مصطفى النشار يحلل منهج أفلاطون وفلسفته

محمد الحمامصي
مَن هو أفلاطون؟ وما طريقته في الكتابة الفلسـفية؟ وما الآراء الجديدة التي خرج على البشرية بها فجعلت منه فيلسوف الفلاسـفة ورائد المثالية عبر تاريخ الفلسفة؟
النشار يؤكد أن الفلسفة حوار دائم يستهدف الوصول إلـى الحقيقة
معظم المؤرخين ينظرون إلى أفلاطـون باعتباره الأصل الذي استند عليـه كل تاريخ الفلسفة اللاحق
أفلاطون وتلميذه أرسطو اقتسما التأثير على تاريخ الفلسفة اللاحق
الدولة تنشأ من عجز الفرد عن الاكتفاء بذاته وحاجته إلى أشياء لا حصر لها

يقرأ هذا الكتاب "أفلاطون رائد المثالية" للمفكر والأكاديمي د. مصطفى النشار، فلسفة أفلاطون فيلسوف الفلاسفة، رائد المثالية صاحب أول مذهب فلسفي متكامل في تاريخ الفلسفة، وأول مَن وضع معنى الفلسفة بأنها علم الحوار العقلي الذي يستهدف الوصــول إلى الحقيقة، وهو أول من وضع للفلسفة منهجهـا باعتبارها علـم الحــوار، وكان أول من طبق هذا المنهج في فلسـفته، حيث كتب كل فلسفته في هيئة محاورات وناقش في هذه المحاورات أفكار الفلاسفة سواء كانوا من السابقين عليه أو من المعاصرين له.
والكتاب يأتي ضمن سلسلة "أعلام الفلسفة في الشرق والغرب" التي أطلقتها مكتبة الدار العربية للكتاب، يحلل فيه النشار منهج وفلسفة أفلاطون مجيبا عن تساؤلات منها مَن هو أفلاطون؟ وما طريقته في الكتابة الفلسـفية؟ وما هي تلك الآراء الجديدة التي خرج على البشرية بها فجعلت منه فيلسوف الفلاسـفة ورائد المثالية عبر تاريخ الفلسفة؟ حيث يرى أن أفلاطون نجح بمنهج الحوار هــذا في تقديم مذهب فلسفي مفتوح يقبل الرأي والرأي الآخــر، حيث جاءت كل محاوراتـه بنهايات مفتوحة يرد فيهـا رأي أفلاطـون كأحد الآراء الموجودة في تلك المحاورة أو تلك من محاوراته على لسـان أستاذه سقراط في مواجهة الآراء الأخرى الواردة على لسان أصحابها.

النشار يرى أن طريقة الحوار التي كتب بها أفلاطون هي الطريقة الوحيدة التي قد يتعلم منها القارئ العادي كيفية التفكير العقلي في أي مشكلة من المشكلات

وأشار النشار إلى أن معظــم المؤرخيــن ينظرون إلى أفلاطـون باعتباره الأصل الذي استند عليـه كل تاريخ الفلسفة اللاحق لدرجة أن وايتهد (وهو أحد كبار الفلاسـفة المعاصرين) يعتبر أن تاريخ الفلسفة كله هوامش على أفلاطون، وهذا الكلام صحيح إلى حد بعيد، حيث إن أفلاطون وتلميذه أرسطو قد اقتسما التأثير على تاريخ الفلسفة اللاحق، وبما أن أرسطو ظل تلميذاً لأفلاطون حوالي عشرين عاما كاملة حتى بلغ حوالي الأربعين من عمره، فهو بلا شـــك كان ممن تأثروا به تأثراً كبيراً، رغم أنه كان من العبقرية بحيث نجح فـي الخروج على مذهب أستاذه وتقديــم مذهبـه الجديد الـذي تميز بنزعــة واقعية على عكس مذهب أستاذه الــذي تميز بنزعـة مثالية ارتبطت به على مـر عصور الفلسفة، إن كل الفلاسـفة اللاحقين عليهما إما تأثروا بمذهب أفلاطون المثالي أو بمذهب تلميذه أرسطو بنزعته الواقعية.
ولفت د. النشار إلى إن أروع ما نجده عند أفلاطون هو رؤيته المثالية للوجود وعلى رأسه ذلك التمييز بين العالم المعقول، وهو عالم الحقائق المفارقة والعالم المحسوس وهـو عالم الظلال الذي نعيش فيه ونتصور خطأ من وجهة نظر أفلاطون أنه عالم الوجود الحقيقي، تلك الرؤية التي فسر من خلالها كل شيء وحل من خلالهـا كل المشكلات التي تبلورت أمامه ولا تزال تواجه الإنسان في كل زمان ومكان.

