المواجهة الأميركية الروسية وأسرار خطيرة

من يتمعن في خفايا المواجهة الأميركية الروسية على أرض سوريا، يجد أن هناك جملة أسرار خطيرة، تكمن وراء تلك المواجهة التي تعد الأكبر والأخطر، ليس على صعيد العلاقات الإستراتيجية بين موسكو وواشنطن، ولكن على صعيد المنطقة برمتها. يمكن إدراج هذه الأسرار على الشكل التالي:

1. ان من الغريب أن روسيا التي تعد حليف سوريا الاستراتيجي وتربطها بها معاهدة دفاع مشترك، والتي كانت توجه التحذيرات للبيت الابيض من شن هجمات على سوريا، لم تطلق رصاصة واحدة او صاروخا مضادا على الصواريخ الأميركية التي سقطت على أهداف عسكرية سورية، وقيل انها تجاوزت المائة صاروخ، وهو ما يعني ان الروس عادوا الى نفس مواقفهم السابقة في أنهم يتخلون عن حلفائهم لحظة شعورهم انهم في حالة احراج دولي، قد يضعهم أمام مواجهة مباشرة مع القوات المسلحة الاميركية التي تتفوق كثيرا على نظيرتها الروسية على أكثر من صعيد.

2. ثمة أمور خطيرة كشفتها تلك المواجهة الاميركية الروسية الأخيرة في سوريا، وهي ان الروس حرصوا على عدم تجربة صواريخ أس أي 400 الروسية، في مواجهة الصواريخ الاميركية التي سقطت على أهداف عسكرية سورية، لأن الروس كانوا قلقين من التقنيات العسكرية الاميركية المتطورة التي بإمكانها إفشال تقنيات الصواريخ الإستراتيجية الروسية أس أي 400 التي باعتها روسيا لدول عدة في المنطقة ومنها سوريا، واذا ما فشلت في مواجهة الصواريخ الاميركية فأن روسيا تخسر سمعتها العسكرية في المواجهة الإستراتيجية مع الولايات المتحدة إن تمت تجربتها.

هذا في المقام الأول. ومن جهة أخرى فإن روسيا تخسر سوقها العسكرية في المنطقة اذا لم تظهر صواريخ أس أي 400 الروسية قدرتها الفعالة على مواجهة الصواريخ الأميركية، ولهذا حرص الروس على عدم زج أنفسهم في مغامرة خطيرة وغير محسوبة العواقب، ولم يتم اطلاق اي من تلك الصواريخ في مواجهة سيل من الصواريخ ضربت اهدافها في سوريا، وبخاصة على مقربة من العاصمة دمشق، ومقرات الرئيس السوري بشار الأسد. وقد ضحى الروس بسمعتهم السياسية وتم تمريغ أنف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الوحل الاميركي. لكن بوتين بلع الاهانة، دون ان يكون بمقدوره ان يدخل في تلك المواجهة في اطار توازن الرعب الذي يفترض ان يجربه مع الاميركان، وهو يدرك ان الخسارة السياسية على اقتصاد بلاده أهون بكثير من خسارة سمعة السلاح الروسي عندما تهان أمام الاميركان. ولم يتم تجربة مدى فاعلية الصواريخ الاستراتيجية الروسية في تلك المواجهة على أرض سوريا، خشية ان تنفضح أسرار خطيرة تؤدي بمستقبل روسيا الاقتصادي، حيث تعد صفقات الاسلحة مع دول المنطقة موردها الأول. ولهذا ضحت بسمعتها السياسية، لكنها حفظت لنفسها أسرار أسلحتها، لكي لا تساور المتعاملين من دول المنطقة بسلاحها الشكوك وتذهب عشرات المليارات من الدولارات في صفقات تسليح مع دول المنطقة وبخاصة مع السعودية ودول الخليج التي عقدت صفقات تسليح ضخمة لشراء تلك الصواريخ من روسيا، واذا ما تأكد لها عدم فاعلية تلك الصواريخ الإستراتيجية في المواجهة مع الاميركان فإن سمعة روسيا ستهبط الى الحضيض.

