تجارب في تدريس الأديان.. العلم الغائب

الحاجة لتدريس الأديان في عصر الكراهية والمذهبية

ما يزال التعليم الديني -في مجمله- يقوم على الجمود والتنافر مع العصر، كما أنه كثيراً ما يحمل مقومات الغلو والتطرف التي تؤدي إلى إثارة نزعات الحقد والكراهية للآخر المختلف دينياً. ولعل هذا العزوف الذي ترك شغوراً معرفياً في مبحث على درجة بالغة من الأهمية، هو ما يفسر أهمية الكتاب الذي بين أيدينا، إذ يرنو إلى أن يملأ هذا الشغور الحاصل في هذا الحقل المعرفي في الفضاء العربي الإسلامي في التعاطي مع الظاهرة الدينية بحثاً ودراسة ومقاربة وتفهماً، وذلك عبر جملة من الدراسات القيمة التي تسلط الضوء على تعاطي عديد البلدان مع مبحث الأديان المقارنة، وتنزيلها إياه في سياق بحثي وأكاديمي مخصوص، إقراراً منها بأهميته والفوائد المرجوة منه على الجامعة والمجتمع.

إن عودة الديني وتنامي الصراعات القائمة على أساسه، وبروز مصطلح “الصدام الحضاري” حتى بات ” موضة” فكرية تلاقفها الباحثون للانكباب على دراستها من زوايا نظر نفسية واجتماعية وتاريخانية، حتمت الانتباه إليها والتقاط تفاصيلها، ولا سيما أن الظاهرة الدينية قد استحالت إلى حدث متكرر في الحياة اليومية للأفراد بشكل هادئ حيناً، وعنيف أحياناً أخرى.

غير أن تقاطع الحقول المعرفية الذي من شأنه أن يؤثر إيجاباً في التقدم البحثي، والذي فرضه تعقد الواقع الراهن، قد أفضى إلى الإفادة منه في مجال جديد، ألا وهو علم الأديان، الذي يتسق مع الوقائع المستجدة ومع الآني الفائر.

من هذا المنطلق بدأ هذا التخصص الأكاديمي يتنامى، لا سيما في الغرب، وظل بعيداً من أنظار الباحثين عندنا. وهذا من المفارقات الغريبة حقاً؛ ففي مجتمعات تعيش اليوم على وقع تمظهرات جديدة للفكر الديني، وبروز الإسلام السياسي كمعنى أساسي في المعادلة السياسية والاجتماعية والفكرية، كان من المفترض أن تهب الجامعات العربية إلى تأسيس منابر لتدريس علم الأديان للطلبة، وأن يتم تجسير الفجوة بين الجامعة والمجتمع؛ بغية التعريف بهذا المبحث العلمي وتحقيق الإضافة المنشودة.

تعميم الدراسات الدينية المقارنة

حاولت البحوث الواردة في هذا الكتاب الإجابة عن تساؤل مركزي يطرح نفسه اليوم بشكل ملح، ألا وهو: هل من حاجة إلى تأسيس فضاء بحث علمي يتخذ الظاهرة الدينية موضوعاً له، ويتوسل المناهج المقارنة في هذا البحث؟

وتستوقفنا في هذا الكتاب عديد المحاضرات التي قام الحداد بتعريبها وعرضها. من ذلك ما قدمه الأستاذ مصطفى الشريف (الفيلسوف الجزائري) الذي وسمه بـ”الأديان والتعارف المتبادل”) ولاحظ فيه أن التيارات الأيديولوجية في العالم الإسلامي تخلط بين السياسي والديني، وأنه ثمة توظيف للدين في حين أن الغرب يبالغ في الفصل بين أبعاد الحياة ويهمش الديني.

وأكد الشريف أن الحديث عن الدين في إطار العولمة يفترض الحذر من انزلاقات ممكنة. فالخطورة قائمة، لا سيما في ظل مؤسسات ما زالت تتعاطى مع الدين بشكل إيماني مطلق.

وبهذا يمكن القول: إن البرامج التعليمية العربية مدعوة إلى التفكير في تعميم الدراسات الدينية المقارنة في كل مستويات التعليم، على الرغم من كل المشكلات والمصاعب النظرية والعلمية. وخلص الباحث إلى أنه لا بديل عن الحوار والنقد البناء، كي نظل منخرطين في الانفتاح والتحرير، فالإكثار من الخطابات يمنع الناس من التمييز.

تجارب أوروبية

أما أستاذ التاريخ في جامعة روان الفرنسية جون فيليب برا، فقد قارب موضوع الإسلام من منظور البرامج المدرسية من خلال التجربة الفرنسية، مؤكداً أن الأنموذج الجمهوري الفرنسي يشهد منذ عشرين سنة قدراً من الاضطرابات تتعلق بطريقته في تأسيس العلاقة بين الدولة والدين، وقد أصبح مبدأ اللائكية موضع تساؤل ومراجعة.

