قادمون من الحرب ذاهبون إليها
حين تخرج غزة من حرب فإنها تستعد للدخول في حرب أخرى. مَن يراهن على الحرب؟ لن تختلف الحرب القادمة عن الحرب السابقة في شيء إلا في اسماء الضحايا.
وحين يتحول البشر إلى اسماء فإن هناك خطأ عظيما يقع في مكان ما. المكان الذي تجتمع فيه السياسة بفساد الموقف من الإنسانية، تاريخها وقيمها.
وبما أن منسوب الإنسانية قد انخفض في عصرنا فإن لعبة الحرب صارت مسلية لجماعات صار اللهو بالسلاح مصدر تسليتها الوحيد.
فغزة هي أرض مقتطعة من فلسطين. وغزة قضية هي غير القضية الفلسطينية. وغزة أرض محررة بالنسبة لإسلامييها. وغزة تحارب حين يحتاج الآخرون ذلك. غير أن فلسطينيي غزة هم الذين يدفعون الثمن. ثمن حرب ليس لهم فيها ناقة ولا جمل.
وغزة قبل الحرب وبعدها مدينة حياة وليست ساحة قتال. يحبها أهلها ويرغبون في التمدد على سواحلها كما يفعل الأجانب البعيدون. يحب أطفالها أن يلعبوا مثلما ووقتما يشاءون. يحب أطباؤها أن يذهبوا إلى عملهم في مستشفيات لا تستقبل جرحى الغارات وليس فيها ثلاجات إلا للموتى العاديين. يحلم مهندسوها ببناء مساكن للفقراء كما فعل لوكربوزيه. يود رساموها أن يقيموا معارضا لأعمالهم والكتاب أن ينشروا كتبهم. في حقيقتها غزة ملك أبنائها وليست ملكا لحركة حماس كما هي في الواقع.
حولت حماس غزة إلى واحدة من أكثر المناطق خطرا في العالم. فرضت على أهلها شريعتها وصادرت حرياتهم في الفكر والملبس واسلوب العيش والسفر والتربية والتعليم، بل وصادرت حتى حلم العيش في حياة آمنة، مطمئنة.
لم يجن أهل غزة من كل الحروب السابقة غير القتل والدمار والخراب فيما كان زعماء حماس يقاتلون عن بعد وهم في منتجعاتهم. وكل حرب قادمة ستكون شبيهة بالحروب التي حولت غزة من مدينة تحتضن ناسها إلى حالة إنسانية تنظر إليها الأمم بإشفاق.
كمَن يتسلى يتحدث اسماعيل هنية عن الحرب. إنه يعد بلعبة جديدة، ستكون أكثر إثارة من سابقاتها. هناك صواريخ لا تؤذي أحدا، يمكن أن تنطلق هذه المرة من لبنان، يزعم حزب الله أنه لا يعرف عنها شيئا. وهو ما يتفق مع الرؤية الإسرائيلية. لذلك فإن الحل يكمن في قصف غزة. ولكن هناك مَن يفكر أن حماس تحاول أن تنقذ نتنياهو من مأزقه الداخلي بعد فشله في فرض التعديلات القضائية. فهل يعمل هنية على الجبهتين، جبهة إيران وجبهة إسرائيل؟
تلك رواية ضعيفة لست متحمسا لها. ولكن إسرائيل وجدت في عقاب أهل غزة ما يريح أعصابها من أزمتها الداخلية. غزة هي العدو الجاهز. أهل غزة منذورون للقتل والخراب والإذلال والإشفاق في دورة عنف لم يعد أحد معنيا بإحصاء تسلسل وقائعها. أهل غزة محاصرون في مدينة أُقتلعت من الجغرافيا والتاريخ. لا فلسطين تسأل عنها ولا هي تعد بشيء ما يُذكر بفلسطين. ألا تخون غزة أهلها؟ يا لقسوة السؤال.
يهرب أهل غزة إلى دول اللجوء ولا أحد يستقبلهم. قبل أيام قال مدير مصلحة الهجرة في السويد لشاب حُكم عليه بالتسفير إلى غزة بعد رفض طلب لجوئه "غزة مكان خطر بالنسبة للسويديين، ولكنها ليست كذلك بالنسبة لمَن هم في أمثالك".
هناك في الخلفية رواية إسرائيلية يصدقها العالم. تقول تلك الرواية إن أهل غزة إرهابيون. لقد تم اختزال غزة وأهلها بحركة حماس التي يروق لها أن يتم عزل واقصاء الشعب الذي استولت على مدينته ليكون في خدمتها. وهو ما تعمل عليه إسرائيل ويتبعها العالم.
مَن يجرؤ على عدم تصديق إسرائيل؟
كانت هناك دائما مفاوضات بين السلطة الفلسطينية وحركة حماس، ولكن تلك المفاوضات التي تنجح حينا وتفشل أحيانا لم تكن تتعلق بمصير المدينة التي تم تعويمها. يا لفداحة الخطأ الذي نرتكبه ونحن نأمل خيرا من مفاوضات تُعقد بين تاجرين. علينا أن لا ننسى أن القضية الفلسطينية كانت قد تبخرت بعد أوسلو. وسلطة أوسلو هي التي تحكم في رام الله.
ما ذنب غزة وأهلها إذا كان الخراب الفلسطيني قد محى تاريخا من النضال العظيم الذي تم اختصاره بسلطة هي ليست سوى فرقة أمنية تابعة لإسرائيل؟ ولم يكن البديل بأحسن حالا. فهو عبارة عن فرقة مرتزقة يحركها ممولوها الذين تحوم عليهم شبهات الارتباط بإسرائيل. وهكذا تكون غزة مدينة فريدة في مصيرها. اينما التفتت ترى الحرب ماثلة أمامها.