متى يغدو التنوع الإنساني قوةً؟

لا يتحقق التعايش بلا قبول للتنوع الإنساني، الديني والمذهبي، وكل ما اختلف فيه البشر، من اللون والعرق، ولا يغدو هذا التنوع سمةً من سمات الدُّول والمجتمعات المختلطة، بلا إدارة مخلصة تتبناه بموجبها الدولة كأحد ثوابتها، ثقافةً وممارسةً. وهنا نعود إلى المقولة القديمة، غير المعروف قائلها: «الناس على دين ملوكهم» (ابن الطقطقي، الفخري في الآداب السلطانية)، أو «الناس على دين الملك» (ابن خلدون، المقدمة). فلو لم يتبنَ جورج واشنطن (ت 1799)، ومِن ثم توماس جيفرسون (ت 1826) إدارة التنوع، لما تقاطر البشر، بمختلف أجناسهم وأنواعهم، إلى الأرض الأميركية لتتأسس أقوى دولة بالعالم، يحكمها الدستور.

كانت البداية، أن أراد الرَّئيس واشنطن بناء بيته، فكتب رسالةً طالباً فيها بنّائين ونجارين حاذقين، جاء فيها: «إذا كانوا عمالاً جيدين، قد يكونوا مِن آسيا أو أفريقيا أو أوروبا، أو يكونوا محمديين (مسلمين) أو يهوداً، أو مسيحيين مِن أي طائفة، أو ملحدين» (سبلبيرغ، جيفرسون والقرآن). أما جيفرسون فتأثر بـ«رسالة التَّسامح» لجون لوك، واستشهد بعبارته: «يجب عدم استثناء الوثني والمحمدي واليهودي من الحقوق المدنية للكومنولث بسبب دين أي منهم» (نفسه)، وفي عام (1765) أقتنى جيفرسون نسخة مترجمة من معاني القرآن الكريم إلى الإنجليزية، بعد أن توقع أن بلاده ستستقبل المسلمين، ليقسم عليها أول نائب مسلم في الكونغرس الأميركي (نفسه).

طُرح موضوع «التَّنوع» في محاضرة «الإمارات.. التَّنوع قوة»، قدمها رئيس «جامعة الإمارات» علي راشد النعيمي، وأدارها الكاتب راشد العريمي، وهي الندوة (13) مِن ندوات مجلس «محمد خلف» الثَّقافي وسط أبوظبي (5/3/2018). فخلال أربعين عاماً الماضية اجتمعت على أرض دولة الإمارات مئتا جنسية، من مختلف أصقاع الكرة الأرضية. فلو تأملت وجوه القادمين والمغادرين في مطارات الدولة، لما احتجت إلى دليل على وجود التنوع البشري. كلٌ يعطي من عمله، وله دينه ومذهبه ولغته.

غير أن وجود التَّنوع على مساحة كهذه، قياساً بمساحة أميركا أو الهند مثلاً، يحتاج إلى إدارة مضاعفة تمنع التَّصادم وتسهل الحياة، فأُسند بقوانين صارمة تعاقب على الإخلال بالتنوع، ونعتبر قانوني تجريم «الكراهية» و«التحرش» ساندين لتكريس ثقافة التعايش الذي هو بالتالي لا يعني التساكن والتجاور فحسب، وإنما يعني قبل كل شيء الاعتراف بالاختلاف. ونؤكد على قانون تجريم التحرش الصارم، لأن وجود النساء في العمل والطريق والسوق جزء رئيسي في التنوع.

ولأهمية التنوع، وأهمية مقولة «الناس على دين ملوكهم»، يُذكر أن رجال دين اقترحوا على سليمان القانوني (ت 1566) بفرض الإسلام على إمبراطوريته كافة، فكان جوابه: «كما أن هذا التنوع الظاهر في الأعشاب والأزهار لا يُضير في شيء، بل يُجدد النظر والشم على نحو رائع، كذلك تنوع الديانات في إمبراطوريتي لا يُشكِّل عبئاً عليَّ، بل عون لي. بالأحرى شرطَ أن يعيش رعاياي بسلام ويطيعون أوامري، فالأفضل لي أن أدعهم يعيشون على طريقتهم، ويتَّبعون الديانة التي يريدون (..) بدلا من أن أثير الفتن، وأرى دولتي مُقفِرة شأن حديقة اقتلعنا منها جميع الأزهار، ولم نُبقِ فيها إلا على لون واحد». ذِكر ذلك رجل القانون الألماني فيليب ميراريوس (ت 1624)، في «تأملات تاريخية» (صدر 1591)، الذي وثق فيه جهود أمراء وملوك قدماء في إدارة التنوع (لو كلير، تاريخ التسامح في عصر الإصلاح).

إذن ظل التنوع قائماً بإمبراطوريات إسلامية، فقبل الإسلام، لم تكن المنطقة خالية منه، فلشاعر الحيرة عَدي بن زيد (نحو 587م)، ما يشير إلى الاعتراف بالإله الواحد مع وجود التنوع بعبادته: «سَعى الأعداء لا يألون شرّا/ عليك وربَّ مكةَ والصَّليبِ/ أعالنهم وأبطن كلَّ سرٍّ/ كما بين اللّحاء إلى العَسيبِ » (اليسوعي، شعراء النَّصرانية قبل الإسلام)، إشارة إلى الاعتراف المتبادل بين ديانتي مكة والحيرة قبل الإسلام.

لا أظن أن محمد صالح بحر العلوم (ت 1992)، قد اطلع على جواب القانوني لرجال الدين، كي يصف التنوع بالزهور أيضاً، عندما قال في «الطائفية حية رقطاء» (1934): «إن المذاهب كالزهور تنوَّعت/ ولكلِّ نوعٍ نَفحْةٌ وزهاء/ مهما تعددت الفروع بشكلها/ فالحقُ فردٌ والأُصول سواء» (الديوان، طبعة 1968). كذلك لمعروف الرصافي (ت1945) في وجوب التنوع: «علام التَّعادي لاختلاف ديانة/ إن التعادي في الدِّيانة عدوان/ ما ضرَ لو كان التعاون ديننا/ فتعمر بلدان وتأمن قطان» (الديوان، طبعة 1959). غير أن قصائد الشعراء وأفكار المثقفين تبقى أقوالاً، إذا لم تجد مَن يترجمها إلى قانون رسمي، لتصبح مع الأيام عرفاً اجتماعياً.

لم تُعمر أميركا، وهي العالم الجديد، ولم تُعمر دولة الإمارات، لولا دور الحاكم في إدارة التنوع، حتى صار «التنوع قوة». لكن متى أمسى «التنوع نقمة»؟! عندما حدث الخلَل في إدارته، وببلدان لها باع في التاريخ، بحكم أقلية مستأسدة على الأكثرية، أو أكثرية مُغيِّبة لحقوق الأقلية، مع الاعتذار عن المفردتين، فهما تشيران إلى الهيمنة أو قلة الحيلة.