يحق للعراق ما يحقّ لإيران

حيدر العبادي سيكون في موقف لا يحسد عليه، اللهمّ الّا اذا قررت الولايات المتحدة ولو لمرّة ان تقف بحزم مع من يقف معها.

يوفّر الغضب الايراني على رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي رصيدا وطنيا للرجل. لم يعد مستبعدا ان يكون المستقبل السياسي للعبادي صار مرتبطا بمدى قوّة النفوذ الايراني في العراق. يرفع موقف العبادي من العقوبات الاميركية على ايران من قيمة الرجل الذي كانت هناك نظرة سلبية تجاهه بسبب انتمائه الى حزب مذهبي مثل "حزب الدعوة الاسلامية" الذي يعتبر نسخة شيعية عن الاخوان المسلمين.

اتخذ العبادي، الذي يشفع له انّه لم يقم في ايران في اثناء معارضته لنظام صدّام حسين، موقفا شجاعا عندما اعلن ان العراق سيلتزم العقوبات الاميركية على ايران. أورد تحفظات كثيرة عن العقوبات ووصفها بـ"الظالمة" وانّها "خطأ استراتيجي"، لكنّه اكد في نهاية المطاف ان العراق ملتزم تطبيقها. كشف بذلك انّه يتمتع بحدّ ادنى من الشعور الوطني ورغبة في حماية مصالح العراق. يعرف رئيس الوزراء العراقي، مثلما يعرف غيره، انّه يمكن ان تتصالح الولايات المتحدة مع النظام في ايران غدا. سيعود عندئذ شهر العسل الذي ساد في مرحلة ما قبل الاجتياح الاميركي للعراق في العام 2003 او في السنوات الثماني التي أمضاها باراك أوباما في البيت الأبيض. هل يحق لإيران إقامة افضل أنواع العلاقة مع اميركا وابتزازها في الوقت نفسه يوميا، ان في سوريا او العراق او لبنان او اليمن، فيما لا يحق للعراق ان يسأل نفسه عن مكمن مصالحه ومصالح مواطنيه وان يعمل على الدفاع عن هذه المصالح؟

اذا كان جورج بوش الابن سلّم العراق على صحن من فضّة الى ايران، فان أوباما هو من استكمل عملية التسلّم والتسليم هذه على نحو رسمي في العام 2010. لماذا يحق لإيران التنسيق الكامل مع الاميركيين، وصولا الى الاتفاق على من يكون رئيس الوزراء في العراق، ولا يحق للعراق نفسه ذلك؟ هل قدر العراق ان يكون مجرّد تابع لإيران وان يضحي بنفسه من اجلها؟

مرّة أخرى، يتبيّن ان العراق يرفض الاستسلام نهائيا لايران. ما فعله العبادي تعبير عن الرغبة العراقية في المقاومة. برّر موقفه بكلام في غاية البساطة عن الرغبة "في عدم تعريض العراقيين للضرر وحماية شعبنا". مضيفا: "لا نستطيع الخروج عن المنظومة الدولية". بات العبادي بعد السنوات التي أمضاها في السلطة يعرف ما الذي تعنيه العقوبات الاميركية على ايران وطبيعة الدور الاميركي على الصعيد الدولي. ربّما يعي خصوصا الوزن الاقتصادي للولايات المتحدة التي يشكّل اقتصادها ربع اقتصاد العالم.  

لا يمكن باي شكل الاستخفاف بما اقدم عليه رئيس الوزراء العراقي الذي رفضت طهران استقباله احتجاجا على الإعلان عن التزام بلده تطبيق العقوبات الاميركية. فعندما يواجه العبادي ايران في موضوع حسّاس مثل العقوبات، يكون الرجل يعلم جيّدا انّه يخوض معركة مصيرية. يكفي الكلام الصادر عن آية الله مجتبي الحسيني ممثل "المرشد" الايراني علي خامنئي في العراق للتأكّد من ذلك. ذهب الحسيني، المقيم في النجف، الى حدّ اتهام العبادي بانّه "ينخرط مع اميركا ويخضع لها في مؤامرتها على ايران التي هي جارة العراق والتي تتحد مع الشعب العراقي في الدين والمواقف". بالنسبة الى ممثل خامنئي في العراق فانّ  "الشعبين العراقي والإيراني تجسيد للحمك لحمي ودمك دمي. انّهما بمنزلة شعب واحد". يذكرّ كلامه بالكلام الذي كان يصدر عن الرئيس الراحل حافظ الأسد ابان الوصاية السورية على لبنان عن انّ الشعبين السوري واللبناني "شعب واحد في بلدين".

