الأوطان تستعاد سردا في كتاب 'الوطن في الرواية العربية'
تفاعلت الرواية العربية الحديثة مع واقع الأوطان وأوجاعها، فولّدت من توترات الوطن وصراعاته وانتكاساته وأحلامه أسئلتها، وجعلتها بؤرة السرد ومداره وشكلت منه عالمها. وقد أفرزت المناخات التي تعيشها البلاد العربية تنوعا في الروايات التي تستعيد الوطن سردا وتمارس لعبة التخييل في تصوير همومه وأحلامه، منها ما يوسم برواية الوطن أو رواية المحنة أو رواية المنفى.. ويوفر لنا كتاب "الوطن في الرواية العربية" الصادر عن رابطة الكتّاب الأحرار ببنزرت بالجمهورية التونسية (دار خريّف للنشر 2025) مجموعة من الدراسات التي تناولت عيّنات من الرواية العربية الحديثة، ساعية لاستجلاء صور الوطن في المخيّلة السردية وطرائق تمثله في هذه النماذج. هذا الكتاب هو خلاصة أشغال الملتقى الدولي للرواية العربية الذي نظمته رابطة الكتّاب الأحرار ببنزرت سنة 2023. وقد شارك فيه عدد هام من الأكاديميين والروائيين التونسيين والعرب. وقد تناولت البحوث والشهادات في هذا الكتاب عددا من الإشكاليات لعل أهمها: مفهوم الوطن وتمثيلاته في التخييل السردي، تفاعل الذات مع الوطن وصور هذا التفاعل، جدلية الوطن /المنفى، تسريد الوطن وآفاق التلقي. وحضرت في هذا الكتاب الجماعي الرواية التونسية والفلسطينية والعراقية والجزائرية والليبية واللبنانية.
وقد لاحظ د. محمد القاضي في قراءته لعدد من الروايات التونسية الصادرة بعد 2011 مركزية الوطن فيها. ورأى أن المفارقة تكمن في أن الروائيين الذين تناول كتاباتهم لم يرسموا صورة لوطن منشود، بل كانت صورة الوطن لديهم مقترنة بالخيبات والمعاناة (محمد بوكوم، محمد الصالح البوعمراني، عباس سليمان، أمين الغزي، حسونة المصباحي، خديجة التومي) فرسمت رواياتهم ملامح وطن تملؤه الفوضى وتتعايش فيه المتناقضات، وكانت نموذجا للوطن "الكابوس"، ولاحظ فيها هيمنة نزعة تسجيلية تستنسخ الواقع ولا تتجاوزه. ومع ذلك فقد رأى محمد القاضي أنها تتوافق مع "وظيفة الأدب الحق وهي المقاومة والاستشراف" .
أما الباحث شفيع بالزين فقد عالج مظاهر "تثريب الوطن" في نماذج أخرى من الرواية التونسية، هي "الكونبطا" لعبدالجليل الدايخي و"وطن في قاعة الانتظار" لطارق الشيباني و"طين الله" للطيب الجوادي. وبما أن التثريب يتضمن معاني التقبيح واللوم والتعيير بالذنب فقد رصد الباحث الصور القاتمة السلبية للوطن، في عتبات الروايات وفي الأماكن والشخصيات واللغة السردية والتمثيل الاستعاري، منتهيا إلى تصدّع صورة الوطن في هذه الروايات، مفسرا بعض مواقف الشخصيات في علاقتها السلبية بالوطن بنزوع الروائيين إلى نمذجة الشخصية وأسطرتها وبتحويلها من ذات إلى رمز ومن مقاوم إلى بطل .. وانتهى إلى تحليل الدلالات الرمزية والمرجعية الإيديولوجية لصورة الوطن المتصدعة.
ولم يبتعد الباحث هشام بالضيافي كثيرا عن هذه الرؤية، وإن اختار في قراءته نموذجا من سرديات المهجر (رواية "الآخرون" لحسونة المصباحي). فقد رأى أن صورة "الوطن الجحيم" قد ألقت بظلالها على النص الروائي المهجري "فحوّلته إلى مرثية لـتأبين الوطن". وكأن المهاجر يثأر بالسرد من جحيم الوطن ويعرّي مواطن العطب والفساد فيه. ويفسر الباحث أهم أسباب هذه الصورة وهي غياب الحريات ومنها خاصة حرية التعبير. لذا يغدو الوطن في هذه الرواية "سجنا كبيرا أي فضاء يختزل المتعدد.. ويخضعه إلى ثقافة أحادية يسودها الحزب الواحد والفكر والواحد والزعيم الأوحد".
