رسائل من العالم الاخر، حقيقة أم خيال!
كولن ولسن هو من المولعين جـداً بالجانب الغيبي من الحياة، والكثير من الظواهر الغريبة أو الشاذة كالأشباح والتناسخ والخروجمن الجسد.. الخ، والتي قد ننظر إليهانحن نظرة الريبة والتشكيك،أو نعتبرها محض مبالغات صحفية مكتوبة بقصدالإثارة البحتة..فهذه التجارب عصية على التصديق، بالرغم من هالة الإقناع التي يحيطها الكتاب عادة بمثل هذه التجارب، بينما يضعها كولن ولسن في صف الحقائق القابلة للتصديق، أو علىالأقل يحاول تقديمها، كما يقول في كتابه "ما بعد الحياة" المكرس لهذا الموضوع،على شكل حقائق مرتبة، ليكون القارىء فيالنهاية في موقع القدرة على اتخاذ القرارالحاسم بهذا الشأن.
وكولن ولسن له سوابق عديدة قبل هذا الكتاب في مجال اهتمامه بالظواهر الخارجة عن المألوف، فقد كتب في السبعينات سلسلة من الكتب عن السحر والأشباح والقدرات الخارقة وخفـايا الحياة أوغرائبها، واستمر في الحياكة على هذا المنوال المثير للقراء والدافع لأرقام المبيعات إلى أعلى بحماسة، قد تدفعـه،أحياناً، إلى خيـانة الـروح العلمية، التي يجب أن يتسلح بها الباحث، حتى وإن كان مؤمناً ومنحازاً إلى مادته بشكل مسبق، أما ما الذي حرك فضوله لتأليف هذا الكتاب فهو قراءته لمسودة كتاب الدكتورآدم كرابتري "الإنسان المتعدد"، بعد أن طلب منه الناشر وضع مقدمة له. وفي هذا الموضوع سنستعرض فصلين مثيرين من هـذا الكتـاب، همـا "الاستبصـار" و"أصوات في الرأس" تاركين للقارىء، حرية السياحة في هـذا الوادي الـوعر، والخـروج مـنـه بمـا يشـاء من نتـائـج وانطباعات.
أصوات في الرأس
ابتدأ الدكتور جوليان جينز، وهو محلل نفساني من جامعة برنستون، بدراسة الهلوسات السمعيـة، بعـد تـعـرضـه شخصياً لاحداها، إذ كان يضطجع على أريكة عندما سمع صوتاً يتحـدث فيالهواء فوق رأسه، وبالطبع انتابه القلقبشأن صحته العقلية، ولكن "جينز" اكتشف فيمابعد أن زهاء 10 بالمئة من الناس يتعرضون إلى هلوسات من نوع معين، وأننحو ثلث هذه الهلوسات تتخذ شكل "أصوات شبحية"، فلقد أخبرتـه ربةبيت شابة معافاة تماما بأنها تتحدثطويلا مع جدتها المتوفاة صباح كل يومعندما تقوم بترتيب الاسّرة!!
كانت هذه الشابة تدعى "سارة"، وقد أخذها الدكتور جينز إلى عيادة الدكتور آدم كرابتري، وهو طبيب نفساني يعيش ويعمل في مدينة تورنتو بكندا، وقد سألهاالأخير في ما إذا كانت قد سمعت أية أصوات داخل رأسها فردت بالإيجاب..طلب منها كرابتري عندئذٍ أن تضطجع وتسترخي، وأن تبذل غاية جهدها وتحاول أن تستدعي تلك المحادثات الداخلية، وفيالحال تقريباً ابتدأ جسد الفتاة بالتشنج وهتفت "أوه. الحرارة. إني أعاني من الحر!"
وعندما استمرتْ في الحديث لاحظ كلا المحللين التغير الذي حدث في نبرة صوتها، إذ كانت سارة تعوزها الثقة بالنفس، بينماكان لهذه الشخصية الجديدة صوتشخص واثق اعتاد فرض سلطته، وعندما سألاسارة عما تريد أن تفعله..أجابت:
"أساعد سارة !"
وكان ذلك دليلاً واضحاً على أنها لمتكن سـارة. وعندما سألا المرأة المستلقية عناسمها أجابت سارة جاكسون، وعرّفتنفسها بأنها جدة سارة، ولقد شرح لهاالدكتور كرابتري أنـه وجوليان جينز يحاولانأيضاً مساعدة حفيدتها سارة، ثم سأل الجدة إن كانت ترغب في تقديم المساعـدة فردتبالايجاب.... وبذلك انتهت الجلسةالأولى .
