
'النوفيلّا' تغيب عن حسابات الكتّاب العرب
الحجم الصغير والأفكار الأقلّ تعقيداً، والخطوط الأقلّ تشابكاً، الحركة الضيّقة للشخصيات، الشعور المُكثف في "النوفيلا"، العالم المُحدّد، والتركيز على عواطف عميقةٍ ومُركّزة، "المزاج الغنائي".
هذا ما يتداوله المهتمُّون بشأن الرواية من نقّادٍ وكتابٍ عن ملامح الرواية القصيرة "النوفيلا"، وهذا ما نراه مناسباً لعصرنا عصر السرعة، عصر نفاذ صبر القارئ من قراءة روايةٍ طويلة، عصر الهروب من القراءة إلى منصّات التواصل الاجتماعي. اذاً لماذا تغيب "النوفيلّا" عن اهتمام الساردين والناشرين العرب.
آخر روايتين لماركيز قصيرتان
يقال أنّ آخر روايةٍ صدرت، للكولومبي الحائز على جائزة نوبل للآداب غابرييل غارسيا ماركيز في حياته، كانت روايةً قصيرة، ألا وهي" ذاكرة غانياتي الحزينات" وكذلك يشار إلى أنّ الرواية التي صدرت العام الماضي لماركيز أيضاً "موعدنا في شهر آب" هي أيضاً "نوفيلّا" وتشترك الروايتان بعدة مُشتركات "الأجواء المشحونة بالغنائية والحديث عن الرواية داخل النص الروائي". كما يذكر الكاتب العراقي كيلان محمد في مقالةٍ له في صحيفة "العرب" اللندنية عن روايات ماركيز القصيرة.
ليست بالنوع الحديث
على وفق ذلك، يمكن القول أن "النوفيلّا" عالمياً ليست بالنوع الأدبي الحديث، فرواية "المسخ" للتشيكي الألماني فرانتز كافكا" 1883-1924" روايةٌ قصيرةٌ كتبها عام 1915، وقد عُدّت من أهمّ الروايات في القرن الماضي، عن تحوّلٍ فنتازيٍّ لبطل الرواية غريغور سامسا، هذه "النوفيلّا" طرحت ثيماتٍ عدّة، عن العزلة الفردية والهوية الاجتماعية والاغتراب. كذلك رواية" مزرعة الحيوان" للروائي البريطاني جورج أورويل" 1903 - 1950" عُدّت "نوفيلا"، كما أنّ أورويل آنذاك لم يعنونْها برواية، بل عنونها بـ " fairy story" ويُشار إلى أنَّ هذه العبارة تعني أنّ "الحكاية مبسّطةٌ ومسطحةٌ عن قصد. فالشخصيات نمطيّةٌ عن قصد، ومن المفترض أن تكون المؤامرة سهلة الفهم. ستنخرط فيها وأنت تقرؤها لأنّها بسيطةٌ جداً، لكنّها مرّوعةٌ جداً إذا فكّرت في تفاصيلها جيداً" كما يذكر موقع "عربي بوست" في مقالةٍ عن الرواية المذكورة.
تعريفاتٌ عالميّة
في المعجم العالمي، كما ذكر الكاتب يوسف أبو لوز في صحيفة "الخليج" الإماراتية، تعرّف دائرة المعارف البريطانية ذلك النوع من الروايات بأنّه " سردٌ قصيرٌ محكم البناء واقعيٌّ أو تهكّمي النبرة في الغالب، نشأت في إيطاليا في العصور الوسطى، وكانت ترتكز على أحداثٍ محليّةٍ ذات طبيعةٍ هزليةٍ أو سياسيّةٍ أو عاطفيّة، أوتعرَّف في "ديكشنري دوت كوم" بأنّها "حكايةٌ أو قصّةٌ قصيرةٌ من النوع الذي جاء في كتاب ديكاميرون للإيطالي جيوفاني بوكاتشي" وبأنّ "النوفيلّا سردٌ نثريٌّ خياليٌّ أطول من القصّة القصيرة وأكثر تعقيداً"، وفي التراث الأميركي للغة الإنكليزية عُرّفت النوفيلّا بأنّها حكايةٌ نثريّةٌ قصيرةٌ تتّسم في الغالب بالدرس الأخلاقي أو بالتهكّم، وهي روايةٌ قصيرة، وتذكر الويكيبديا، بحسب يوسف أبو لوز "النوفيلا سردٌ خياليٌّ نثريٌّ أطول من النوفوليت، وهي الكلمة الإيطالية التي تُشير إلى القصّة القصيرة، ولكن أقصر من الرواية".
وفي الوقت الذي أشرنا فيه آنفاً إلى رواياتٍ عالميّةٍ تنطبق عليها صفات "النوفيلا" يرى الروائي التونسي كمال الرياحي، ضمن استطلاعٍ أجراه كيلان محمد، الذي كرّس الكتابة عن "النوفيلّا" بمقالاتٍ عدّة، يرى الرياحي، أن ليس هناك اعترافٌ عالميٌّ بالنوفيلّا، مشيراً بهذا الصدد إلى" روايات شتاينبك كاللؤلؤة أو رواية "الشيخ والبحر" لهمنغواي أو "الحمامة" لزوسكيند أو "النورس جوناثان ليفينغستون" رائياً أنها تتّسم بوحدة موضوعاتها وشخصياتها القليلة وغير ذلك من صفات النوفيلّا، لكنّ كتّاب هذه الروايات لم يجنّسوها على الأغلفة الأمامية على أنَّها "نوفيلّا".