ولعل أبرز ما اشتهر به أفلاطون هو رؤيته الخاصة بدولة المدينة المثالية الفاضلة التي بناها على تصوره الخاص للعدالة التي تعطي لكل واحد مـن أفراد الدولـة الحق في التربيــة والتعليم، كما تلزم الدولة بأن يعين الفرد فــي الوظيفة التي أهلته لها بحكم طبقته والمرحلة التعليمية التي وصل إليها، وهي الدولة التي اعتبر أفلاطون أن الحكماء الفلاسـفة هم فقط من يصلحون لحكمها على اعتبار أنهم من نجحوا في اجتياز كل المراحل التعليمية الشاقة من الطفولة حتى سن الخمسين، وهم بالتالي من يستطيعون ‏تطبيق مثال العدالة في الدولـة بنزاهة وموضوعية، ولعل هذا الرأي لأفلاطون هـو ما جلب عليه الكثير من الانتقادات التي اتهمته بأنه غارق في المثالية.
ورأى النشار أن معظم تساؤلات قراء مؤلفات أفلاطون على وجه الخصوص تدور حول أسئلة ثلاثة هي: لماذا اتبع أفلاطون طريقة المحاورة في كتاباته الفلسفية؟ وكيف يمكـن تصنيف هـذه المحاورات وترتيبها بحيث نتمكن من معرفـة كيف تطور فكره من ناحية، ونتمكن مـن تمييز ما كتبه مــن محاورات تخليدا لذكرى أستاذه سقراط عمَّا كتبه ليُعبر عن فلسفته هو من ناحية أخرى، فضلاً عن التساؤل السابق الإشارة إليه، وهو كيف نتعرف على ما كتبه هو وصحيح النسبة إليه، وما كتبه غيره ونُسب خطأ إليه؟
وقال "أما بالنسبة للسؤال الأول الخاص بالأسباب التي دعت أفلاطون إلى اتباع طريقة الحوار في الكتابة فبوسعنا أن نؤكد أنه قد ابتدع هذه الطريقة في الكتابة الفلسفية لأول مرة، ويرجع ذلك لأسباب عديدة: أولها أنه أراد فـي البداية أن يخلد ذكرى أستاذه سقراط بطريقة حية، فبدأ بتصويره وهو يقوم بمهمته التي اختارها لنفسه، وهي مناقشة المدعين للعلم والمعرفة، وقد كان اتباع أسلوب الحوار هو الطريقة الطبيعية للتعبير عن تلك الحركة السقراطية التي كانت تعتمد على المحادثة في بحثها عن المعرفة. 
والثاني أن هذه الطريقة في الكتابة الحوارية التي تصور الأشخاص الحقيقيين يتجادلون فـي موضوع مـا وكل منهم يعرض لرأيه الخاص ويدافع عنه، قد أعجبت أفلاطون في مرحلة لاحقة واقتنع بأنها هي الطريقة المُثلى للكتابة في الفلسفة، حيث إنها تتسق مع رأيه القائل بأن الفلسفة ما هي إلا الحوار الدائم الذي يستهدف الوصول إلـى الحقيقة، ومن ثم فقد أراد أن يرسخ مفهومه للفلسفة من خلال هذه الطريقة الحوارية في الكتابة. 
والثالث أن أفلاطون قد وجد في هذه الطريقة في الكتابة، الطريقة الوحيدة التي قد تدفع أذهان تلاميذه إلى التفكير العميق فيما يقرأون. كما كانت تدفعهم نفس الطريقة التي استخدمها في تدريسه بالأكاديمية إلى التفكير العميق فيما يسمعون.

