الرحبي يتتبع 'فلسطين في الأدبيات العمانية'
في كتابه "خديجة لا تغلقي الباب.. فلسطين في الأدبيات العُمانية"، يرصد الكاتب محمود الرحبي الحضور الكبير لفلسطين في الكتابات العمانية، ويحكي الكثير من تفاصيل تلك العلاقة التي ربطت بين أهل سلطنة عمان وفلسطين وشعها الأبي.
ويحكي الرحبي عبر صفحات كتابه الصادر عن دار لبان للنشر، ما أخبره به أحد الطاعنين في السن، كيف كان أهل عُمان في أيام النكبة يمتنعون عن الاحتفال بالموسيقى الشعبية العمانية (الرزحة وأخواتها في أيام الأعياد والأعراس)، وذلك تضامنا مع الحزن الفلسطيني.
ونتعرف من الكتاب كيف أن هذا التضامن والشعور امتد وتنوع وأخذ أشكالاً عديدة في الأدبيات العربية بوجه عام والعُمانية بوجه خاص.
ويورد الكتاب نماذج من الكتابات التي تعكس التضامن العُماني مع القضية العادلة لشعب فلسطين الشقيق.
ويُبرز لنا كيف أن فلسطين تسللت إلى الضميرين الجمعي والفردي، وتشابكت وانصهرت، ثم انبثقت في ولادات نصية ومقالية متعددة مصبوغة بألوان الحنين وصلابة الموقف وتمجيد البسالة في مختلف الأدبيات والمحكيات العمانية.
ومن المحكيات التي يُسجل لنا محمود الرحبي تفاصيلها في كتابه "خديجة لا تغلقي الباب.. فلسطين في الأدبيات العُمانية"، أن امرأة عُمانية جاءت من زنجبار قاصدة الحج إلى المسجد الأقصى في الثلاثينيات، وفي طريق رجوعها كست قبر النبي سليمان عليه السلام بكسوة خضراء.
ويُحدثنا كذلك عن عُمانيين شاركوا في مختلف الحروب التي خاضها العرب ضد إسرائيل، ولفت إلى أنه يوجد في عُمان مسجدان بقبلتين واحدة باتجاه مكة والأخرى باتجاه القدس.
وينوّه إلى وجود الكثير من الكتابات والكتب التي تدور في فلك فلسطين ونصره أهل عمان لقضيتها، وكذلك الكتب التي ذكر من بينها كتاب "الطريق إلى القدس" لمؤلفه زاهر بن حارث المحروقي.
وقد جمع لنا "الرحبي في كتابه، الكثير من المواد التي تُعبر عن شعور أهل عمان ونصرتهم للقضية الفلسطينية، وبيّن كيف أن هذا الشعور امتد أيضاً إلى الفنون التشكيلية، وغير ذلك من أوجه الابداع العُماني.
وتتفاوت محتويات الكتاب الذي جاء في 200 صفحة، ففي الكتاب نصوص شعرية وأدبية، ونصوص أخرى تنتمي لأدب الرحلات، بجانب مواد صحفية، وبحسب مُحرر الكتاب فإن ما يجمع كل ذلك هو هذا الشعور الموحد بالقضية الفلسطينية، تلك القضية الضميرية التي لا يخلو أي بلد عربي من تفاعلاتها نصا وموضوعًا.
وقد تضمن الكتاب نصوصا وكتابات لـ: ليلي عبدالله، وعاصم الشيدي، وسليمان المعمري، وحمود بن سالم السيابي، و"خمس قلم"، وعبدالله حبيب، وصالح العامري، وسالم الرحبي، وعبدالله الطائي (المتوفي عام 1973)، وبدر الشيباني، وخلفان الزيدي، وسيف الرحبي، وعبدالعزيز الفارسي، وسليمان المعمري، وحمود حمد الشكيلي، وأحمد الفلاحي الذي جاءت مشاركته في الكتاب بعنوان: "فلسطين في الشعر العُماني"، والدكتور محسن الكندي الذي حملت مشاركته على صفحات الكتاب عنوان: "فلسطين في الصحافة العُمانية والشعر.. حضور تاريخي وتضامن مُبكر".