وسرعان ما عادت الجدة إلى الجلسة التالية وكانت لما تزل تتحدث عن النار، وعـند نقطـة معينـة سـألـت: "اینجيسون ؟"، واتضح فيما بعد أن جيسونهذا هو ابنها، وأن النار، التي اشـارت إليهـا، هي حريق شب عـام 1910، إذ أسرعت سارة جاكسون عائدة إلى البيت حالما سمعت أن ثمـة حـريقـاً شب في الشارع الذي تعيش فيه، فلقد تركتابنها الذي كان في السابعة من العمروحده في المنزل، وكانت المنطقة مشتعلةب أكملها، ولكن جيسون في الواقع قد أُخل يبسلامة من قبل الجيران . بيد أنها لمتعرف ذلك إلا بعد ساعة كاملـة قضتها هائمة في الشوارع شبه مجنونة مختنقة بالدخان، مما جعل تلك الحادثة تنحفر فيوعيهـا بعمق.
استنادا إلى "الجـدة"، فانها قد تملكت جسد حفيدتها سارةبهدف معلن هومساعدتها، في الوقت الذيكانت فيه الجدة المتوفاة هي المحتاجة إلى المساعدة تحت وطأة الاحساس بالذنبمن حياتها.
يقول كولن ولسن:
مـن المحتمـل أن يكـون رد فـعـل القارىء على هذه القصة تصرفاً مشابهاً لتصرفي عندما قرأت أول مرة مسـودة كـتـاب آدم كـرابـتـري الـذي أسمـاه "الإنسان المتعدد"، إذ اعتقدت أن لابد هناك تفسير نفسي خالص للأمـر، فلقد عرفتْ سارة جدتها عندما كانت طفلة،وربما تكون قد سمعت بقصة الحريق منلسانها، وأنها ربمـا أدركتْ التشابـهالواضح بين مشاكل جدتها ومشاكلها، وأن عقلها الباطن قد أعاد إخبـارها بقصتها كمعادل لمعاناتها الخاصـة، ولكنه، فيما بعـد، سيميل إلى تقديم هذها لأصوات باعتبارها حقيقة، وليست مجردتجليـات للـذهن البشري اللاواعي أواجتراحات وأوهـام للعقـل الباطن، ويستمر في وصف ثماني حالاتمشابهة من تجارب الدكتـور كرابتـريتشتمل كل واحدة منها على نوع منأنواع التملك، أو "التلبس" الذي تجد فيه الروح جسدا تسكنه، وتلتجىء إليه،وتتحدث من خلاله لسبب أو لآخر.
هـذه الأصـوات المجـردة مـن أجسـادهـا، والتي يسمعهـا البعض في رؤوسهم، قد لا تكون، حسب كولن ولسن، من إتيان العقل الباطن، كما قد لا تكون حالة من التملك أو التلبس، ويستعرض أكثـرمن نظرية حول مصدرها وأسبابهـا:
النظرية الأولى نظرية غريبة يقترحهـا "جوليان جينز" مفادها أن أجدادنا القدامى كانـوايسمعونأصواتاً طوال الوقت، ويعزوجينز سبب ذلك إلى أن الإنسان البدائيكان يفتقر إلى كل انواع الشعور بالذاتبمفهومنا الحديث للكلمة. ويعتقد أنأجدادنا من سكنـة الكهوف كانوا لايستطيعون تأمـلا داخل أنفسهم لأنه ميفتقرون إلى "الأنا الداخلي"، إذ كـانت عيونهم تشبه أضوية السيارة الأمامية موجهة باستمرار تجاه العالم الخارجي، لذلك إذا طُلب من أحد هؤلاء الرجال أنيذهب ويبني سدا على النهر، فإنه سيجد صعوبة في تذكر سبب تجواله على ضفةالنهر، ولكن إحساسه بذلك الهدف سوف ينشط بـوساطـة صـوت ما..ـ ذلك الصوت هـو صـوت زعيمه، الذي يبدو وكأنه يأتي من الهواءالذي فوق رأسه مكرراً عليه التعليمات.
