المنفي يصدر مراسيم رئاسية 'دون تشاور' وسط انتقادات داخلية حادة

محمد المنفي يصدر مرسومًا يقضي بوقف العمل بقانون إنشاء المحكمة الدستورية وتشكيل المفوضية الوطنية للاستفتاء والاستعلام الوطني، وتحديد آليات انتخاب المؤتمر العام للمصالحة الوطنية فيما اتهمه عقيلة صالح بالتغول.
المرسوم يعتبر رسالة سياسية موجهة إلى لجنة العشرين
بعض الإجراءات قد تُوظف لتقويض استقلال القضاء
الخلاف الجديد قد يعمق الأزمة المؤسسية ويؤخر أي تقدم نحو تسوية شاملة

طرابلس - أصدر المجلس الرئاسي الليبي، الثلاثاء، مرسومًا يقضي بوقف العمل بقانون إنشاء المحكمة الدستورية الذي أقره مجلس النواب، مما أثار موجة من الانتقادات السياسية والقانونية الحادة، وكشف عن عمق الخلافات المتجذرة بين السلطات التنفيذية والتشريعية في البلاد، ما سيعمق حالة الانقسام ويضع عراقيل جديدة أمام جهود توحيد المؤسسات والمرور نحو انتخابات نزيهة.

وشمل المرسوم، الذي جاء ضمن ثلاث مراسيم أعلنها المجلس، أيضًا تشكيل المفوضية الوطنية للاستفتاء والاستعلام الوطني، وتحديد آليات انتخاب المؤتمر العام للمصالحة الوطنية. ورغم أن الخطوة أُعلن عنها في سياق محاولة تجاوز الانسداد السياسي المستمر منذ سنوات، فإنها قوبلت برفض واسع، خصوصًا من قبل مجلس النواب، الذي اعتبر القرار "تعديًا على اختصاص السلطة التشريعية".
ورد الفعل الأبرز جاء من رئيس مجلس النواب، عقيلة صالح، الذي وصف المرسوم بأنه "منعدم" ولا يُرتب أي أثر قانوني، مؤكدًا أن "تنظيم القضاء وإنشاء المحاكم هو اختصاص أصيل للسلطة التشريعية" مضيفا أن الإعلان الدستوري والاتفاق السياسي لم يمنحا المجلس الرئاسي صلاحية إصدار أو إلغاء القوانين، محذرًا من أن هذه الممارسات تُسهم في تعطيل عمل المؤسسات الشرعية، وتؤجج الخلاف المؤسسي القائم.
وأعاد صالح التذكير بسياق تشريعي سابق، حيث تم تعديل صلاحيات المحكمة العليا بشأن الرقابة الدستورية في عدة مناسبات، موضحًا أن ذلك كان دومًا يتم من خلال السلطة التشريعية وليس التنفيذية.

