الصين تتحرك بخطى متسارعة لاستثمار التراجع الأميركي في كردستان

تقرير لمعهد واشنطن يؤكد أن بكين تطور مجموعة من أدوات القوة الناعمة لا تختلف كثيراً عن ما حققته الولايات المتحدة في الماضي.
نفوذ بكين يتنامى بثبات مع تركيزها على التعليم والثقافة وتدريب موظفي الحكومة

أربيل - أفاد "معهد واشنطن" الأميركي، أن نفوذ الصين يتزايد في إقليم كردستان بالاعتماد على سلسلة القوة الناعمة في مجال الثقافة والتعليم والاقتصاد، مستغلة فرصة تراجع اهتمام ادارة الرئيس الاميركي دونالد ترامب بالإقليم على الرغم من الاعتقاد السائد بأن الولايات المتحدة ستحظى دوماً بالأولوية في التعاون السياسي والأمني والاقتصادي مع الكرد.

ويشعر دبلوماسيو الصين في كردستان بأن هناك فرصة متاحة لهم لملء الفراغ الذي خلفته الولايات المتحدة، وإبراز المشاريع الصغيرة كوسيلة لرفع مكانتهم، وفي ظل إظهار بكين استعدادها للاستثمار والانخراط، فإن أربيل سيكون بإمكانها الاستفادة قدر المستطاع مما يعرض عليها، على الرغم من أن التقرير قال إن واشنطن سبق لها أن استخدمت نفوذها من أجل تعطيل العروض الصينية، بما في ذلك إقناع حكومة الإقليم بتأجيل خطط مشروع "مدينة السعادة" البالغ قيمته 5 مليارات دولار.

وعرضت حكومة الإقليم العام الماضي على القنصليات الأجنبية في أربيل أراضٍ لبناء حدائق تعبر عن دولهم وثقافاتهم، وأشار التقرير الأميركي أن الصين هي الوحيدة التي قبلت هذا العرض، فيما من المتوقع افتتاح الحديقة التي تقام على "الطراز الصيني" في الربيع المقبل في منطقة راقية بالمدينة، وبما يعبر عن ثقافة الصين وتطورها.

السياسة الخارجية للصين تستخدم الحزب الشيوعي كوسيلة لتعزيز العلاقات بين الأحزاب، التي تعكس القوة الحقيقية في كردستان

وجاءت أخبار افتتاح الحديقة الجديدة في أربيل بعد أسبوعين من قرار الإدارة الجديدة لدونالد ترامب بتقليص تمويل المساعدات الأجنبية الأميركية والمؤسسات الحكومية التي توزعها، وهو ما يظهر التباين في الأساليب المستخدمة في القوة الناعمة بين الصين والإدارة الأميركية الجديدة لترامب، حتى في الميادين التي كانت تعتبر تقليدياً من معاقل النفوذ الأميركي الناعم.

وقدم السفير الأميركي في العراق تقديرات العام الماضي، بأن واشنطن انفقت "حوالي 3.6 مليارات دولار من المساعدات المنقذة للحياة، خلال العقد الماضي"، مشيراً إلى أن الولايات المتحدة وفرت الدعم لقوات البيشمركة بشكل كبير، حيث تنفق ملايين الدولارات شهرياً على الرواتب والتدريب والمعدات.

وأضاف، أنه من المرجح أن تتعرض هذه الأموال والبرامج لتقليص حاد أو أن تتوقف تماماً خلال فترة إدارة ترامب بسبب القرارات الأخيرة التي اتخذتها لإلغاء الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (يو.أس.أيد) وتخفيض التمويل لمنظمات الأمم المتحدة، بالإضافة إلى إنهاء التواجد العسكري الأميركي في العام 2026.

واعتبر التقرير أنه صار من الواضح احتمال حدوث تغيير في حسابات الإقليم الذي كان محل اهتمام الولايات المتحدة والغرب طوال أكثر من 3 عقود، مشيراً إلى أن المؤسسات الكردية المستقلة تطورت بدعم غربي في أوائل التسعينيات، مما خلق تأييداً شعبياً للوجود العسكري والاقتصادي والثقافي الغربي، مضيفاً أن هناك جمع طويل بين القوة الصلبة والناعمة الأميركية، وأن القيادة الكردية لن تتخلى بسهولة عن أهم علاقة جيوسياسية لديها.

لكن التقرير نبه إلى أن الرسائل الأميركية والإشارة الواضحة التي يوجهها قطع هذا التمويل، لا تبني على هذا التاريخ، موضحاً أن صفحة القنصلية الأميركية في أربيل على مواقع التواصل الاجتماعي، كانت تظهر زيارة الدبلوماسيين لمخيمات اللاجئين، ودعم النشطاء الذين يكافحون من أجل الحصول على مياه نظيفة، والتواصل مع جيل جديد من رواد الأعمال في مجال التكنولوجيا، إلا أنه منذ تولي إدارة ترامب السلطة، فإن هذه الحسابات تظهر الدبلوماسيين وهم يمضون أيامهم وهم يقومون بزيارات إلى مطاعم الوجبات السريعة، وهو ما يكشف عن التباين الكبير في الدبلوماسية العامة ومحدودية نظر الإدارة الأميركية الجديدة فيما يتعلق بما يدعم مصالح الولايات المتحدة.