فلسطين في الشعر العُماني
وفي مشاركته على صفحات كتاب "خديجة لا تغلقي الباب.. فلسطين في الأدبيات العُمانية"، والذي أعده لنا ببراعة واختار مواده بعناية الكاتب محمود الرحبي، يؤكد لنا أحمد الفلاحي، أن قضية فلسطين ومأساتها الكبرى لم تغب عن وجدان الشاعر العماني منذ البدايات الأولى للمؤامرات والدسائس التي استهدفت شعب فلسطين وأرضه، وما كان لشاعر عُمان أن يغيب أو أن يسكت على ظلم يقع في أي مكان من العالم، فكيف إذا كان هذا الظلم في أرض فلسطين، مهد الرسالات السماوية وموطن المقدسات العزيزة وعلى رأسها المسجد الأقصى المبارك، وهي قبل وبعد ذلك موطن أشقائه عرب فلسطين الذين ينتمون له وينتمي لهم في الدم والنسب.
وبحسب "الفلاحي" فإن الشاعر العُماني لسان قومه وأهله المشهود لهم بمناصرة الحق والعدل والوقوف مع الشقيق والصديق في محنته ومعاناته، ولم تكن معاناة أهل فلسطين تشبه أي معاناة تعرض لها أناس من البشر في هذه الدنيا كلها، فقد فاقت بشاعتها كل ما عرفته البشرية في تاريخها من أنواع الظلم والعدوان.
أهل عُمان لم تكفهم مناصرتهم بقول الشعر فقط، وإنما كانوا هناك حاضرين في المكان بأبدانهم وأرواحهم، حيث شارك مجموعة من المتطوعين العمانيين في حرب فلسطين عام ثمانية وأربعين، ومنهم من استشهد في مواجهة الغزاة المغتصبين ودفن في تلك الرحاب الطاهرة، ومنهم من عاد بعد أداء مهمته.
وكما يقول أحمد الفلاحي، فإن الشعر فلم يتأخر صوته، وكان مشاركا في صيحة الشعر العربي التي انطلقت غضبتها مجلجلة في كل مكان من الساحة العربية من غربها إلى شرقها، ومن جنوبها إلى شمالها.
ويشير ألفلاحي" إلى أن الشاعر عبد الله الطائي تنبأ مبكراً بانطلاقة العمل الفدائي، وذلك في قصيدة كتبها عام 1954م بعد ست سنوات من نكبة فلسطين والتي تخيل فيها البطل وليد يجمع شباب المخيم من أجل الثورة على العدو، تؤيده في ذلك حبيبته فوز التي اشترطت أن يكون مهرها هو أخذ الثأر، ورأت ضرورة تأجيل زواجهما حتى تقوم الثورة حيث قال "الطائي":
هذا وليد يبيع العمر محتسبا
لـ "القدس" من حلها شذاذ آفاق
وتمضي القصيدة في مشهد درامي يستشرف المستقبل المأمول، والقصيدة أشبه بالمسرحية، حتى من حيث تنوع قوافيها وأوزانها، ولم يكن موضوع العمل الفدائي المنظم الذي انطلق فيما بعد قد ظهر في الساحة حتى ذلك الوقت.
وأوضح "الفلاحي" كيف لامس الشعر العُماني القضية الفلسطينية قبل هذا الوقت بزمن بعيد منذ عشرينيات القرن العشرين، وقبل الحرب العالمية الثانية غداة بروز ما سمي وقتها بالمسألة اليهودية وانطلاق الهجرات الصهيونية المكثفة من أوروبا إلى فلسطين، وكان ذلك قبل نشوء إسرائيل بنحو عقدين من السنين حين أطلق الشاعر صالح بن علي الخلاسي صيحاته منددا بهذه المؤامرة الخطيرة ومحذرا من عواقبها:
فلسطين أحاط بها الأعادي
بجهر أو بكيد الخافيات
يمزق شملها ظلما وقهرا
بعدوان الجيوش الظالمات
وقد عبّر الشاعر العماني عن عزيمة أبناء فلسطين وشدة إرادتهم وقوة استمساكهم بأرضهم وصمودهم في وطنهم، وإصرارهم على الثبات والصبر، مهما تعاظمت الخطوب وزاد البلاء واحتد بطش العدو وغلظته، فهم بقوة الإرادة والتحدي لن يتراجعوا ولن يتركوا حقهم، وسيظلون في اتحاد وتلاحم يواجهون عدوهم الغاصب ويحبطون تدابيره ومخططاته.
وشرح لنا أحمد الفلاحي كيف أن الشاعر العُماني اندمج في قضية فلسطين وحمل أشجانها، وتنفست مشاعره بآلامها ومنغصاتها، واستمرت مناصرته لها والدفاع عنها ومتابعة أطوارها على توالي أجياله المتعاقبة وتعدد اتجاهاتها ومذاهبها، وكيف كان يفيض دوما بتصوير الواقع المؤلم والتحريض على مواجهة العدو، والدعوة إلى دعم صمود الشعب الفلسطيني ومساندته بكل الصور الممكنة، وأنه يكاد يوجد شاعر عُماني منذ أوائل القرن العشرين الميلادي الماضي حين بداية المؤامرة على فلسطين خلت أشعاره من ذكر فلسطين ومتاعبها.
