتغير فوقي يقوم على الخروج من الذات العربية لا البحث عن أماكن ضعفها ونقاط قوتها، ونقد مسار البنية الاجتماعية العربية في علاقتها بالسلطة والدين، يريدون ان يقدمون تصورا لنظرية "الجشتلت"، نظرية تقول بفساد الذات العربية كلية وفقدان الأمل من نقد تفاصيلها وإعادة تركيبها مرة أخرى، بمواجهة عيوب البلاد والمجتمع العربي بصراحة والبحث في سبل نهضته من داخل ساقه الثقافي والتاريخي.

تشكل النمط البديل

لهذا أقول ختاما إن التراث العربي كغيره من تمثلات الحالة العربية، يحتاج لنقد المسارات التي أنتجته ونقد أشباهها الزائفة الحالية في المشهد الراهن. فدعاة الانسلاخ عن الذات العربية لا يختلفون كثيرا عن فقهاء السلطان وأبنية الانتهازية السياسية والثقافية عبر التاريخ العربي الممتد، الذين أزاحوا كل تجربة حقيقية وساروا وراء خطواتها بممحاة وفرشاة ألوان منتحلة، التراث العربي والموروث الشعبي يحتوي على قيم رائعة، وهناك مسكوت عنه في تاريخ الآدب المصري والعربي، مسكوت عنه كحكايات علي الزئبق ورجال مقاومة الاحتلال الأجنبي عبر تاريخه المشرف. نحن نحتاج لتغيير الصورة الذهنية المستقرة عن الذات العربية ولا نحتاج لهدمها، ونطمح لاستحضار نماذجها الفردية الفاعلة تمهيدا لبناء مستقبل جماعي، نحتاج لتبيان نقاط الضعف في مسار إنتاجاتها لتتفق مع طموح المستقبل، والعودة للحاضنة التاريخية العربية ومستودع هويتها والتزاماته.

هناك إرهاصات عربية للبحث عن نموذج جديد، خارج التناقضات والمسارات السياسية لليمين واليسار المهيمنين طوال القرن الماضي كتناقض حاجز لتطور اختيارات بديلة، وفي ظني ستصمد الإرهاصات العربية البديلة في دربها حتى تؤدي دورها وتقدم ما يصلح البناء عليه حين تأتي الفرصة، وما كانت تصريحات أدونيس الأخيرة إلا هبة النمط الأخيرة ووصوله لذروته واستهلاكه لنفسه، تمهيدا لاضمحلاله وتجاوزه بكل تناقضاته إلى المستقبل الآمل.