أما الباحث لطفي زكري فقد رأى، في دراسته لرواية مسعودة بوبكر "ريح الصبّار"، أنها وإن عمدت إلى تمثيل الوطن تمثيلا استعاريا قائما على الرمز، وأكسبت بذلك نصها تعددا دلاليا كبيرا، فإنها قد رسمت أوجاع وطن بعد ثورة لم تستكمل، من خلال سرد أوجاع أمّ أنجبت طفلا مشوّها أو مسخا (الرأس منفصل عن الجسم). وقدمت الوطن رمزيا من خلال الأم (أمّ العجبين) التي حضنت ابنيها ورعتهما في صورة تمجيديّة للوطن" باعتباره حاضنا لأبنائه في أوقات الشدّة والرخاء". ليخلص الباحث إلى بعض مقاصد الرواية الإيديولوجية، وهي ضرورة العيش المشترك والتوحد في مواجهة الوجع، وضرورة حمل وزر الآخر وهمّ الوطن.
واهتم رضا الأبيض بوجه آخر من وجوه تمثيل الوطن تخييلا، وهو التمثيل السردي القائم على استشراف الآتي، مشيرا خاصة إلى الاستشراف السياسي في نماذج من الرواية المصرية والجزائرية، وإلى العوالم الديوستوبية التي بدأت تشيع في الروايات العربية وقد أضحت "الوجه الآخر للعوالم أو المدن والأوطان الفاضلة المفقودة أو المستحيلة" باعتبارها بلاغة جديدة للمقموعين.
في حين رأى رياض خليف أن كتابة الذاكرة الجماعية شكل من أشكال الانغراس في الهمّ الوطني باعتبارها ذاكرة سياسية، إضافة إلى بعدها الاجتماعي والثقافي. وتغدو بذلك الرواية "جزءا من النظرية الثقافية المقاومة"، فكتابة الذاكرة الجماعية تنهل من الأمس لتكتب هواجس الوطن وأسئلته، وهي لذلك شكل من أشكال محاربة النسيان والاحتجاج على الاستعمار وعلى المركز.
وحظيت الرواية الفلسطينية باهتمام الأكاديمي إبراهيم أزوغ معتبرا أن "الروائي الفلسطيني لا يمكنه إلا أن يجعل من تخييل الواقع والوطن صيغة لإبداعه، ومن وقائع الوطن وأحداثه سماد الحكاية ومادتها"، وأن الرواية الفلسطينية، وهي تسعى لمقاومة السردية الإسرائيلية، هي رواية الوطن أساسا. ففي رواية يحيى يخلف "الريحانة والديك المغربي" يقترن مفهوم الوطن بالسعادة وبالبيت "أن يكون لي وطن حرّ، وأن يكون لي فيه بيت، فالبيت هو الوطن أيضا". في حين يغدو الوطن في رواية إبراهيم نصر الله "تحت شمس الضحى" مرادفا للحرية، إذ لا وطن بدونها. لذا تبدو "المقاومة والأمل هما السلاح والصيغة المثلى لإعادته إلى أصحابه وتحقيق ما فشلت الاتفاقيات في تحقيقه". ويتعدى الوطن في روايات فلسطينية أخرى الشعور بالمكان ليكون "ذلك المشترك من الذاكرة والتاريخ والانتماء بالدم".
أما الجامعي أحمد الناوي بدري فقد أشار في قراءته لنماذج أخرى من الرواية الفلسطينية (رواية شجرة الصبير لامتثال جودي) والسورية، إلى أن الوطن وإن كانت صورته تلتحم بذلك المغتصب بقوة الحديد والنار، فإنه يمثل "قضية وجود" ويعادل المقدس. وقد يبدو أحيانا في صورة الحلم المستحيل حين يحجر الوصول إليه ويعاقب بالموت من يقترب منه.