الدماغ المشطور
يتكون الدماغ من نصفين متطابقين تماما، کما لو أن هناك مرآة وضعت في المنتصف، يقعانتحت الجزء العلوي من الجمجمـة، ويربط بينهما جسر من الأعصاب علىشكل حُزمـة تسمى بالجسم الجـاسي، وإذا تعرض هذا الجسر إلى الأذى فـإنالشخص يصير من الناحية العمليةشخصين.. وقد حـاول مريض مصـاببانشطار الدماغ أن يفتـح سحابة بيد، بينمـا كـان يحـاول أن يغلقـه بـاليـدالأخـرى، ويسمي "ولسن" الجـانب لأيسر بـ "العـالم" والجانب الأيمن بـ "الفنان" إذ أن شبه الكرة الايسر يتعامل مع اللغة والتفكير المنطقي في حين أنالأيمن يُعنى بالانماط والبديهيات . ولهذا فإن الشخص الذي يتعرض إلى ضرر في الجزءالايسر من الدماغ قد يعاني من مشاكل فيا لنطق، ولكنه يظل قادراً على رسم صورة أو دندنة لحن.. كما ويعتقد جينز "أن" مصدر "الأصوات المجردة من أجسادهـا" هـو الشخصالآخر القابع في الجانب الأيمن. وأنه ـاتنتقل من هذا الجانب إلى الجانب الأيسرمن الدماغ الذي هو "أنت" خلال مكبر للصوت!
لقد ألمح "موزارت" ذات مرة إلى أن الألحان تندفـع دائما إلى رأسـهطائرة ومسرعـة وما عليـه سوى أنيصغي لتلك الأصوات. وهذا يعني، حسب "جينز"، هو أن الألحـان تأتي من الجانب الأيمن إلى الجانب الأيسر من دماغه. كما يعني أن الأصوات التي كان يسمعها الإنسان القديم كانت تندفع من الجانب الأيمن إلى الجانب الأيسر مندماغه بطريقة تبدو معها، وكأنها قـادمة من مكان مجهول،أ و أنها تُملى عليه من قبل الآلهة.
يبدو هذا التفسير قريبـاً للمنطق العلمي، ولكن كولن ولسن سيميل إلىدحض الكثير من جوانب هذه النظرية،عندما يكتشف بعض الخصائص الغريبة لتلك الأصوات مثل التحدث بالسجع أوالايقاع أو بلغات أجنبية.. أو بعـدة اصوات في وقت واحد!!!كمـا يجـد من المستحيل الاعتقـاد بنظرية "جينز" حول غياب الأنا، لأن ذلك يؤدي إلى الاعتقادب أن الإنسان الذي بنى الـ "ستون هنج" و "الأهرامات" كـان يفتقر تمـامـاً إلىالـوعـي الـذاتي وإلى الإحسـاس بـ"الأنا"، ولكنه يؤيد "جينز" في الاعتقاد بأن الإنسان، عند نقطة معينة من تاريخ الحضارة، أُجبر على أن يصبح "يسار يالدماغ"،أي أنه أهمل عمداً الوعي الأكثر دفئاً وحميمية من الحيوان والطفل، وطّورعيناً عملية قاسية، بحيث أجبرته مشاكل البقاء المتزايدة على أن يطور جهازاً يشبهكثيرا عدسـة مصلح الساعة المكبـرة، تمكنـه مـن أن يـركـز عـلى التفصيلات الضئيلة، وكانت النتيجة أنأصبـح هذا الإنسان قصير النظـر، ولم يعد مـدركـاًللآفاق. لقـد أصـبـح لـديه كره للـعـواطـف وضبط نفس حـديـدي وأحاسيس جامدة، ومثل هذه الصفات القاسية قدأدت به إلى إرتفاع "عتبة" الجمال كماسنلاحظ فيما بعد.
ذاكرة المستقبل
كما قلنا فإن "كولن ولسن" يميل إلىوضـع القدرات الـروحـيـة في إطـار منا لغموض المتعمـد، الـذي يضفي علىعرضها ومناقشتها طابعاً من التشويقوالإثارة، غير مكترث أن يقوده ذلـك إلى الابتعاد عن الروح العلمية التي يفترض أن يتسلح بها الباحث.. وهو مولع أيضاً بما يقرأ ويسمع من شهادات وتجـاربحول تلك القدرات الغريبة معاملا أياها فياغلب الاحيان كحقائق مسلم بهـا، مـادامت صادرة من أشخاص موثوق بهم وبرصانتهم وبسلامة قواهم العقلية.
