بريق سوق النحاسين بطرابلس اللبنانية يخبو

تغيرت ملامحها

طرابلس - لم يكن سوق النحاسين في طرابلس، شمالي لبنان، يحتاج يوماً إلى من يدل عليه، أو يحدد موقعه، منذ نشأته قبل 800 عام.

فقرقعة النحاس وأصواتها تعلو في كل مكان لتصل إلى جميع الأسواق المحيطة به، معلنة عن ورشة عمل لا تهدأ لتوفير كل ما يحتاجه الناس من مستلزمات الحياة اليومية آنذاك.

فسوق النحاسين واحد من أعرق الأسواق وأكثرها شهرة في طرابلس، يعود إلى عهد المماليك، غير أنه بريق ينطفئ حالياً، وبات الأمل الوحيد في انتقاله من المطابخ إلى \"تزيين\" الصالونات\".

ولعل أهم ما يميّز هذه المهنة هو جمعها بين الفن والصناعة، إذ أنها تمتاز بـ\"نقشات\" جمالية تضاف إلى جودة المصنوعات.

والسوق يمتد على مساحة 500 متر من \"حمام عز الدين\" إلى محلة \"التربيعة\" ومنها الي السراي العتيقة.

ويعتبر السوق بمثابة الحد الفاصل بين سوق البازركان ومحيطه، وبين خان الخياطين والأحياء التي تؤدي إلي سوق حراج، وبركة الملاحة.

وتعرض السوق لتغيّرات منذ كارثة طوفان نهر أبوعلي في خمسينيات القرن الماضي، أدت إلى تقسيمه إلى نصفين وفتح الطريق أمام السيارات.

إلى جانب ما ساهمت به الحرب الأهلية (1989- 1975 ) في تهجير الحرفيين، وغزو السوق من البضائع المستوردة، واستبدال الزبائن الأواني النحاسية بالستانلس وغيرها من المعادن.

غير أن قيمة الأعمال النحاسية وجودتها عادت بعد رفع مستواها لتنتقل من المطابخ إلى الصالونات، فأضحت الأواني والأراكيل والمناقل والطناجر والتحف النحاسية وغيرها زينة تتفاخر ربات المنزل بجودتها وقيمتها المادية.

وتمكنت بعض العائلات الطرابلسية من تطوير مهنة صناعة النحاس، فتحول سوق النحاسين إلى تحفة تاريخية جذبت اللبنانيين والسياح العرب والأجانب.

وشكلت مهارة النحاسين في الرسم والنقش علامة فارقة في الصناعة اللبنانية.

يقول محمد طرطوسي، أحد أصحاب محل نحاس، والذي ورث المهنة عن أجداده، إن صناعة النحاس هي فن قائم بذاته، ويحتاج الى حرفية عالية وذوق رفيع وقدرة جسدية كبيرة.

وأضاف أن سوق النحاسين كان من أروع الأسواق في طرابلس، ينبض بالحياة والحيوية، أخذ اسمه نسبة لهذه الصناعة التي كانت موجودة فقط في هذا السوق.

وتابع \"أما اليوم فقد تغيرت معالمه، خصوصاً بعد المستجدات التي دخلت عليه من شق طرق وغيرها\".

ولفت إلى أن سوق النحاسين كان من أكبر الأسواق، يضم عشرات المتاجر، ويمتلئ بأجمل النحاسيات من الحلل والصواني، والتحف الفنية والطناجر و\"الركاوي\" وكل ما يتطلبه المنزل.

واشار إلى أن السوق يعاني اليوم من مشكلات عدة تعود في معظمها إلى ضيق مساحته من جهة، وقلة تنظيمه من جهة أخرى.

ويعتمد السوق في المواد الأولية المستخدمة في الصناعة على مواد خام مستورة من البقان، ومؤخراً دخلت تركيا على خط استيراد هذه المواد نظراً لجودتها وسعرها المقبول.

وأوضح أن هذا السوق يعتبر من الأسواق العائلية، حيث أن أبرز العائلات، التي تداولت هذه المهنة هم آل طرطوسي، عزّو، طلحة، وحسون.

إلا أن تلك العائلات لم تصمد طويلاً في السوق ما عدا آل الطرطوسي الذين حافظوا على هذه المهنة وتوارثوها جيلاً بعد جيل.

وأعرب عن خشيته من أن يندثر هذا السوق، خصوصاً بعد أن دخلت ظاهرة صناعة الستانليس وغيرها من المواد إلى الأسواق.

ويتابع \"حركة السوق تراجعت اليوم، فبعد أن كان خلية نحل دائمة لناحية عملية التصنيع والبيع، أصبحنا اليوم نعاني الأمرين للحفاظ على مورد رزقتا\".

وأكد طرطوسي أن ما فاقم الأزمة تراجع أعداد السائحين والذي كانوا يحرصون دائماً على زيارة هذا السوق العريق لاقتناء النحاسيات المميزة.

وعن الأسواق، التي يستهدفها صناع سوق النحاسين، أشار طرطوسي إلى أن منتجاتهم تتوجه إلى الأسواق المحلية والخليجية، وهي أبرز المستوردين.

وختم بأنه يتعين الاهتمام بكافة الأسواق الطرابلسية، لأنها تشكل قلب المدينة وتاريخها وحضارتها.