ربَّما بسبب الجوائز
عديد الكتاب أشاروا إلى غياب "النوفيلّا"، كجنسٍ أدبيٍّ يفرض نفسه، يقع على عاتق الجوائز الأدبيّة المُخصّصة للرواية، فلجان تحكيمها من كتّاب وأكاديميين، ما زالت تروّج للروايات التي سُمّيت أسماء عديدة، ففضلاً عن الطويلة، هناك مُسمّيات" النهريّة" و" السّمينة" أو" البدينة". وهذا ينحو بالروائيين للاتّجاه بالشكل الكتابي بحسب معايير لجان الجوائز، ولو برزت جوائز تشترط معايير الرواية القصيرة، لكان الأمر مختلفاً، فتشيع الكتابة بهذا النوع، على نطاقٍ واسع.
عدا هذا، تنبغي الإشارة إلى ما قاله يوسف أبو لوز، بأن كتّاب " النوفيلّا" هم شتات "لا يشكّلون معاً ظاهرةً أو "تياراً" كتابياً مترابطاً، ممتدّاً أو متكاملاً في ما يمكن أن يُسمّى "السرديّة العربيّة".
الفكرة قبل الشكل
وترى الكاتبة اللبنانية زينب مرعي، بما معناه أنه ليس هناك قصديّةٌ في إهمال الكتابة بنوع "النوفيلّا"، بل الأمر يتعلّق بأنّ الشكل الذي تؤول إليه هو طوع الفكرة، فهي التي تقرّر الأوّل وليس العكس.
عدا قضية الشكل والمضمون ترى مرعي في الاستطلاع المذكور أنّ دور النشر لها دورٌ كبيرٌ في تجنيس الكتب التي يقدّمها الكتّاب للنشر لديها، وغالبيّة دور النشر العربية ترفض نشر الروايات القصيرة، بل هي تحكم عليها بأنّها لا تصلح أن تُصنّف كروايات، فتلزم الكتّاب بتوسيعها، وإلاّ فمصيرها الرفض. إذاً، هنا تضع دور النشر الكتّاب بين المطرقة والسندان، إذ هي ترفض الروايات الطويلة جداً، وهنا تطلب منهم اختصار الرواية أو تتّفق مع الكتّاب على نشرها على شكل أجزاء.

لا اعتراف ولا استقلاليّة
هناك آراءٌ لبعضهم، ترى أنَّ الأمر يعود إلى كسل كتّاب السرد في تجريب شكلٍ أدبيٍّ مثل الرواية القصيرة، فقد تنمّطوا بين الرواية والقصة القصيرة، مثلهم مثل الشعراء الذين يمتنعون عن كتابة قصيدة النثر، باعتبار أنَّ تجريباً من هذا النوع، هو الخروج عن الأصل والدخول في متاهة، وبالنسبة للسرّاد، الكثير منهم يرى أنّ "النوفيلّا" عبارةٌ عن قصّة قصيرةٍ طويلة.
لاحظنا كثرة استطلاعات آراء الروائيين العرب عن ظاهرة " النوفيلّا" وأسباب غيابها، فهناك استطلاعٌ بتوقيع الكاتب ايهاب محمود، ويذكر فيه رأياً للقاص والروائي العراقي زهير كريم بشأن غياب " النوفيلاّ"، كريم لا يرى مبرّراً للبحث عن أسباب غياب" النوفيلّا" لانّها أصلاً ليست جنساً أدبياً مستقلّاً عن الرواية، ويقول في هذا الشأن "أستطيع أن أقدّم ثلاثة نماذج نصّيّة، الغريب لـ ألبيركامو، والمسخ لـ كافكا، والحمامة لـ زوسكيند. هذه الأعمال بالنسبة لي روايات، ولا يمكن لي تحديد اختلافاتٍ وشروطٍ أخرى تميّزها، وتجعلها تنفصل كجنسٍ آخر عن الرواية، وفى النتيجة هي روايات، قرأناها على أنّها روايات رغم قصرها". اذاً هنا، كريم، لا يقول بوجود "النوفيلاّ" كجنسٍ أدبيٍّ مستقل، وانَّ الأخيرة رافقها الغموض منذ البداية. كلُّ ما في الأمر أنّه يُراد إيجاد جنسٍ أدبيٍّ جديد، لا هو بالقصة ولا بالرواية. عدا كريم هناك عديد المهتمين بهذا الشأن، يرون بأنّ "النوفيلا"، على الرغم من تحديد بعض سماتها، في مقالتنا، يرون أنّها غير محسومة المعالم.
الغرب يحبُّ الروايات السّمينة

كاتب آخر، مثل الروائي السوري فواز حداد، أدلى دلوه بما مفاده، بأنّه إذا كان إبداعنا السردي، تحديداً، ينبغي أن يتواءم مع روح العصر، وقد اجتزنا عصر السرعة، ونحن الآن في عصر الذكاء الاصطناعي، هل يعني أن نكتب بحجمٍ موحّدٍ للرواية؟ ويخلص إلى أنّ الأمر فيه المزيد من التناقضات، فالغرب السريع ما زال يكتب الروايات السمينة، وتلقى إقبالاً في منافذ البيع هناك، والشرق البطيء ينادي بسرد "النوفيلاّ".
هذا ما يزيد "النوفيلاّ" غموضاً لجهة أنّ كتّاب الغرب، عامةً، لا يميلون إليها. حدّاد ترك الباب مفتوحاً أيضاً بشأن رواية غير محسومة المعالم، بابه المفتوح، تمثّل بأنّ الروائيين عامّةً، لا يستطيعون مُسبقاً تحديد عدد صفحات رواياتهم، ويضرب مثلاً بأنّه قرّر تحديد عدد صفحات ما سيكتبه بعشرين صفحة، بما يعني حجم قصّةٍ قصيرة، وإذا بها تمتدّ إلى أربعمئة صفحة، فأصبحت روايةً "سمينة"، عنوانها" الضغينة والهوى".