من هذه الشهادات التي يسـوقهـاالمؤلف، في مجال الاستبصار، مـا قالتـه إحدى باحثات جمعية البحث الروحاني،وهي سيدة ذات ثقافـة عاليـة وتدعىروزاليند، وقد ضّمنت جميع ما خبرته في هذا المجال في سيرة ذاتية اسمتها "خليةالعسل التي لا تنضب" واستـل منهـاالمؤلف الكثير من الأمثلة..تقول روزاليند:
في أحد الأيام.. رأيت أبني الاكبريبحث عن اسم شارع في خارطة لندن،لأنه كما أخبرني بعدئذ، قد "عرف" أن شخصاً ما سيسأله عندما يخـرج منالبيت عن هذا الشارع وهو لا يعرفه، وفعلا حدث ذلك بعد أن توقعه ابنها خـلالساعة!!، كما وتصف تلـك الباحثة تجربتين من تجاربها في التخاطر مع الموتى، الأولى تمتمع إمرأة اسمها جوليا ماتت إثر حادثطائرة، وسألتهاأن تنقل رسالة إلى أمهاتطلب فيها وقف الحداد عليها،أما الثانيةف حدثت بعد عشرين سنة من ذلك، عندماتوفي صديق قديم لها، ثم اتصل بها بعدعشرة أيام من وفاته بطريقة حميمية جداً وهو أكثر حيوية في الموت مما كان عليه فيالحياة!!!
يقـدم كتابهـا "خلية النحل التي لا تنضب"،حسب ولسن، دعماً مثيراًلنظرية المـخ الأيمن البدائي التي تفسرالأصـوات على انهـا صـادرة من ذلـك النصـف "الآخـر" إلى النصف الأيسر "أنت" عندما تصف سماعنا للغناء فيالأماكن التي شهدت عواطفنا القوية علىالنحو التالي:
شيء شبيه بصـوت مـتذبـذ بمتواصل . وأقرب شبه له هو الضوضاءالصادرة من ضغط صدفة بحرية على الأذن، أو ربما همهمة مولد كهربائ يبعيد .. إن ذلك قد يبدو وكأنه طنين أذن بالنسبة لأي شخص آخر.. ولكن بالنسبةللشخص المجرب لايبدو أنه يسمعه من خلالالأذن، ولا يمكن تحديد موقعه بالضبط، بل أنه بالأحرى، شبيه بالضوء، ينتشرفي كل المحيط، على الرغم من أنه يُستلم على نحو أوضح في قوس عريض فوق وخلف الراس.
تقول روزاليند في مكان آخر:
إنها "أي الاصوات" أكثر وضوحاً في أماكن معينة من الأخـرى، ويصح ذلك كثيراً على غاية هادئة، على سبيل المثال،أو على شاطيء أو جبل أوأماكن بريةنظيفة لم يلوثهـا الانسان، كمـا أنها واضحة أيضاً فيمكتبة كنيسة أوكلية: أماكن يكون فيهاالتفكير والتكريس شديدين على مدىسنين عديدة، كما أنها يمكن ان تُسمعايضاً في غرفة اعتيادية عندما يكون التفكير فيها مركزاً جداً.
النشوة الروحية
النظرية الثانية التي يسوقها كولن ولسن حول مصدر تلك الأصوات ويستعرضهاباعتبارهـا نـوعـا من العلاج، لتحقيقالاسترخاء والثمل الروحي، هي نظريةالحساسية الروحية المفرطة، والتي يمكنتلخيصها على النحو التالي:
عندما استرخي بعمق يبدو الأمـركأن احدهم قد رفع الحاجز الفاصل بيننصفي عقلي، محولاًأيـاهما الى غرفةواسعة مفردة،فأشعـر بإحساس منالحرية الذهنية، كمالوأني استطيع فجأةأن أتنفس أعمق، كما يتملكني إحسـاسبالاتصال مع الأشياء .. وضرب لنا مثلاً حول ذلك بكل امرىء لا يشعر أنه خُدش أو جُرح، عندما يكون بحالة استعجال أو إنفعال أو إثارة، ولكن إذا ما تبخرت الإثارة سيبدأ الألمبفرض نفسه، لأن الاستعجـال والقلقيرفعان عتبة حساسيتنا، وفي الوقت ذاتهيقيمـان جـداراً زجـاجـيـاً بيننـا وبينالواقع. أما في حالة العقل الأحادي فإنهذا الجدار يختفي ويظهر كل شيء أكثر واقعية.
هذه النظرية تدعمها كل حالات التجلي وأنواع الرياضة الروحية التي تكرسهاالديانات الشرقية، ويذكرنا ولسن بحادثة وقعتفي طفـولة القديس الهندوسي المعاصرراماکرشنا، ففي أحد الايام، عندما كان صبياً، كان راما کرشنا يجتاز حقلا للرزحاملاً وعاء كبيراً من الرز . وعندما حلقسرب من الغرانيق البيض عبر سحـابةعاصفة سوداء، كان إحساس الرجـل بالجمال عظيماً وباهرا إلى درجة أنه فقدالوعي وتناثر الرز فـوق الأرض.
