النص الشعري بين التجديد والتشكيل

الشاعر المبدع هو الذي يُقيم أعمدة المعادلة الحقة بين منحنيات التجديد الفني وأصالة التجديد المعرفي والثقافي إلى جانب التقني.
الشاعر أغلق أبواب السؤال والتساؤل عن ماهية تجنيس ما كتبه
عبدالمجيد سمى محتويات الديوان (نصوص) والنص بطبيعته حالة شعرية
النص وإن كان خارجا عن قوانين الخليل، فهو ليس عصيانا عليه

خطا الشعر العربي الحديث، خطوات مهمةٍ وجريئة في مشروع هوّيته الحداثية القادرة علي تحقيق أعلى مستوى من الفن الذي تتخذ فيه المخيّلة الشعرية اتجاها فنيا يفرز كثيرا من تفعيل تقنية النص الشعري المتجدد وهو يواكب التحولات في الواقع العربي المعاصر.
والمتأمل في فضاءات التحديث يلاحظ نمطين من أشكال ذلك التحديث:
نمط عبثي لا هم له سوى إعلان العصيان على القصيدة الخليلية، والتمرد علي أوزانها وأشكالها الفنية، فاشتغلوا على تجديد مغاير لطبيعة العصر ومعاصريه، حيث أغرقوا نصوصهم في متاهات الرمز والعبث التناولي، والغموض المغلق والاستهتار باللغة وقواعدها.
ونمط آخر، هضم أهمية التجديد، واقتنع بأهليته وضرورته التي لا بد أن تتلازم مع قفزات التجديد العصري الذي لازم معظم الفنون الإبداعية والأجناس الأدبية، في نزوع إلى الكمال عن طريق تقديم نماذج شعرية، قائمة على أشكال فنية يتجلى فيها البعد الفني الذي يشير إلى صياغات شكلانية بقدر ما هي جديدة ومتطورة، بقدر ما تُشير إلى تشكيل أنساق فنية ومبدعة تتموضع في إحساس متقن بأهمية التوحيد المعنوي والنمطي، في إدراكه لأهمية التجديد كعالم كوني وكائنٍ للشعر الذي يملك قدرات الوصول إلى التجاوز والوصول إلى أبعد ما هو محلي وليس مجرد رؤى شخصية قصيرة المدى، ضعيفة البصر والتبصر على المستويين الفني والتناولي، بحيث يكون التجديد غايةً وليس وسيلةً، هدفا وليس وهما.
والشاعر المبدع هو الذي يُقيم أعمدة المعادلة الحقة بين منحنيات التجديد الفني وأصالة التجديد المعرفي والثقافي إلى جانب التقني، الذي يبدأ باللغة الشاعرة، وينتهي باللغة الراعشة ومحور التدرّج يتأصل محورا لذلك التدرج بين المعايير الفنية التي تنشد الأصالة، وتندمج ليس في وحدة التجريب الحداثي المتعثر، وإنما في وحدة الإيحاء بالنص النابض والمتوثب، القانع والمقتنع بأهمية التجديد، وما تحدثه جدّة التركيبات اللغوية للبني التشكيلية المختلفة، وما يمكن أن تمنحه موسيقى النص الداخلية والخارجية ممتزجة بالروح المعتقة والمعاصرة في الوقت نفسه.

عاطف محمد عبدالمجيد، لم يقدّم أشياء عادية عندما كتب قصائده، إنما قدم نماذج لومض فني وإبداعي حديث ومتطور يبقى نسيج الشاعر وحده في فعل كتابته وفعل تشكيله الفني المبدع والمتجاوز في الوقت نفسه

