رسالة امرأة مخلصة لرجل لا يعرفها
يقول الأديب الهندي فاراز كازي "هل تساءلت يوماً عن الطريقة التي تقتل بها نفسك دون أن تموت؟ الأمر بسيط؛ أَحِبَّ شخصا لا يحبك".
دائماً في قصص الحب العاطفية عندما يكون الحب من طرف واحد نجد أن الطرف الثاني يشعر بوجود (المحب) لكن ربما لا يكنّ له نفس المشاعر العاطفية المتأججة في قلب الطرف المقابل، واللافت في رواية "رسالة من مجهولة" للكاتب النمساوي الكبير ستيفان زفايغ ، نجد أن بطلة الرواية لم تُشعر حبيبها بوجودها نهائياً، حتى بعد أن تموت عندما يحاول أن يتذكرها فتترآى له ذكرى باهته عنها عندما كانت طفلة في الجوار وفتاة شابة وامرأة صادفها في مرقص ذات ليلة، وكأن الفتاة قد أدركت أن الشخص الذي شغفت به لم يكن يتذكرها ولم يشعر حتى بوجودها، فإنها تكتب له: "أنا لا أؤمن إلا بك، ولا أحب سواك، ولا أريد أن أستمر في العيش إلا بك".
صدرت رواية رسالة من مجهولة عام 1922 وهي واحدة من الأعمال التي جعلت هذا الكاتب النمساوي يحظى بشهرة واسعة في الوسط الأدبي باعتبارها رواية نفسية تغوص في أعماق الإنسان.
الرواية عبارة عن رسالة طويلة أرسلتها عاشقة إلى كاتب أعجبت به وأحبته منذ إن كانت ذات الثلاثة عشر ربيعاً، وبنت حياة كاملة على هذا الحب وأحتفظت به لنفسها دون أن تبوح به.
ينظر باتجاه المزهرية الزرقاء، فيجدها فارغة، لأول مرة تكون خالية من ورود بيضاء في يوم مولده فينتفض مذعوراً كأنه أحس أخيراً بروح هذه العاشقة الميتة
تبدأ القصة حين انتقل الكاتب المشهور كمستأجِر شقة في نفس البناية التي تقيم فيها البطلة مع أمها، في مدينة فيينا، وعندما تكتشف الفتاة أن هذا الكاتب المشهور الذي كانت تتوقعه رجلاً عجوزاً، فإذ بها تجده شاباً يبلغ من العمر خمسة وعشرين عاماً، ويتمتعُ بالوسامة والرشاقة، تقع في غرامه، وتقوم بمراقبة أوقات دخوله وخروجه، وتنصت لكل سكنة تصدر منه، فيما يظهر لها من ثقب مفتاح الباب، وتخيّلها لما يمكن أن يكون منه حين يختفي عن ناظريها. كل هذا وهو لا يشعر بها ولا يفطن إلى وجودها، ولا يراها أكثر من طفلة من أطفال الجيران، ومن ثم تنتقل الفتاة إلى مدينة ثانية بعد زواج والدتها من أحد الأقارب، ويبدو أن مقولة "البعيد عن العين بعيدٌ عن القلب" لم تنطبق على هذه العاشقة، فلم تخفت حرارة هذا الحب في قلب هذه الفتاة طوال العامين التي قضتهما بعيداً عن الكاتب، فتعود إلى فينا مدينة الحب بعد أن بلغت الثامنة عشر من عمرها فتستقل بنفسها، وتظل تراقبه وتتبّعه وترصد جدوله اليومي، حتى ينتبه إلى وجودها أخيراً ويدعوها إلى العشاء، ومن ثم يطلب منها مرافقتهُ إلى شقته حيث يقضي معها ثلاث ليالٍ متتاليات، فتكون ثمرة هذا اللقاء أن تحمل منه جنيناً في أحشائها.