بعدذلك وخلال حياته أصبـح راما کرشناعـرضـة لـنـوبـات من الثمـل الإلهي "سـامادي" حيث تغشـوه نـوبـات منالنشوة فيفقد وعيه تماماً.. ولقد أصبح راما کرشنا بعد تجربتهالأولى في السامادي أو النشـوة الالهيةقادرا على الاستغراق في تلك الحـالـة برغبته. فبمجرد سماعه لاسم کرشنا أو كالي ينغمس في غيبوبة إلهية، ويمكننا أننمر بحالة مشابهة لذلك إذا ما استجبناعلى نحو عميق لقطعة موسيقية معينة،إذ أن المقاطع الأولى من "تريستان" أوالمقطوعات الافتتاحية من سمـفـونيـةبركنر،يمكن أن تؤدي إلى إحساس بالوخزفي الجمجمة متبوع بفيضان مفاجىء من المتعة. وإذا ما تعلم العقل هذه اللعبة،أي الطريق الى النشوة،فـإنـه يمكنإعادتها برغبته، وذلك يتطلب قدراً معيناً من الإرادة، أي تركيزاً معتمداً على مصدرالمتعة، فإذا أصغيتَإلى الموسيقى بينماكنت تقرأ جريدة أوتفكر في شيء أخر، فإنذلك لن يجدي نفعاً، أو يكون أقل قدرة علىالتأثير، ولكن عندما يتعاون المخ والمحفز سويةيحدث عندئذ استرخاء فوري متبـوع باتصال مع مصدرالمتعة الداخلي.
إن هذا يفسر لنا جميع حالات النشوةالروحية أو الاغماء المفاجىء التي تحدثفي حفلات الزار والدروشة وطقـوس مايسمى بإخراج العفاريت من الأجسادالتي تتلبسها، وفي حـالة الغيبـوبـة التي مر بهـاالقديس الهندوسي بسبب انتشـائهبالجمال الباهر. وعن كل ذلك يقول كولن ولسن:
إن التعليق الواضح الذي يمكن انيقال بحق هذه الحادثة هو أنها ستبدوغير مناسبة تماماً لو أنهـا وقعت وسط ساحة "البيكادلي" .
وها نحن نعود مرة أخرى إلى نظرية "جوليان جينز" حـولالدماغ الثنائي. اذ يعتقد جينـز بأن الإنسان لم يعد ثنائي الدمـاغ. أي لميعد قادراً عـلى سماع صـوت الآلهة عندما أصبحت الحياة خطيرة ومعقدة،ولكنه مع ذلك يؤمن بامكانية حدوث ذلك في حالات خاصة : "إن الانسان لايزال قادراً، عـلى هذا الإدراك الأوسع،ولكن في لحظات معينة من الإسترخاء العميق فقط.. وعندما يحدث ذلك يبدوأن النصفين الأيمن والأيسر من الدماغ يتحدان معا، ونشعر بإحساس من السلاموالهدوء والشعور بالرضـا.
ولكن على الإنسان العصري أن يبدأ من الإدراك اليساري للدماغ، أي من وعينا الأضيق حالياً، لأن أجدادنا الأبعدين ربما كانوا قادرين على الاندفاع مباشرة إلىنـوع مـن الإدراك الكـونـي بمـجـرد الاسترخاء. أما في وقتنا الحاضر فقدأصبـح للانسـان عتبة جمـالية عـالية، و"العتبـة" مصطلح نفسي يعني مقـدارالمحفزات التي نحتاجها لرفع شخص ماإلى درجـة الإدراك، فـرجـل ذو عتبـة ضوضاء عالية يمكن أن يهمل صخباً قد يؤدي بشخص آخر إلى الجنون، وآخر ذو عتبة ألم عالية يمكن أن يحشو سنهدون استعمـال مخدر مـوضعي. ولقد أدت، في مثالنا السابق، عتبة الراهب الهندوسي الواطئة للجمال إلى أن يسببله "أي نوع من الجمـال" الاستغراق في غيبوبة النشوة بينما يعد أمراً مثل هذابالنسبة لسكان مدينة عصرية مزية غير محببـة مثـل الإصـابـة بـالاسهـال المزمن".