من هذا الوعي المدرك لأهمية التجديد في بنية القصيدة العربية والمعاصرة المؤسسة لنص شعري نابض بجمرة الشعر المتوقد حرارةً ودفئاً وعطاءً، ندخل عوالم تجربة الشاعر عاطف محمد عبدالمجيد في ديوانه المتجدد على مستوى الشكل والمضمون "كأشياء عادية أكتب قصيدتي" الصادر عن مجلة الرافد الإماراتية [العدد 129، نوفمبر/تشرين الثاني 2016].
ولعل من أهم ما يلفت النظر، أن الشاعر، وبذكاء واضح، أغلق أبواب السؤال والتساؤل عن ماهية تجنيس ما كتبه، سمي محتويات الديوان (نصوص) والنص بطبيعته حالة شعرية، وإحالة إلي نبض شعري، هو وإن كان خارجا عن قوانين الخليل، فهو ليس عصيانا عليه، وإنما اكتوى بروح الشعر والشاعرية والشعرية أيضا في نص مبدع اعتمد النثرية الفنية والمتألقة في خلق فضاء نص شعري متطور، وليس تمردا أو عاصيا أو عصيا عن الفهم والإدراك.
ولذلك لم نجد ما يُعيب التناص بين عنوان الديوان الذي ضم عبارة (أكتب قصيدتي.. وكلمة التخصيص ــ نصوص).
فالنص من هذه الزاوية قصيدة كتبها شاعرنا بلغته المكثفة وبرشاقة الومضة الراعشة التي لم تخرج عن بوح الشعر المتجدد يبثُّ الدم النقي في بني شعرية متجددة لا عيب فيها، فهي فوق مستوى الشبهات النقدية القاسية والمتعجرفة. ضمّ الديوان بعد الإهداء الذي يقول فيه:
"إلي...
  رؤى
        عبدالرحمن 
                       جمان
       أجمل قصائدي على الإطلاق".
واحد وسبعون نصا شعريا موزع علي قسمين، حمل القسم الأول عنوان "زاوية أولى" ضم تسعة وثلاثين نصا، بينما حمل القسم الثاني عنوان "زاوية أخرى" اثنين وثلاثين نصا. أهم صفة في النصوص التي تناولت موضوعات مختلفة أنها كُتبت على شكل ومضات شعرية قصيرة حملت مستلزمات الومض من حيث الدفق المتوثب داخل النص نفسه وبأقل قدرٍ من الكلمات الحيّة المشبعة بالدلالة التي تجمع الجزئيات في وحدة كلية مترابطة ومتناسقة بحيث لا يمكن تقديم صورة على أخرى أو فكرة إلى فكرة أخري:
"ذات يوم سمع المؤذن، فنهض ليتوضأ
  ثم ذهب إلى المسجد
  بعد أن 
ألقى السلام على يساره
تذكر أنه لم يغتسل من جنابة الأمس" (ص13).
مثل هذا النص ربما يضع قارئه أمام إحالتين للنص فيتساءل؛ أيُحيله إلى القصة القصيرة جدا، وقد احتوى على كثيرٍ من قواعد المصطلح وشروطه وقواعده، أم يُحيله إلى النص الشعري وفيه ذلك الفيض من الشعرية.
إنّ النص وقد بدأ بلغة سردية ــ ذات يوم سمع المؤذن..
إلا أن تلك السردية سرعان ما تجاوزتها لتحلق في فضاء الومض الشعري الخاطف ــ تذكر ــ لم يغتسل من جنابة الأمس.
في نص آخر يتخلي عن السردية ليبقى في أفق الومض المحلق:
"لم يكن سهلا أن يتخذ قرارا مصيريا كهذا
قراره المصيري كان أن يتخذ
ولو قرارا واحدا، دون أن يأخذ رأيها فيه".
النص طافح بالتصوير الحسي كحالة تأثرية مفعمة بالأسى الذي يملأ وجدان ذلك الضعيف الذي لا يملك جرأة اتخاذ أي قرار من دون أن يأخذ رأي زوجته.
في ومضة حملت رقم 16 ص39 نقرأ:
"هُيئ له أنه يسمع طرقات شخص علي الباب
فنهض مسرعا ليفتحه لذاك القادم
لكنّه حين مدّ يده ليمسك بمقبض الباب
وجد نفسه يمسك بالعراء!!".
مثل هذا النص الشعري السردي إنما يستحضر في النفس مقولة رولان بارت: "إنّ القص نوعية من الأجناس معجزة، وتتوزع الأجناس علي مواد مختلفة فيما بينها، وقد يتراءى لنا أن كل مادة صالحة ليعهد بها الإنسان بقصصه "ولذلك وجدنا أنّ النص الشعري لدى شاعرنا إنما ينهض على فكرة النص المشهدي القائم على الحكي: هيئ له ــ يسمع طرقات ــ نهض ــ مدّ يده = وجد نفسه يمسك بالعراء!
النص بتحولاته إنما يربط الشعر بالقص الذي يندمج مع الشعر في وحدة الومض المتدفق صورا حية وتوثيقية في الوقت نفسه.
في ومضة أخرى ينجذب الإيحاء إلى فضاءات الشعر وقد أندمج الخاص بالكل في لقطة مشهدية حملت كثيرا من الإشارات التي تومض داخل النص، وتبرق في مسارات لغته الخاطفة للعين:  

