الوداع .. من حيز الجسد إلى رحب الروح

تنوع الأسلوب وفق الأحداث

لوحات وليست فصول رسمتها الكاتبة سهير شكري انتقت فيها ألوانا مختلفة لترسم لنا مشاهد ذات لغة تصويرية تعتمد على وظائف الوصف بشكل شاعري وأسلوب بليغ، فتضع هنا رتوشا بلون وردي كما فستانها الذي كانت تبحث عنه في رمز للبهجة المفقودة في حياتها، أو خطا بلون أسود كما الخط الذي فقأت به عين المهرج في رمز للحياة أو الجسد.

كانت اللوحات الأولى هي المواقف العاطفية والحياتية التي وصفتها الكاتبة بلغة مؤثرة، من خلال نصوص حكائية أو وصف سردي شاعري، ومع ذلك كان فقد بدأت الكاتبة الرواية بواقعية الاستهلال.

حياة قاسية جافة للبطلة ترسمها بمفردات بالغة الرهافة فتحول المشهد البالغ القسوة للوحة كثيرة الوجع.

كانت المقاطع أو بعض اللوحات حكائية أو حوارية ذات ألفاظ دلالية فحين تقول في جملة "عندما أفتح رسالته تتصاعد منها رائحته الممزوجة بعرقه وعطره فأستعيد شريط ذكرياتي معه وأقبلها وأضمها لصدري".

البطلة تتمنى استعادة أيام ماضية بذكرى لم تتحقق فتظل تلح عليها في شريط الأماني الذي غالبا يضئ ليلا مع أفول نجوم الصبا.

لغة البطلة هي بطل مشارك في هذه الرواية، فاللغة تصطبغ بصيغة فردية خاصة بالكاتبة وتؤدي دورا جماليا وايدولوجيا في النص حيث كانت تجربة خاصة لبطلة الرواية قصدت بها الكاتبة تجربة أكثر اتساعا وعمومية لكل من رافقها مهرجا يدعوها للتشبث بالحياة والاستمتاع بمباهجها ويمنعها مهرجٌ آخر يملك ازدواجية الشخصية والرؤية فيتحدث عن الحرية ويمنعها إياها كما كان زوج البطلة التي حرمها تحقيق حلمها

* الرمزية في اختيار الأبطال والأسماء

الرجل ذو الحلة السوداء، المهرج، الطيور، مراد بهجت، الشيخ أيمن، زوجة البواب، حتى القطة التي ماتت في مشهد واحد، كل شخصية مكتوبة بعناية وعمق ورمزية ربما رأى القارئ في كل ذلك رؤية ودلالة أعمق أكثر من تفسيري لها بشكل صريح.

كما كان الصراع بين أشياء عدة في النص، صراعا يعتمل بداخل البطلة وصراعا آخر خارجها. فالمعاناة تلك اللعنة التي يحملها أهل الأرض جميعا منذ أول ذرية لآدم.

عانت البطلة من القسوة والعوز العاطفي والكبت وصراع قوى الشر التي تتمثل في رموز من المفترض أن تكون للخير كالشيخ أيمن الذي تسبب بجشعه وأنانيته في مرض سكان بنايته.

كان للمهرج الذي نعتته البطلة بالأبله صوت داخلي بالرواية، تعلو حدته في البداية حين كان يقرع البطلة على أسلوب حياتها واستكانتها ثم ينخفض في النهاية حد البكاء حين تشبث بالبطلة استعدادا للرحيل عنه.

تنوع الأسلوب وفق الأحداث التي تدور فيه، ففي البداية أو لوحة الظلال الفاحمة يسيطر الأسلوب الموضوعي على سياق الرواية، فتُجمل ثم تفصل وتصل للوحات الأخرى فيتنوع الأسلوب رغم شاعريته حسب ألوانها.

يتداخل الزمان والمكان في الرواية رغم الاغتراب المكاني الذي تعيشه البطلة في تنقلها من بيت لآخر وتجولها في الشوارع للبحث عن فستان وردي، إلا أنه يمكن للأحداث أن تكون في أي زمان ومكان وهذا يعطي للرواية حياة وانتشارا.

إذا كانت الرواية هي الفن الذي يُوفق ما بين شغف الإنسان بالحقيقة وحنينه للخيال فإن هذا الوصف ينطبق أغلبه على رواية "وداعا صديقي المهرج"، حيث كان للخيال دور نقلته الكاتبة ببراعة للواقع ورسمت الواقع بصورة جمالية تلامس صورتها الذهنية مع مسحة الفنية للواقع والخيال معا.

وإن ودعت بعضا من الواقع الذي كان يستحثها على العيش بشكل أفضل فقد انتقلت إلى خيال يتسق مع روحها التي تنشده.

في النهاية رواية "وداعًا صديقي المهرج" رواية صوت واحد، ولكنها تعبر عن أصوات عديدة بُحت من الصراخ في وجه مهرجيها كتبت بأسلوب لا يشبهه إلا ريشة الفنانة "سهير شكري" أمتعت به ناظريها.