حاجات الفرد عديدة وهو لا يستطيع القيام بها وحده
موازنة دقيقة يقيمها أفلاطون بين الدولة والفرد

وأوضح "إذا وجد التلميذ أن هذه هي طريقة الأستاذ سواء في التدريس أو في الكتابة فإنه بلا شك يصبح مضطرًا إلى التحاور مع ما يقرأ ومع ما يسمع، وهـذا هـو الطريق الأمثل لكي يتمكن من الوصول إلى الحقيقة بنفسه، ومن وجهة نظره التي ربما قد تختلف عن كل ما قرأ".
وأكد النشار أن طريقة الحوار التي كتب بها أفلاطون هي الطريقة الوحيدة التي قد يتعلم منها القارئ العادي كيفية التفكير العقلي في أي مشكلة من المشكلات، أي يتعلم كيفية بلورة المشكلة عبر تساؤلات محددة، وكيفية الوصول إلى رأي أو آراء متعددة لحل هذه المشكلة، إنه يتعلم ببساطة: كيفية التفلسـف! وهـذا بالضبط ما كان يهدف إليه أفلاطون حينما استقر رأيه على اتباع منهح الحوار في الكتابات الفلسفية.
وأضاف أنه إذا كانت العدالة عند أفلاطون هي كمال النفس، فهي أيضا في رأيه كمال الدولة، وإذا كانت النفس التي تحسن أداء وظيفتها هي النفس العادلة، فكذلك تكمن العدالة في الدولة التي يقوم كل فرد فيها بأداء وظيفته على الوجه الأكمل وكذلك تقوم كل طبقة من طبقاتها بوظيفتها على خير وجه.
ورأى النشار أن القارئ للكتاب الثاني من "الجمهورية" يرى بوضوح تلك الموازنة الدقيقة التي يقيمها أفلاطون بين الدولة والفرد، والتي يعرف من خلالها العدالة بأنها قيام كل فرد بوظيفته على الوجه الأكمل في الوقت الذي تحافظ له الدولة على هذه الوظيفة بحسب المواهب والمؤهلات الطبيعية الكامنة فيه، وها هو في الكتاب الرابع يؤكد هذا التعريف حينما يقـول: "إن على كل فرد أن يؤدي وظيفة واحدة في المجتمع، هي التي وهبته الطبيعة خير قدرة على أدائها فمن العدل أن ينصرف المرء إلى شئونه دون أن يتدخل في شئون غيره. إن من شأن ذلك أن تتحقق العدالة في الدولة نظراً لأن أعظم أسباب كمال الدولة، هو تلك الفضيلة التي تجعل كلًا من الأطفال والنساء والعبيد والأحرار والصناع والحاكمين والمحكومين يؤدون عملهم دون أن يتدخلوا في عمل غيرهم". ومـن ثم فإن المجتمع يفرض على كل فرد أن يســهـم في كمال المدينة بأن يؤدي عمله على أحسن وجه وبدون أن يتدخل في عمل غيره.
وإذا ما تساءلنا عن الأسباب التي دعت أفلاطون إلى تقديم تعريفه السابق للعدالة مقترنا بفكرة الوظيفة؟! فإن إجابته تكمن في تحليله البديع لأصل تكون الدولة ونشأة المجتمع السياسي.
فالدولة تنشأ في رأيه "من عجز الفرد عن الاكتفاء بذاته وحاجته إلى أشياء لا حصر لها". ولما كانت حاجات الفرد عديدة وهو لا يستطيع القيام بها وحده فهو إذن في حاجة إلى مساعدة من الآخرين، وكذلك فإن الآخرين في حاجة إلى مساعدته. ولذلك كان لا بد أن يتجمع هؤلاء ليحققوا حاجاتهم المشتركة وعندما يتجمع أولئك الشركاء الذين يساعد بعضهم بعضا في إقليم واحد نسمي مجموع السكان "دولة".