من جانبها انتقدت الحكومة الليبية المكلّفة من مجلس النواب برئاسة أسامة حماد بشدة مراسيم المجلس الرئاسي الأخيرة، واعتبرتها "تعديًا على صلاحيات السلطة التشريعية"، خصوصًا ما يتعلق بإلغاء قانون المحكمة الدستورية.
وأوضحت الحكومة في بيان أن الرئاسي لا يملك صلاحية إصدار أو إلغاء القوانين أو تحديد طبيعة المحاكم، مؤكدة أن هذه الخطوة قد تُحدث انقسامًا داخل مؤسسة القضاء، التي لا تزال موحّدة رغم انقسام باقي مؤسسات الدولة متهمة المجلس الرئاسي بالاستناد إلى حكم قضائي صادر عن جهة فقدت اختصاصها بموجب القانون رقم 5 لسنة 2023، مشيرة إلى حكم سابق صدر عن محكمة جنوب بنغازي قضى بانعدام هذا الحكم.
كما هاجمت رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي متهمة إياه بالتفرد في اتخاذ القرارات، وتجاهل مبدأ الإجماع داخل المجلس، مما ينسف شرعية هذه المراسيم محذرة من أن هذه التصرفات تُقوّض المسارات التوافقية الوطنية، وتُعرقل جهود توحيد المؤسسات وتهيئة الظروف لإجراء انتخابات نزيهة.
وأكدت تمسكها بمسار وطني يفضي إلى الانتخابات، محذرة من التهاون مع أي جهة تتجاوز المؤسسات الشرعية.
ويأتي توقيت هذه القرارات في لحظة حرجة تشهد فيها البلاد جهودًا مضنية لتوحيد المؤسسات السيادية، وإجراء انتخابات نزيهة تُنهي مرحلة الانقسام، بدعم من بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا بقيادة المبعوثة الجديدة هانا تيتيه. ووفق مراقبين، فإن قرار المجلس الرئاسي من شأنه تقويض فرص التوافق السياسي، وعرقلة جهود البعثة الأممية، خاصة في ظل استمرار الانقسامات بشأن الأجسام الدستورية والقانونية المنظمة للعملية الانتخابية.
ويرى محللون أن المرسوم يعتبر رسالة سياسية موجهة إلى لجنة العشرين، وهي اللجنة الاستشارية التي شُكلت مؤخرًا بإشراف البعثة الأممية لدعم المصالحة والتوافق على المسار الدستوري. وقد يُنظر إلى هذه الخطوة على أنها محاولة من المجلس الرئاسي لفرض أمر واقع قانوني، دون الرجوع إلى المسارات التوافقية أو التشريعية المتعارف عليها.
وليست هذه المرة الأولى التي يتسبب فيها المجلس الرئاسي في احتقان داخلي نتيجة قرارات أحادية الجانب، فقد سبق أن أثار جدلاً واسعًا عقب إقالة محافظ مصرف ليبيا المركزي السابق، الصديق الكبير، وهو ما قوبل باعتراضات قوية من داخل السلطة التنفيذية نفسها، ومن عدد من المؤسسات المالية الدولية. ويُنظر إلى هذه الحادثة كجزء من نهج اتّبعه المجلس في اتخاذ قرارات مصيرية دون الوصول إلى إجماع داخلي أو وطني.
وفي مؤشر واضح على الانقسام داخل المجلس الرئاسي ذاته، كشف عضو المجلس عبدالله اللافي أن قرار وقف العمل بقانون إنشاء المحكمة الدستورية لم يُتخذ بإجماع أعضاء المجلس، كما يقتضي الاتفاق السياسي. واعتبر اللافي، في تصريح عبر صفحته الرسمية، أن إصدار مثل هذه القرارات بشكل منفرد لا يمثل المجلس مجتمعًا، ولا يترتب عليه أي أثر قانوني أو دستوري، مؤكداً أن أي إجراء لا يحظى بتوافق داخلي يُعد باطلاً ومنعدم الأثر.
 

ويعتقد أن توقيت صدور هذه القرارات الأحادية الجانب من المجلس الرئاسي يثير الكثير من علامات الاستفهام، خاصة في ظل التحركات الجارية لتوحيد المؤسسات السيادية والدفع نحو إجراء انتخابات شاملة. ويرى هؤلاء أن إلغاء قانون المحكمة الدستورية وتشكيل مفوضية جديدة بصلاحيات انتخابية واستشارية واسعة، دون توافق وطني شامل، يُعدّ خطوة مثيرة للجدل قد تفتح الباب أمام مزيد من الانقسام المؤسسي.
ويحذر منتقدو الخطوة من أن هذه الإجراءات قد تُوظف لتقويض استقلال القضاء، وتحويل بعض المؤسسات المستحدثة إلى أدوات سياسية تُستخدم في التأثير على مسار الانتخابات أو هندسة النتائج لصالح أطراف بعينها. كما يشيرون إلى أن تجاوز مبدأ التوافق في قضايا بهذا الحجم لا يُضعف فقط شرعية الخطوات المتخذة، بل يهدد بإعادة إنتاج أزمة الثقة التي تعاني منها الساحة الليبية منذ سنوات.
ويعتقد في النهاية أن هذا الخلاف قد يعمق الأزمة المؤسسية ويؤخر أي تقدم نحو تسوية شاملة، خصوصًا أن المسار الانتخابي لا يزال هشًا ومهددًا بالتعثر في ظل غياب أرضية دستورية وقانونية متفق عليها. ويخشى كثيرون من أن تتحول هذه القرارات إلى أدوات جديدة لتكريس الانقسام بين شرق البلاد وغربها، ما يُقوّض الجهود الدولية الرامية لتوحيد المؤسسات وتحقيق الاستقرار.
في الوقت ذاته، فإن استمرار غياب التوافق بين الأطراف السياسية، واعتماد قرارات مصيرية دون مشاورات موسعة، يضعف الثقة العامة في المسار السياسي برمته، ويهدد بإعادة إنتاج نفس الأزمات التي حالت دون إجراء الانتخابات في مرات سابقة.
وفي ظل هذه التطورات، يبدو أن ليبيا تدخل مرحلة جديدة من التجاذب القانوني والمؤسسي، في وقت كانت فيه الآمال معلقة على انفراجة تقود البلاد نحو انتخابات شاملة ومصالحة حقيقية. ولكن، ما لم تتوفر إرادة سياسية حقيقية لتغليب التوافق على التفرد، فإن هذا القرار وغيره من الخطوات الأحادية قد تعيد عقارب التسوية الليبية إلى الوراء، وتترك البلاد رهينة حلقة مفرغة من الصراع والانقسام.