3. إن الاميركان أدركوا ان احلام بوتين في انعاش أمل الامبراطورية الروسية تبقى تراود الرئيس الروسي، ولهذا سعت الولايات المتحدة في ظل ادارة ترامب التي تهوى طابع المغامرة، ان تجرب المواجهة القوية مع روسيا، وان بامكان الاميركان احراج روسيا في تلك المواجهة، ووجدوا في التبرير باستخدام أسلحة كيمياوية في سوريا مدخلا لتمريغ أنف بوتين وتوجيه أقسى اهانة له أمام شعبه وعلى مستوى دول المنطقة التي تتعامل مع روسيا بضمنها ايران وسوريا، واشعارهما بأنهما لن تكونا في مأمن من الضربات الأميركية. حتى أن طهران لم تتوقع ان يصل مستوى الجبن الروسي في تلك المواجهة الى هذه الدرجة من الخذلان، ومع هذا حاولت طهران ان تلعب بذيلها لانها شعرت ان الخطر القادم سيكون باتجاهها، وهي المستهدف الثاني بعد سوريا، وان حلم تقويض الامبراطورية الايرانية يجد له رغبة جامحة لدى واشنطن لاشعار ايران انها ليس بمقدورها ان تعتمد على روسيا او سوريا كحلفاء موثوقين، وان انهيار سوريا بعد تلك الضربات، يعد خسارة باهظة الثمن لطهران تشعر ان خطر المواجهة معها أصبح قاب قوسين أو أدنى.

4. لدى الاميركان رغبة في الهيمنة على سوريا، لما تمتلكه في وقت قريب من كميات كبيرة من الغاز، يتم اكتشافه، يشكل حلم الاميركان للسيطرة على سوريا بعد سيطرتهم على مقدرات الامور في العراق وقد اخضعوه لهيمنتهم، ومن ثم لم يعد العراق يشكل الهم الاكبر بعد ان روضوه وجعلوه تحت إبطهم كما يقال. ولهذا فان الخطوة المقبلة سوريا ومن بعدها ايران التي لديها احلام امبراطورية للهيمنة على مقدرات المنطقة، ولن يترك الغرب عموما واميركا على وجه الخصوص إيران تلعب معهم بذيلها، ليكون لها موطئ قدم مستقبلي لقضم العراق وسوريا ولبنان واليمن، وإن واشنطن تدرك ان تقليم أظافر ايران لا بد ان يكون الهدف اللاحق بعد سوريا. ولهذا اشتاطت طهران غضبا، عندا أدركت أنها الخطوة اللاحقة امام الثور الاميركي الهائج، والذي ليس بمقدور طهران مواجهته مهما بلغت أذرعها وترسانتها من قوة، وان برنامج ايران النووي على وشك ان يكون مرحلة الاستهداف المقبلة لواشنطن للحد من الهيمنة الايرانية وتمريغ انف الايرانيين واحلامهم الامبراطورية، في الوحل الاميركي الغربي، الذي لا بد وان يرغمونهم على الرضوخ للارادة الاميركية الغريية شاءوا أم ابوا وفي وقت ليس ببعيد. وقد ادركت طهران اللعبة وهي على يقين من أن حظها العاثر بات قاب قوسين او ادنى من أن يصاب بانهيارات خطيرة، والدرس العراقي ما يزال ماثلا بمراراته أمام ايران وان وقت ابتلاعها وارغامها على الاستسلام ليس ببعيد.

5. أن الروس في حرج كبير وهم يرون ان مستقبل امبراطوريتهم قد تحطم امام الاميركان، وان روسيا بدأت تحصد نتائج لعبتها في انها دعمت ترشيح الرئيس الأميركي دونالد ترامب ظنا منها انها ستضعه في جيبها، وما ادركت روسيا ان الكونغرس الاميركي ومجلس الشيوخ وجهات أميركية أخرى هي من أرغمت ترامب على خوض تلك المواجهة مع الروس، إن أراد ترامب فعلا تبرئة نفسه من الاتهامات بأن لروسيا والمخابرات الروسية ضلع في فوزه، واراد ان يرفع عنه الاتهام، حتى ان العلاقات بين واشنطن وروسيا الان هي في أسوأ احوالها ولم تتدهور على هذه الشاكلة منذ عقود طويلة، وقد طرد قبل ذلك مئات الدبلوماسيين الروس، بعد ان اتهمت روسيا باختراق الامن القومي الاميركي عندما ساعدت ترامب على الفوز، بطرق اختراق اكتشفتها المخابرات المركزية الاميركية، وادت الى ازمة خطيرة في تاريخ البلدين، انقلبت على روسيا، وشكلت لها انتكاسة دبلوماسية خطيرة، مرغت سمعة روسيا في الصميم.

هذه ملاحظات مهمة وستراتيجية وودنا عرضها أمامكم، كي تتضح أسرار وحقائق خطيرة عن المواجهة الاميركية الروسية، وما سينعكس بتأثيراتها على دول المنطقة، وان احلام روسيا وايران بدأت تتبخر، بعد أن أشهر الاميركان أسلحتهم وإستراتيجية المواجهة الجادة والعين الحمراء مع الروس وايران، وكانت سوريا احد صفحات تلك المواجهة، وقد تظهر نتائج تلك المواجهة في وقت قريب.