في المقابل يتنامى نفوذ بكين بثبات مع تركيزها على التعليم والثقافة وتدريب موظفي الحكومة، وبناء علاقات مع النخبة السياسية والمالية المحلية، فبكين تطور مجموعة من أدوات القوة الناعمة لا تختلف كثيراً عن ما حققته الولايات المتحدة في الماضي، إلا أنها تتقدم بخطى كبيرة عما بإمكان واشنطن تحقيقه في الخفض الكبير في إنفاقها.

ومع إقامة القنصلية الصينية في العام 2014، فإن أحد المبادرات الكبرى الأولى للصين تمثلت في افتتاح مركز تعليم اللغة الصينية في جامعة صلاح الدين في أربيل عام 2017، ووسع المركز عروضه للطلاب الشباب والبالغين الذين يأملون في الدراسة أو ممارسة الأعمال في الصين.

الدبلوماسية الأميركية ركزت على العمل مع الحكومة القائمة في الإقليم بدلاً من اللاعبين السياسيين الذين قد يصلون إلى السلطة مستقبلاً

وأظهر الدبلوماسيون الصينيون اهتماماً تاريخياً بالشاعر الكردي الكلاسيكي نالي، الذي يصور الصين على أنها بلاد جميلة وبعيدة ومثيرة للاهتمام، وينقل الثقافة الصينية إلى مسقط رأس الشاعر الشهير في السليمانية من خلال استضافة مهرجانات سينمائية وفعاليات أخرى.

وبالإضافة إلى ذلك، لفتت الصين إلى أنها اعتباراً من العام المقبل، ستبدأ في إصدار تأشيرات سياحية بالإضافة إلى تأشيرات العمل التي تقدمها حالياً.

ويحظى الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني بأكبر درجة من الاهتمام الصيني، ومع ذلك لا يتجاهل الحزب الشيوعي الصيني الأحزاب الصغيرة ولا الكوادر السياسية الصغيرة، وهو ما يتناقض مع سلوك الحزبين الأميركيين الديمقراطي والجمهوري والتي لا تعمل بهذه الطريقة المؤسسية على الساحة الدولية.

وأوضح التقرير، أن الدبلوماسيين الأميركيين يلتقون في بعض الأحيان مع أحزاب المعارضة، إلا أنهم يتصرفون بطريقة الدفاع إزاء أي فكرة بأن لديهم علاقات وثيقة معها، لأنهم يأخذون بعين الاعتبار تحسس مشاعر الأحزاب الحاكمة وكتعبير عن الاحترام لنتائج الانتخابات، مضيفاً أن الدبلوماسية الأميركية ركزت على العمل مع الحكومة القائمة في الإقليم بدلاً من اللاعبين السياسيين الذين قد يصلون إلى السلطة مستقبلاً.

وفي المقابل، السياسة الخارجية للصين لا تركز على العلاقات بين الحكومات فقط، وإنما تستخدم الحزب الشيوعي الصيني كوسيلة لتعزيز العلاقات بين الأحزاب، وهي ما اعتبرها التقرير بأنها تعكس القوة الحقيقية في إقليم كردستان.

وأصبحت القوة الاقتصادية للصين واضحة بشكل تام في كردستان الذي يستفيد بشكل كبير من الواردات، حيث تمتلئ الأسواق في الإقليم بالبضائع المصنوعة في الصين، وبعدما كانت هذه المنتجات تحمل سمعة بأنها رخيصة ورديئة الجودة، فأن هذا الانطباع تبدل مع دخول أنواع جديدة من السلع الصينية إلى الأسواق الكردية.

وتتغير صورة الصين تدريجياً، وصار ينظر إليها بشكل متزايد كوجهة للثروة والتعليم والتجارة. وحتى قبل مجيء إدارة ترامب، فإن نسبة كبيرة من الكرد كانت تنظر إلى المساعدات الخارجية وجهود التنمية الاقتصادية الصينية بشكل إيجابي مقارنة بالولايات المتحدة.

وذكر المعهد الأميركي باستطلاع أجراه "الباروميتر العربي" في يوليو/تموز 2024، حيث منحت غالبية سكان الإقليم (دهوك، أربيل، والسليمانية) بنسبة 57 بالمئة تقييماً للصين من حيث الديمقراطية، بفارق قليل عن الذين أعطوا نفس التقييم للولايات المتحدة 64 بالمئة.

واعتبر أن هناك توازنا في الرأي العام الكردي، إلا أن عدم اهتمام إدارة ترامب الواضح بالحفاظ على هذه القوة الناعمة، قد يمنح الصين الفرصة لتتفوق في نظر الجمهور، سواء بشكل عام أو في قضايا محددة، خصوصاً في ظل التغيرات الجذرية في السياسات الأميركية.

وهناك اعتقاد سائد في الإقليم بأن الولايات المتحدة ستحظى دوماً بالأولوية في التعاون السياسي والأمني والاقتصادي، غير أنه في حال تمكنت جهات أخرى مثل الصين من استخدام القوة الناعمة للتأثير في هذه المعادلة، فإن كلفة الحفاظ على الأصول الاستراتيجية الأميركية في الإقليم، كالقواعد العسكرية والبنى التحتية النفطية والفرص الاستثمارية، قد تصبح أعلى بكثير مستقبلاً، فمن الواضح أن الصين تسعى لملء الفراغ الذي خلفته إدارة ترامب، بشكل أو بآخر وربما سيتم ذلك في حديقة تلو الأخرى.