وشدّد على أن شعراء عُمان قدموا أحاسيسهم وفيضان روحهم والتهاب وجدانهم تجاه ما أصاب فلسطين وإنسانها ومقدساتها من الظلم الفادح والشقاء المحزن والإرهاب القاتل المستفز الذي تجاوز الحد وفاق التصور.
فلسطين في الصحافة العُمانية
ونختتم تلك القراءة في كتاب "خديجة لا تغلقي الباب.. فلسطين في الأدبيات العُمانية"، بتلك الوقفة مع ما قاله الدكتور محسن الكندي عبر صفحات مشاركته التي جاءت – كما أسلفنا - بعنوان: "فلسطين في الصحافة العُمانية والشعر.. حضور تاريخي وتضامن مُبكر"، وجاءت بمثابة قراءة في مدونات وأعداد مختلفة من صحيفة "الفلق" بين عامي (1938 – 1946)، حيث أشار "الكندي" إلى أن أهل عُمان كحال الأشقاء العرب في دعم ومناصرة القضية الفلسطينية بكل صور الدعم والمناصرة، وعبر مقالاتهم وأشعارهم بالصحف.
وأن أهل عُمان كان لهم الأسوة الحسنة في ميراث أجدادهم، وما وجدوه في الصحافة العمانية المهاجرة الصادرة في زنجبار في مرحلة الثلاثينيات والأربعينيات، وما قبلهما من مقالات ونداءات وكتابات تندد بهذا العدو المغتصب لأرض فلسطين وتفضح أفعاله في تأكيد على الجذور التاريخية للموقف المشرف للنخب المثقفة، ليس في عُمان وحدها، وإنما في زنجبار وأقطار الشرق الإفريقي قاطبة، وأن العُمانيين فهموا مبكراً توجهات العدو الذي لا يمكن التعامل معه إلا بلغة القوة؛ لهذا جاءت أقلامهم صارخة هادرة تنوء من صرخاتها الجبال.
واعتبر "الكندي" أن توالي مقالات قضية فلسطين في الصحافة العمانية عامة، وفي صحيفة "الفلق" خاصة، لم يكن إلا من منطلق كونها قضية العرب الكبرى، وتابع بأن الصحيفة وضعت خطابها رهين هدف سام نبيل وغاية كبرى لم تحد عنه، وهو نصرة الحق والذود عنه والقيام بما يمليه عليها الواجب، فهي كما وصفها الشيخ أحمد الخليلي في مقدمته الإحتفائية لمجلدي مجلة "المنهاج" لسان حال الأمة العمانية والعربية وصوتها الحر في الشرق الإفريقي، فالصحيفة "حملت على كاهلها مسؤولية الدفاع عن حق الأمة في سياستها واستقلالها واسترداد حقوقها، وشاركت الشعوب التي ترزح تحت نير الاستعمار آلمها وآمالها، فكانت صوت الحرية الهادر.
وأنه من هذه المنطلقات لم يخب صوت صحيفة "الفلق"، ولم يخفت ضجيجها البتة، بل ظلت نيرانها متوقدة تصيب أعداء الحرية والدين والإنسانية، وترفع لواء الاستقلالية والنضال، وتقدم الخطاب النهضوي وفق رؤية ثقافية عميقة، ومقاربات دقيقة تقع أغلبها في صلب القضايا الوطنية والقومية، ومنها القضية الفلسطينية التي اعتمدتها هدفًا رئيسا في ذلك الزمن المفصلي من تاريخ الأمة العربية.
كما تحدث الدكتور محسن الكندي في مشاركته على صفحات كتاب "خديجة لا تغلقي الباب.. فلسطين في الأدبيات العُمانية"، عن الشعر العُماني الإستنهاضي الذي تناول قضية فلسطين على مدار عقود طوال أصدر خلالها الصرخة تلو الأخرى من نفوس مكلومة لعل أصدقها بحسب قوله وجد عند شعراء عُمان الأم: هلال بن بدر، وعبد الله الخليلي وأبو سرور، وهلال السيابي، وعبد الله الطائي، وخالد بن مهنا البطاشي، وسعيد بن خلف الخروصي، والذين هزتهم مأساة فلسطين، فاستصرخوا أبناء قومهم مُبكراً، وهي الصرخات التي كانت نواة لصرخة عُمانية حملها جيل الشباب من بعدهم.