ماذا لو كان الابداع ضرورة جغرافية؟

في فلسطين تولد المرأة منسيّة لتبدأ رحلة رفضها هذا النسيان، فالهامش لا يقدر على احتوائها، روحا وجسدا، لأنها تعرف كيف تتنفس عمق البحر وتعلم أن قمة الجبل مجلسها فتتبنى خصوبة السهل وتتقلب مع الصحراء بهدوء وانسجام.
رلي جريس
القدس

هي مسؤولية كبير وتحدٍ جسيم أن تولد فلسطينيا، والأعظم أن تولد امرأة فلسطينية في أرض محتلة تحتفي بنفسها كعالم مليء بالإبداع في مجالات فنية عديدة. كيف يمكننا ان نمضي حياتنا دون أن نكتب ما يمرّ بنا من مشاعر وأفكار في واقع أشبه بدراما خيالية كتبت بحبر قدريّ من المستحيل أن تزول بقعه.

من يعرف فلسطين، يدرك التنوّع الهائل الذي تحويه هذه البقعة من الأرض. ففلسطين بتضاريسها الجغرافية، فيها من البحر عمقه ومن الجبل علوّه ومن السهل وسعه وخصوبته ومن الصحراء هدوؤها وتقلباتها. تجمع المنطقة بين الالوان كما تجمع بين الفصول، فتجد الأخضر الخصب والأحمر الدامي، الأبيض النقيّ والأسود الراقي، ناهيك عن الأزرق العاطفي. فلسطين غنية بالروح والمادة، ترابها بها أبيّ ورملها سلس. خشنة الطبع حائرة المجتمع، تصرّ على رفع رأسها وتقمع نساءها في ذات الوقت. ولذلك فأن تولد المرأة فلسطينية هو حدث يولّد مساحات إبداعية لا تتواجد في مناطق جغرافية أخرى في العالم العربي أو غيره.

بكلمات أخرى، فإن الوصول الى هذه الزاوية من العالم يحتّم، برأيي، على المرأة أن تكون مبدعة في حياتها، عاديّة كانت أم مختلفة، مع أني أختلف مع كلمة "عادية" أشدّ اختلاف، لأن من تمرّ من رحم أمها الى هنا تزوّد حال وصولها بقواعد متّفق عليها ضمنيّا، لخوض الحياة على أنّها معركة لا يمكن أن يصمد فيها، الا من كان مبدعا، بداية في إدارة أي يوم عادي، وحتى النجاح في تحقيق أشد الأحلام استحالة.

وليس في ذلك من العاديّ أي شيء، لأن الولادة تكون عادية حين يولد المرء حرّا ويكون السلام العائلي والمجتمعي بانتظاره ليستثمر فيه كفرد ذي دور هامّ وضروري. أمّا في فلسطين المحتلة تولد المرأة، إضافة الى ذلك التحدي المتمثل بكونها امرأة، منسيةً، ليس فقط من قبل ذكورية مجتمعها، بل منسية في مجتمع الاحتلال الأوسع، لتحارب مشاعر لا تواجهها أي امرأة في أي مكان آخر. نعم، أنا أجزم أن المشاعر المتشكلة لدى المرأة الفلسطينية تختلف عن أي مشاعر أخرى في العالم.  على ضيق هذه الأرض الصغيرة، على وسع الابداع الذي تسخو به روح المرأة الفلسطينية لتكون في مقدمة مجتمعها القاسي رغما عن أنفه، لتجتازه وتتقدم في كثير من الأحيان الى مراقٍ عالمية.

اذ لا يمكن أن تجد امرأة تكتفي بغير التقدم الى الأمام، لا لسبب محدّد انّما لأنّ الخسارة غير مقبولة عند الفلسطينية من النساء، فهي وإن لم ترث عصا سحرية من أمها أو أبيها، تنسج لنفسها واحدة تخدم وجودها.

تحقق المرأة الفلسطينية بداية من ربات المنازل إدارة خارقة للأمور البيتية اقتصادية كانت ام اجتماعية، فتجدها تعمل في أي مجال يضمن لقمة كريمة لأبنائها، غير منتظرة، في غالب الحالات، ما قد يقدمه الرجال في حياتها، فتجدها تبرع كمعلمة صارمة في مدرسة، كطبيبة حنونة في مشفى وكمحامية شرسة في قاعة المحكمة والكثير من المهن الأخرى.