Poetry
جدوى لم تعد لها كلمات

"لأنه تكاسل عن تأدية ما هو مطلوبٌ منه
تساءل متحيرا:
ما الذي حدث؟
كيف انقضى الأمس
من دون أن تثمر شجرتي؟!" (ص73).
لقد اختصرت اللغة وتحولت إلى شاهد أمين على الصراع الداخل وهو في حالة تساؤل، والخارج المتمثل في عدم إثمار شجرته التي هي نفسه وحاله وإحالته في الوقت نفسه وهكذا يحاول بعث الحياة في ذاته وفي ذلك الومض المشع في نصه الذي يختزل العالمين الداخلي والخارجي في قوله:
[من دون أن تثمر شجرتي] أي الذات.. الإنسانية والشاعرة.
في نصوص الجزء الثاني غير المرقمة نصوصه ينتقل الومض بين حالات الذات والخارج والتاريخ والغربة والانتقام الذي يُعبّر عنه وعما في ذاته بتدرجات لغوية كنت الكلمة ـ أجل ـ رابطا نفسيا بين الانتقام بالقتل وللسبب الدافع إلي ذلك الفعل وهو أن يعرف كيف يبدأ نموه كما يريد، ولكن في أرضٍ أخرى. (ص97).
"أجل..
ودون أن أخشي أحدا
سوف أقتلك ذات موعد بيننا
من أجل أن تبدأ نموًّك
كيفما تبغي
في بقعة أخري".
فـ "أجل" مقترنة بالقتل ما بين السبب والنتيجة، عالمٌ لغوي مُستبطن يُجيد لغة العناصر التي تحوّل الفعل ورد الفعل..
السبب والنتيجة إلي روحٍ حيّةٍ ناطقةً ومستنطقةٍ.
في ومضة أخرى من تلك الومضات التي تركز على نسق لفظي قد يكون كلمة واحدة تحوّل الإيقاع إلى روحٍ عالية في النقل والانتقال، ومن ثمّ إلى الترصد فالتصوير.. والتعبير نراه في ومضة (نجوى) الناهضة أساسا على كلمة (جدوى).
"لم تعد كلماتُك
 وفق شهاداتهم
  ذات جدوى
 كما أن جدوى هذه،
  طبق ما أري
 لم تعد لها كلمات" (ص101).
بالفعل ومن خلال سياقات الومض ما بين الداخل والخارج وبين ذات جدوى.. وان جدوى.. هي التي لم تعد لها كلمات لأن الدلالة أمست أوضح من جدوى وهو تنتقل بين ــ ذات ــ وأنّ ــ لينفتح النص الوامض علي التيارات الشعرية بصيغها الأساسية ليس النمطية وإنما بما حملته من ملامح حداثية تسعى إلى التطوير والتحديث الذي جاء بشكل مختلف جدا على مستوى الشكل الظاهري والمضمون اللفظي الغائب في نص وشبه الغائب في نصِّ آخر.
في النص الأول وعنوانه (..........؟) ص151، وجاء علي الشكل التالي:
".....
  ..........
  ..................
          ...............
          ....
          ..........
          .................
          .........................؟؟!!".
إلام يشير هذا الشكل الفني الغائب وراء النقاط التي توزعت علي الأسطر حسب ما يلي (5ـ 10ـ 18ـ 15ـ 4ـ 10ـ 17ـ 25)؟
فالنقاط دلالات لكلمات غائبة ليس بفعل الرقيب وإنما بفعل نفس الشاعر وهو يحجب كلماته ويستبدلها في النقاط التي تُشير ليس إلى أن كل نقطة وراءها كلمة وإنما ربما يكون لكل نقطة دلالة علي حرف، ومن النقاط تتشكل الكلمات الغائبة كـ :
ارتداد نفسي أخفي الشاعر ما أحب أن يُخفيه ليس ليُقدم شكلا غريبا فمثل هذه الأشكال وردت كثيرا في شعراء الحداثة وما بعد الحداثة، بل وما أفرزته نكسة الستينيات من إبداعات غامضة ورموز مغلقة، وغموض موغل في التكثيف، ولذلك مثل هذه النصوص لا يمكن إهدارها وإنما لا بد أن نحيلها إلي مدارس علم النفس لتحليل مرموز النقاط كجزء أو ككل في كل سطرٍ من أسطر التشكيل.
في النص الآخر وعنوانه (.............!) 