لكنه سرعان ما ينساها فتكتب هنا "أحبك كما أنت: متأجج وسريع النسيان، سخي وخائن؛ أحبك هكذا، لا شيء إلا هكذا، كما كنت دائماً وكما أنت الآن"، لكنها لا تخبره بقصة حملها ولا حتى تذكره بنفسها. "ثم إني أعرفك؛ معرفة لا تكاد تضاهيها معرفتك بنفسك: أعرف أن ذلك سيضنيك، أنت الذي يؤثر في الحب والعبث، والطيش، واللهو، تصبح أباً ومسؤولاً فجأة عن حياة شخص آخر. أنت الذي لا يستطيع أن يتنفس إلا وهو حر".
نجد هنا أن البطلة قد أعفته من تحمل مسؤولية الطفل معه لإدراكها أنه لا يحب أن يكون مرتبطاً بأحد أو مسؤولاً عن أحد، وبعد ولادة الطفل تعمل "بائعة هوى" يحوم حولها طالبو اللذة تتقبل المعاناة لكي يحيا الطفل حياة ميسورة "عرفت أن الفقير في هذا العالم هو الضحية دائماً، هو الذي نحط منه، وندوسه بالأرجل ولم أشأ مهما كان الثمن، أن يكبر ابنك المشرق الجميل في القاع"

"كان ذلك يا حبيبي، هو السبب، السبب الوحيد الذي دفعني إلى بيع نفسي. وفي نظري، لم تكن في الأمر أي تضحية، لأن ما نسميه عادةً شرفاً أو عاراً لم يعد يعني لي أي شيء. أنت لم تحبني، لكنك كنت الوحيد الذي امتلك جسدي بحق".
وتمر الأيام وتلتقي به وتسلم له نفسها للمرة الرابعة لعله يتذكرها لكنه لا يتذكرها "ولاحظت أن اندفاعك الشبقي لا يفرق بين واحدة تحبها حقاً وامرأة تبيع نفسها". فلم يعرف هذا الرجل من العلاقات العاطفية غير حدود الجسد ويوجه لها إهانة غير مقصودة عندما يضع لها نقوداً في كم معطفها، فتغادره حزينة يائسة وقد أيقنت إنها لم تؤثر فيه أبداً "لم أكن بالنسبة إليك سوى مغامرة من الشغف الحميم تذوب في دخان النسيان، دون أن تترك أثراً". وتترك النقود لخادمه العجوز يوهان الذي يتعرف عليها من نظرة واحدة، وتتحاشى هي نظراته، فتستأجر شقة في ضاحية فقيرة وتزهد في الحياة وتنتشر الأنفلونزا الإسبانية في ذلك الوقت فتحصد آلاف الأرواح، ومن بينها روح ابنها ثمرة الحب من طرف واحد "كان ابننا، يا حبيبي، ابن حبي النقي وإهمالك ومرورك العابر".
وبعد أن يموت طفلها وتشعر أنها مصابة بالمرض وبقرب أجلها تكتب هذه الرسالة الطويلة كاشفةً عن سرها الذي احتفظت به لسنوات وتبدأ افتتاحية الرسالة بجملة "إليك يا من لم يعرفني يوماً". وتبلغه أنها إن عاشت ستمزق الرسالة، وأنها لن تصل إليه إلا بعد وفاتها، وأنها هي التي كانت ترسل له الورود البيضاء في يوم مولده وتنهي الرسالة بشكرها له على كل شيء رغم عدم معرفته بها، وحتى بعد أن ينهي الرسالة يمرر يده على جبهته في محاولة لأن يتذكرها لكنه لم يتذكر إلا ذكرى باهتة عن ابنة الجيران الصغيرة وعن فتاة قضى ثلاث ليالٍ معها وعن امرأة التقاها ذات يوم في مرقص. ظلال، مجرد ظلال فينظر باتجاه المزهرية الزرقاء، فيجدها فارغة، لأول مرة تكون خالية من ورود بيضاء في يوم مولده فينتفض مذعوراً كأنه أحس أخيراً بروح هذه العاشقة الميتة.