وبَطُل السِّحر «المقدس»!

ماذا عن الهالكين في قيظ البصرة اللاهب، أتراهم يعودون خانعين للسحر المقدس، بتقبل الوهم الطائفي؟

دخلت الاحتجاجات في عمق الجنوب العراقي أسبوعها الثاني، فالوضع وصل إلى حد اليأس، لم يبق من البصرة الزاهرة والمتمدنة سابقاً سوى شبحها، وكذلك بقية المحافظات، أصبحت السلطات المركزية والمحلية دوائرَ للاستحواذ والنهب، والأحوال من سيء إلى أسوأ.

كانت الاحتجاجات، في ما مضى، ضد معاهدات مع دول أجنبية، مثل معاهدة «بورتسموث» (1948)، وضد أحلاف دولية كحلف بغداد (1955)، والسُّلطة تستجيب وتلغي ما عقدت، على الرغم من قناعتها بفائدة ما رسمت. فليس لديها ما تلوذ به من «السِّحر المقدس»، تحرك الناس أحزاب هيمنت على الشارع بشعاراتها، معتبرة «مجلس الإعمار» العظيم «مجلس الاستعمار»! تخيلوا حجم البطر السياسي قياساً بمجالس النهب والسلب في الوقت الراهن.

أما احتجاجات اليوم، وليس لها أي استجابة، فمن أجل الخُبز والأمن والطب والماء والكهرباء، ووقف النهب من قِبل الجماعات المتنفذة دينياً وعشائرياً. فما قيمة الديمقراطية عندما تُمنح لمن يهدده العطش والمرض والجهل، يزور فيها صندوق الانتخابات ويُحرق، والميليشيات تتحكم بالأصوات؟!

ليس أكثر من «المقدسات» بعراق (2003)، بين حين وآخر تعلو قبةٌ ترفرف فوقها الرايات الخضراء، لم تنته سلسة من عُرفن ببنات الحَسن، كما لم تنته سلسة أبناء موسى الكاظم (ت 183هـ)، ناهيك عن أضرحة المراجع السياسيين، وقد علت قببها على قبة الضريح العلوي بالنجف، بعد الهيمنة على الأرض والمال.

يظهر بين فترة وأُخرى مهدي منتظر، فالفكرة متشبعة بالخيال وقابلة للاستغلال سياسياً، تبناها مهديون بالسودان (1881)، وتبناها جهيمان العتيبي بمكة المكرمة (1979)، وباسمها تأسست دول، كالدولة الفاطمية بمصر (358-567هـ) وهي نفسها العبيدية بتونس، ودولة الموحدين (541- 634هـ) أسسها محمد بن تومرت (ت 524هـ) بمراكش، أعلن نفسه مهدياً معصوماً، ويُذكر أن خليفته عبدالمؤمن بن علي (ت 558هـ) قتل القاضي عياض المالكي (544هـ) لأنه لم يقرّ بعصمة ابن تومرت (الذَّهبي، سير أعلام النُّبلاء).

ما تقدم كان زمناً خالياً من اختراعات واكتشافات، لكن الكارثة أن العراق، الذي تقدم سراعاً، عاد منكوساً، أخذ يتقبل كل فكرة مغايرة للعقل، فظهر مهديون كثيرون، وكلٌّ يغرف رواياته من «بحار الأنوار»، جماعات ليست أكثر انحطاطاً من زعامات الأحزاب الدينية، احتلوا منابر دور العبادة، ويلقون منها محاضراتهم في كيفية ظهور المهدي، لترويج تجنيد الشباب العراقي للقتال، ضمن الميليشيات بسوريا، أي يستعدون لتلبية الواجب في الحرب، أو حسب نص عبارة الخطيب «المهام الكبرى»، التي سيقودها المنتظر، المرتبط ظهوره بالتفجير النووي، والمقصود قنبلة إيران النووية، فهي جزء من هذا المقدس عنده، وستفجر بأمر المهدي. هذا ما أوحى به الرئيس الإيراني السابق (أحمدي نجاد) من على منبر الأُمم المتحدة. تصوروا أن صاحب هذا المنبر من المتنفذين، سياسةً وسلاحاً، يُلقي خطبه على الجمهور، مستحوذاً على أحد أقدم مساجد بغداد.

ومثل صاحب المنبر ذلك يوجد المئات، يبيعون ويشترون بعقول البسطاء. كم قائمة انتخابية سُميت باسم إمام! وأرض وعقار وجامعة تم الاستحواذ عليها باسم إمام! كم منصب قفز إليه صاحبه باسم إمام! خمسة عشر عاماً من العمى الثقافي، حتى صارت فترة الحصار القاتم (1990-2003)، فترة تنوير ورقي قياساً بما حدث بعدها، ولكم قياس عمق المأساة. لهذا أنجز كُتابٌ وباحثون عراقيون كتاب «الرَّثاثة في العراق: أطلال دولة ورماد مجتمع، نصوص تشريحية للوظيفة الهدامة للإسلام السياسي» (بغداد 2015).

أخذ أصحاب المنابر الدينية، من الأحزاب والميليشيات، يهدمون بسحرهم المقدس ما تبقى من الثقافة، عندما يظهر خطباؤها وينصحون الناس بالسُّكوت على سوء الحال، مقابل حرية اللَّطم والتهديد بالآخر الطائفي. مع ذلك لم يعد الحديث مجدياً عن (الشهداء) و(الجهاد)، لأنهما في ظل الأحوال السقيمة صارا مثاراً للتندر. لم يعد اتهام المحتجين بأنهم بعثيون وإرهابيون نافعاً، ولم تعد «عشائر الإسناد» جاهزة للقضاء على كل تظاهرة واحتجاج، مثلما حدث مع محتجي ساحة التحرير (2011).

تظاهرات اليوم، والتي لا يُعقد عليها أمل، إذا ما قبلت بتأييد الأحزاب لمطالبها بنية إخمادها، والأسوأ أنها بلا قيادة، فقد يتم الالتفاف عليها مثلما حصل مع احتجاجات ساحة التحرير، التي كادت تحطم أسوار الخضراء، فدخلت عليها قوى دينية من مصلحتها الحفاظ على الوضع القائم. إلا أن أهم درس من تظاهرات الجنوب أن السحر المقدس لم يُعد مفيداً، فاسم «الحُسين» لن يظل قابلاً للتوظيف إلى ما لا نهاية.

قال الصافي النجفي (ت 1977) رابطاً بين وجود الثروة النفطية (الأربعينيات والخمسينيات) وما يُنتظر منها من نور وتنوير، وحينها، على قلتها، وجهت لتشييد بُنية تحتية هائلة، إلا أن للشاعر هواجسه حقاً أو باطلاً: «والنفط يجري في العراق ومالنا/ ليلاً سوى ضوء النُّجوم سراج» (عز الدين، الشعر العراقي الحديث). فماذا عن اليوم مع وجود الثروة النفطية الغزيرة، والعراق يشتري كل شيء من الكهرباء إلى الفجل؟ ماذا عن الهالكين في قيظ البصرة اللاهب، أتراهم يعودون خانعين للسحر المقدس، بتقبل الوهم الطائفي؟!