أما رئيس كرسي قانون الأديان في الجامعة الكاثوليكية بلوفان (بلجيكا) لويس _ ليون كريستيانس، فقد نظر في مسألة التدريس بصفتها بعداً اجتماعياً للحوار بين الأديان ( بلجيكا أنموذجاً)، منطلقاً من مدى قدرة علوم الأديان على أن تتضمن “صلاحية مواطنية” باعتبار أن إدماج هذا التوجه المواطني سيطرح رهانات مختلفة ترتبط بنمط التدريس المعني، وسعى الباحث إلى الإجابة عن تساؤل مركزي: كيف يمكن لبرنامج أكاديمي في علوم الأديان أن يتولى دوراً مسؤولاً في هذا الميدان، وخصوصاً الحوار والتفاعل بين اليقينيات المختلفة داخل المجتمع؟

وتحت عنوان “الجامعة وحوار الأديان.. وجهة نظر من الشمال” (فنلندا ): كتب الباحث في حوار الأديان من جامعة هلسنكي (فنلندا) ريستو جيكو مؤكداً أن دور الجامعات لا يمكن أن يقتصر على القيام بأبحاث حول الأديان، والنظر إلى الأديان على أنها أشياء خاضعة للمراقبة من الخارج، من دون أن تكون قادرة على الخروج بالاستنتاجات المطلوبة، وأشار إلى أن جامعة هلسنكي حددت ثلاثة مجالات لنشاطاتها وتفاعلها مع المجتمع، وتمثل الأديان عناصر ضرورية في المجتمع الفنلندي.

أما تجربة تدريس الدين بالمدارس العامة في ألمانيا وسويسرا وشرق فرنسا، فقد تطرق إليها الباحث الفرنسي جيرار جانيس من خلال دراسة مقارنة.

وقد خل إلى أن التعليم الديني في هذه التجارب ظل إلى فترة قريبة في شكل طائفي يتوزع خلاله التلاميذ في الدروس وفق انتماءاتهم الطائفية، وكذلك توزع الدروس على الأساتذة وفق المعطى الديني والانتماء. أما الآن، فثمة توجه جديد، فهناك تصور بدأ يبرز ويتأسس على مبدأ اقتراح درس في “الثقافة الدينية” والأخلاق يكون موجهاً لكل التلاميذ.

ومن البحوث الأخرى الواردة في كتاب “تجارب كونية في تدريس الأديان”، تقرير أعده الفيلسوف الفرنسي ريجيس دوبريه بطلب من وزارة التربية الفرنسية عندما أرادت التفكير في إدخال برامج لتاريخ الأديان والتعريف بها في المنظومة التعليمية العمومية التي كانت اللائكية تمنعها في السابق من الحديث عن الأديان.

وأقرت الوزارة بمقتضى التوصيات الواردة في تقرير دوبريه عديد التجديدات في ميدان تعليم تاريخ الأديان في المدارس العمومية، ومنها التعريف بالإسلام لدى التلاميذ الفرنسيين بمختلف أديانهم.

ففي عصر تتلاطم فيه أمواج الصراعات المذهبية والدينية والصدام الكبير بين الحضارات، وفي ظل سعي البعض في الغرب إلى “تعيين الإسلام عدواً جديداً كي يتهرب من الأسئلة التي أصبحت مطروحة على الجميع ويتهرب من المشكلات السياسية للعالم” -على حد تعبير الكاتب- لا بد من تفهم الرسائل الحقيقية للأديان وإعادة تدريسها بشكل يسلط الضوء على مظاهر التقاطع والتكامل بينها، من دون غلو واستعلاء لدين على آخر.

يضم كتاب “تجارب كونية في تدريس الأديان: محاضرات كرسي اليونسكو للدراسات المقارنة للأديان”، مجموعة من الدراسات والخبرات حول تدريس الأديان في بعض الدول الأوروبية والعربية. شارك فيه خبراء في مجال التربية والتعليم وعلم الأديان والتاريخ والفلسفة، وهم على التوالي: مصطفى الشريف، محمد الحدّاد، عبدالرزاق العيادي، محمد الصغير جنجار، ولفرم وايس، جيرار جانيس، جون فيليب برا، ريجيس دوبريه، جون _ ماري هوسير، ولفغونغ بوك، معز الخلفاوي، لويس _ ليون كريستيانس، بيار سيزاري بوري، ريستو جيكو، هارتموت بوبزاين. وقام بنشره مركز المسبار للدراسات والبحوث عام 2014 ووقع في 372 صفحة.