Poetry
عاطف محمد عبدالمجيد

"
  .........
  ...........
  ...........
  ............!
  (هامش)
هل تقدر أن تكتب نصّا يشبه هذا" (ص153).
قد يكون هذا النص مغايرا للنص السابق من حيث:
1ـ العنوان الذي ضم (13) نقطة مع إشارة تعجب!
2ـ ترك مساحة بيضاء فارغة.
3ـ ثلاثة أسطر ضمَّ كل سطر فيها (11) نقطة.
ثم الهامش الذي يُشير من القراءة الأولي إلي:
أ-الأنانية.
ب-الذات الشاعرة المتضخمة بـ هل؟
ج - التحدي.
هذا الهامش ارتداد نفسي لا يمكن أن يكون مرضيا بالدلالات الثلاث السابقة [أ ـ ب ـ ج] وإنما هو انعكاس إبداعي ونزوع فني إلى صياغات شكلانية جديدة من الممكن أن يرفضها كثيرا من النقاد والمبدعين إلا أنهم لا يمكن تجاوزها أو رفضها قبل إحالاتها إلى منطوق البعد النفسي + الروحي + الروحاني مقابل: الإبداعي ــ الفني ــ في مجابهة كل من الحالة و ــ الإحالة.
إنّ المبدع، ولا أقول الشاعر أو القاص، لأن الإبداع المجابه، والمقابل والمعادل لمصطلح نص، وفي كل ما قدمه من نصوص إبداعية إنما أراد أن يُرسخ قيمة النص الشعري أو حتى القصصي الحديث والمتطور وقد قدّمها من خلال زخم إيحائي أفرز كثيرا من الشفرات الدلالية السيميائية التي تداخلت وتجاذب في كثيرٍ من الموضوعات الحياتية والمجتمعية مقابل قضايا التجديد والتحديث المعبر عن الموضوعات السابقة التي تتطلب من الناقد المحايد أن يدرسها من مستوي واحدٍ ومن خلال منهج لا ينأي عن المنهج التكاملي الذي يسمح لعلم النفس والفلسفة لأن يشتغل على تحليل تلك الشفرات السيميائية من خلال تحليل معجم الشاعر اللغوي ثم المجازي والإيقاعي وكل ذلك يجب أن يبدأ وينتهي من تجليات الحداثة الجديدة، بعدها من الممكن أن نقول: إن عاطف محمد عبدالمجيد، لم يقدّم أشياء عادية عندما كتب قصائده، إنما قدم نماذج لومض فني وإبداعي حديث ومتطور يبقى نسيج الشاعر وحده في فعل كتابته وفعل تشكيله الفني المبدع والمتجاوز في الوقت نفسه.