وخصّص الروائي والأكاديمي الجزائري عز الدين جلاوجي بحثه لرواية الكاتبة اللبنانية هدى عيد "حبيبتي مريم" معتبرا أنها تعرّي "الواقع العربي البئيس الذي اختنق بأحابيل الأنظمة الفاسدة وبجنون الطائفية والحزبية الضيقة، فانبرى يخوض حروبا طاحنة أحرقت كل آمال الناس". وأن الوطن في رواية "حبيبتي مريم" ليس سوى "سجن كبير يتفنن في طحن أبنائه، والزج بهم في أتون الانهيار والانتحار أو جحيم الفرار إلى أوطان الآخر الذي يجسن ابتزازهم".
ورأى أن هذه الرواية تنخرط في توجه رواية الموقف والمقاومة ضمن مشروع أدب المواجهة.
أما الرواية العراقية فقد حضرت في الكتاب من خلال دراسة سعدية بن سالم لروايتي محمد حيّاوي وهما "خان الشابندر" و"بيت السودان". ورأت الباحثة أن الوطن، رغم أنه أرض لها حدود معلومة وهوية عامة، وعمق إنساني يحيل على حضارة عميقة وحاضر مربك، ورغم أنه شعور بالانتماء إلى ثقافة مشتركة، إلا أنه تحوّل في الروايتين إلى وهم وطن، أو أشلاء وطن "وطن للأشباح وملاذ للخراب". إذ لم يكن رحيما بأبنائه " فقد أثخنهم جراحا وشرّد شملهم وأوغر قلوبهم، وجعل الحروب تتناوبهم حتى أدركهم الغزو..".
واهتمت الروائية عائشة الأصفر بالرواية الليبية عبر نماذج عديدة منها لصالح السنوسي وعائشة إبراهيم وابراهيم عثمونة، وغالية الذرعاني ونجوى بن شتوان.. وانتهت إلى أن العديد منها يرسم ملامح الوطن "المحنة"، ملخصة المحنة في ثلاثة أوجه هي الفرار من الوطن حيث القمع وتدني الخدمات، والبحث عن الوطن الحلم باللجوء إلى أروبا، والنظرة الدونية الاستعمارية للعرب والمهاجرين.
وجاءت شهادات الروائيين (مسعودة بوبكر- نبيهة العيسي- محمد عيسى المؤدب- شادية القاسمي) رغم تنوعها، منخرطة في استعادة الوطن سردا وإن طغى على بعض الشهادات البعد الوجداني. فخلص بعضها إلى قدرة الأماكن والمدن على تشكيل الوطن البديل حين يغدو المنفى هو الوطن (حذاء إسباني لمحمد عيسى المؤدب). وكشفت أن المنفى قد يغدو لدى البعض أرض الخلاص بعد "سقوط معنى الوطن من وجوه فرّت منه "، خاصة عند المهاجرين الأفارقة العابرين إلى أوروبا، حيث يبدو التصالح مع الأوطان لدى البعض موقفا شاذا أو نادرا وهو ما تدينه مسعودة بوبكر وإن حاولت تعليله.
لقد قدمت هذه القراءات وهذه الشهادات التي ضمّها كتاب "الوطن في الرواية العربية" صورا مختلفة بل متناقضة للوطن، وعكست ثراء وتنوعا في طرائق تسريده. واهتمت جل الدراسات بلعبة التخييل والتمثيل السردي للوطن في الرواية، وقد تراوحت بين التمثيل التسجيلي الواقعي أو التاريخي، وبين التمثيل الأسطوري، والتمثيل الاستعاري الرمزي. ورغم الملامح القاتمة والسلبية التي طغت على صور الوطن في عديد الروايات، ورغم النزعة السوداوية في بعضها، فإنها قد عكست غالبا هواجس الروائي، ونقلت صرخة المثقف في وجه الحيف والفساد في الوطن، وكانت تعرية لمواطن العطب في الأوطان، واحتجاجا على أشكال القمع والاستبداد. وربما كانت كما أشار إلى ذلك محمد القاضي "موافقة لوظيفة الأدب الحق وهي المقاومة والاستشراف".