يعطي موقف رئيس الوزراء العراقي فكرة عن جدّية العقوبات الاميركية على العراق والرغبة الواضحة لادارة ترامب في الذهاب بعيدا في تطبيقها. الأكيد ان للرجل حسابات خاصة به تفرضها الصعوبات التي تواجه عودته الى الموقع الذي يشغله منذ العام 2014 خلفا لنوري المالكي بطل فضيحة اجتياح "داعش" للموصل وتراجع الجيش العراقي امام هذا التنظيم الإرهابي بطريقة تذكر بالهزائم العربية في حرب حزيران – يونيو 1967. لكنّ السؤال الذي سيطرح نفسه عاجلا ام آجلا كيف ستعمل ايران على استغلال العراق من اجل التحايل على العقوبات الاميركية التي ستزداد قسوة في تشرين الثاني – نوفمبر المقبل؟ من الواضح ان ايران ستعمل على تشكيل حكومة موالية لها في العراق. ستعمل بطريقة او بأخرى على التخلص من العبادي في اسرع وقت. ليس امام ايران في حال قررت المواجهة خيارات كثيرة خصوصا في العراق. كذلك ليس امامها من خيارات أخرى غير تشكيل حكومة لبنانية تكون سوارا في معصمها. وهذا يفسّر الى حد كبير تلك الهجمة الشرسة على العبادي من جهة وذلك الإصرار على منع  قيام حكومة "وفاقية" في لبنان يشكلها الرئيس المكلف سعد الحريري بطريقة متوازنة آخذا في الاعتبار مصلحة لبنان في تحصين نفسه امام التقلبات الكبيرة التي تعيشها المنطقة.

في كلّ الأحوال، اذا دلّ موقف العبادي من ايران على شيء، فهو يدلّ على ان هناك رغبة شعبية عامة في العراق في تفادي الوقوع تحت الوصاية الكاملة لإيران. كانت نتائج الانتخابات الأخيرة التي أجريت في الثاني عشر من ايّار – مايو الماضي تعبيرا عن تلك الرغبة. كذلك، كان الحراك الشعبي الذي شهدته مدن ومناطق عراقية عدّة تعبيرا عن نوع من الصحوة العراقية، على الرغم من الكلام الكثير عن انّ ايران ليست بعيدة عن الاضطرابات في العراق. من يصدر عنه هذا الكلام يقول ان ايدي ايران ليست بعيدة عن محاولات لوقف انتاج النفط العراقي مستقبلا في حال منعتها اميركا من تسويق نفطها.

يبقى سؤال أخير. ما الموقف الذي ستتخذه الإدارة الاميركية من العبادي خصوصا ومن الوضع العراقي عموما؟ هل تدعم رئيس الوزراء الحالي وتدفع في اتجاه عودته الى موقعه بعدما اثبت انّه مستعد ان يكون وطنيا عراقيا على الرغم من انتمائه الى حزب مثل "حزب الدعوة"؟

ستكون اميركا في الأشهر القليلة المقبلة منهمكة بايران التي ستؤخر قدر الإمكان قرارها بفتح حوار من دون شروط مع واشنطن. ستعمل ايران في الأسابيع المقبلة على اختبار مدى جدّية دونالد ترامب والفريق المحيط به الذي على رأسه وزير الخارجية مايك بومبيو ومستشار الامن القومي جون بولتون. ستسعى ايران الى افهام الإدارة الاميركية ان لديها أوراقا كثيرة في المنطقة، خصوصا في الداخل العراقي حيث الميليشيات المذهبية التابعة لها والتي تتحرّك تحت تسمية "الحشد الشعبي".

الأكيد ان حيدر العبادي سيكون طوال الفترة المقبلة في موقف لا يحسد عليه، اللهمّ الّا اذا قررت الولايات المتحدة ولو لمرّة ان تقف بحزم مع من يقف معها وتظهر بالفعل انّها طرف يمكن الاعتماد عليه في الاوقات الصعبة... وان العراق يبقى العراق وايران تبقى ايران. ما يحق لإيران يحق للعراق أيضا والعلاقة بين واشنطن وبغداد لا تمرّ بالضرورة بطهران!