أوكرانيا... أفغانستان بوتين!
لا فلاديمير بوتين يستطيع التراجع وليس هناك من هو على إستعداد للقبول بشروطه وبالأمر الواقع الذي يريد فرضه على العالم، بما في ذلك عودة الحياة إلى ما كان يمثله الإتحاد السوفياتي. يعني ذلك وقوع قسم من أوروبا تحت نفوذ الكرملين مجددا.
يستحيل في الظروف الراهنة العثور على مخرج يحتاج إليه العالم لسبب في غاية البساطة. لا يمكن للرئيس الروسي تقديم أي تنازل. في المقابل، لا تستطيع اميركا وأوروبا القبول بإحتلال روسي لأوكرانيا أو لجزء منها كون ذلك سيفتح شهيّة الرئيس الروسي في كلّ أوروبا. بكلام أوضح، لا يستطيع فلاديمير بوتين الإعتراف بأن مستقبله السياسي على المحكّ. إلى إشعار آخر، ليست لدى فلاديمير بوتين أي رغبة في اعتزال السياسة.
يطوي دخول روسيا أوكرانيا عسكريا صفحة في العلاقات الدوليّة في ظلّ إدارة اميركيّة لم تعد تكتفي بالتفرّج على ما يدور في العالم. وجدت إدارة جو بايدن نفسها مُجبرة على مزيد من التدخل في انحاء مختلفة من العالم، خصوصا في أوكرانيا التي صارت بمثابة أفغانستان بوتين. نتيجة ذلك، بات على العالم البحث عن نظام دولي جديد مبني على نظام سقط قبل ان تتبلور ملامحه.
كان مفترضا ان يكون هذا النظام، الذي لم تتبلور ملامحه، نظام القطب الواحد، بزعامة الولايات المتّحدة التي هزمت الإتحاد السوفياتي في الحرب الباردة. لكنّ شيئا من ذلك لم يحدث. ستسعى الولايات المتحدة ومعها أوروبا إلى التعاطي مع ما فرضه فلاديمير بوتين في أوكرانيا الدولة المستقلّة التي لم يستطع احد حمايتها.
في مرحلة ما بعد سقوط جدار برلين، واستعادة المانيا لوحدتها، كان الامل في قيام نظام دولي مختلف في عالم تسود فيه مبادئ الحرّية والعدالة، خصوصا بعدما تحرّرت دول أوروبا الشرقيّة من الهيمنة السوفياتيّة. بقيت مرحلة ما بعد سقوط جدار برلين محصورة، إلى حد كبير، بأوروبا التي توسعت بفضل الاتحاد الأوروبي، لكنّها باتت الآن في مواجهة تحديات جديدة.
ما حصل في أوكرانيا مخيف جدا. يعود ذلك الى غياب أي رادع للعدوانيّة الروسيّة ورغبة فلاديمير بوتين في فرض امر واقع على الأرض بالقوّة العسكرية وبفضل ما يمتلك من صواريخ وقنابل نووية. لعلّ اخطر ما في الامر، أنّه كان في استطاعة الرئيس الروسي تحقيق جزء أساسي من مطالبه في أوكرانيا بمجرّد حشد قوّاته على حدودها. كان العالم مستعدا للأخذ والردّ مع الكرملين، بما في ذلك النظر في امتناع أوكرانيا عن دخول حلف شمال الأطلسي (ناتو). لكنّ السؤال – اللغز يظلّ لماذا كلّ هذا الإصرار لدى الرئيس الروسي على تغيير النظام في أوكرانيا والحاقها بروسيا بالقوّة؟
قد يكون الجواب في انّ بوتين أراد تعويد العالم على التعاطي مع روسيا من منطلق جديد يتلخص بعبارة انّ الاتحاد السوفياتي لم يمت. مع احتلال روسيا لجزء من أوكرانيا عادت روسيا على تماس مباشر مع دول مثل بولندا وهنغاريا وسلوفاكيا ورومانيا. لا شكّ ان هذه الدول ستعيد حساباتها في ضوء ما حل بأوكرانيا من جهة واستعداد الرئيس الروسي للتسبب بحرب عالميّة جديدة من جهة أخرى.
في كلّ الأحوال، تبيّن ان أوروبا مفككة وانّها لا تمتلك أي انياب تمكنها من مواجهة روسيا عسكريا، على الرغم من كل ما يعانيه جيشها وانكشاف مستوى سلاحها. اكثر من ذلك، لا وجود حاليا لزعماء أوروبيين حقيقيين. المانيا نفسها تبدو ضائعة بوجود مستشار جديد اسمه اولاف شولتز بات في بحث دائم عن بديل من الغاز الروسي. امّا فرنسا، فقد فقدت توازنها منذ فترة طويلة. لن تنفع زيارة ايمانويل ماكرون لواشنطن ومحادثاته مع الرئيس جو بايدن في استعادة فرنسا لتوازنها. كان جاك شيراك آخر رئيس فرنسي يمتلك شيئا من ملامح الزعامة...
ستكون حاجة الى بلورة نظام دولي جديد في عالم تسوده الفوضى. لا شكّ ان الأمم المتحدة فقدت الكثير بعدما تبيّن انّ لا دور لها في معالجة ازمة في حجم الازمة الاوكرانيّة. تبدو الأمم المتحدة، التي يعطلها الفيتو الروسي، اقرب الى جامعة الدول العربيّة التي ظهر عجزها منذ وقت طويل...
كانت نقطة البداية للتراجع الأميركي في سوريا حيث ظهر ان باراك أوباما ليس سوى سياسي فاشل لا يهمّه سوى تفادي أي مواجهة من ايّ نوع. تراجع الرئيس الأميركي السابق، بعد استخدام بشّار الأسد السلاح الكيميائي في حربه على شعبه صيف العام 2013. قبل ذلك هرب من العراق. استكمل في 2011 الانسحاب العسكري من معظم العراق بعدما عقد صفقة مع ايران تسمح لنوري المالكي بتشكيل حكومة.
لم يكن تراجع أوباما في سوريا في العام 2013 حدثا عاديّا. لا يمكن تجاهل انّه استمع، وقتذاك، الى نصائح فلاديمير بوتين الذي اقنعه بانّ من الأفضل إيجاد طريقة كي يتخلّص النظام السوري من مخزون الأسلحة الكيميائية... بدل ضربه.
نجح فلاديمير بوتين في مناورته تلك. ارتاح باراك أوباما بعدما نجح في العام 2015 في التوصل الى اتفاق مع ايران في شأن ملفّها النووي.
نرى الآن ايران، التي عمل باراك أوباما على تقويتها، تهبّ لنجدة فلاديمير بوتين في أوكرانيا. تردّ له الجميل بعدما انقذ النظام السوري من السقوط في خريف العام 2015.
في انتظار بلورة نظام دولي جديد، هناك عالم يعيش في حال من الفوضى والضياع. لا يدل على الفوضى والضياع اكثر من استحالة إيجاد مخرج من الأزمة الأوكرانية. لا بدّ من مخرج في ضوء ما يعانيه العالم، إن على صعيد الغذاء أو على صعيد الطاقة، بسبب تهوّر فلاديمير بوتين. يُعتبر بوتين حالة مرضية اكثر من أي شيء آخر... تماما كما كانت حالة أدولف هتلر. هل يمكن إيجاد مثل هذا المخرج عندما يتعلّق الأمر برئيس روسي يرفض أخذ العلم بأنّه خسر حربه ويرفض الإعتراف بذلك؟