كما وتجدها بارعة في نسج شبكة معارف بسلاسة وقوة شبكة أقوى عنكبوت تصطاد فيها ما تحتاج وتتنقّل عليها ملء الثقة من جهة الى أخرى في الحياة، متعتها أن تعطي مما تجتهد في الحصول عليه لأنها أبدعت في اجتهادها والابداع يعطي لصاحبه اكتفاء وجوديّا يضيف الى مخزون قوته اللازمة للاستمرار نحو الشروق القادم للشمس.

لا يمكن أن يُبنى أمام الفلسطينية حاجز لا تقدر هي على اختراقه. تخترق سلطة ابيها لتخرج باحثة عن شغفها، في العلم، أو الفن أو الصنعة، وذلك نفسه يجبرها على اختراق حاجز اللغة الاكاديمية التي لا تشبه اللغة التي علمتها إياها أمها، وحاجز العنصرية القومية منها والدينية على مستوى محليّ أو عام في دولة لا يهمها سوى تسيير الأمور نحو الإنتاج والربح الماديّ. وعلى اختراق العادات والتقاليد في مجتمعها المسكين الذي ما زال يحبو ولا يرتفع نظره أعلى من الأرض التي يمسّدها بأربعته.

الفلسطينية تولد حاملة "بقجة" أحلام تكبر لحظة بلحظة كلما تأملت المكان والزمان الذي ولدت فيه لتجد، يمنة ويسرة، محفزات تدفعها لتحقيقها. وإن لم تسعفها موهبتها على تحقيق ذلك، تخلق معجزة واثنتين وثلاث تنهي بهنّ ما بدأت.

لا يمكن أن تمرّ الفلسطينية في الحياة دون أن تغيّر في ترتيب التاريخ محليّا على مستوى بيتها وعائلتها أو حتى على مستويات أكبر وأوسع. هي متعة الإنتاج ما يدفع المرأة الى الأمام لتنظر الى ما تركت وراءها بابتسامة منتصر، أو لا تنظر، ويكون ذلك باختيارها هي فقط.

أن تكوني امرأة فلسطينية يعني أن ألّا تكوني امرأة كغيرك من النساء، بل أن تكوني حوريّة بعصا سحرية، تبدعين في إدارة مصاعب الحياة لتخضع لك مصائر الأمور مسلّمة بقدرتك على تحديد نهايات أجمل وأفضل. تكتبين حتى تجتاح مشاعرك السماء والأرض، ترقصين لترسمي حدود الأفق بما يناسبك، تغنين لينحني فضاء الكون لك تقديرا واعجابا. فإنّ إبداع الفلسطينية مجبول بالصدق والحياة الاجبارية التي تعيشها. تقوم بسلاسة كانت أم بنحت الصخر، بترجمة القدر الذي كتب عليها الى لغتها هي، التي لا يمكنك مناقشتها الا ان كنت متمكنا من لغة القدر الأصلية لتقرأ كيف كتب في الحقيقة.

أن تكون المرأة فلسطينية يعني أن تمتلك ذاكرة شعب بمساحة لا تنتهي لألوف من السنين. تحاور من خلالها أقدار كل النساء لتتعلم منها اجتياز الماضي لتعجن من الحاضر خبز المستقبل. فتجدها تطأ التراب بقوة غريبة يمجّد فيها هو عينيها لضرورتهما في تثبيت الحياة فوقه.

حتى في الحب تجدها تبدع الى ابعد الحدود. ففي جيناتها حبّ الأرض وحبّ السماء يختلطان ليكون دمها خليطا يضخ حياة في كل ما تريد. هي لا تشتاق فهي تحتفظ بمن تحبّ في جيب خاص في قلبها تأخذه معها حيثما ذهبت. لذلك لا يمكن للّوعة أن تمتص منها الابتسامة لكل ذكرى صنعتها هي باختيارها.

ولكنّ جميع أوتارها حساسة فالحذر ان لعبتَ على أحدها بغير حق فإنها معدّة لأخذ حقها من أسنان الأسد دون أن ينتبه هو لذلك. فللخوف مضادات في قاموسها تضعه في وسط قلعة من الجبروت والحرية للإقدام في كل الاتجاهات دون تردد.

في فلسطين تولد المرأة منسيّة لتبدأ رحلة رفضها هذا النسيان، فالهامش لا يقدر على احتوائها، روحا وجسدا، لأنها تعرف كيف تتنفس عمق البحر وتعلم أن قمة الجبل مجلسها فتتبنى خصوبة السهل وتتقلب مع الصحراء بهدوء وانسجام. هي الفلسطينية ما ينتج عن هذا الموقع الجغرافي المحيّر.