وديع فلسطين يوثق في 'كتاب أسود' اعترافات وسجالات أعلام الأدب العربي

كتاب 'وديع فلسطين يتحدث عن أعلام عصره' يمثل موسوعة أدبية وتاريخية توثق الحياة الثقافية والسياسية في القرن العشرين وفيه يقدم الكاتب شهادات حيّة عن أعلام الأدب والفكر الذين عرفهم عن قرب، كاشفًا أسرارهم وسجالاتهم ومجدِّدًا ذكر المنسيين منهم.

كتاب "وديع فلسطين يتحدث عن أعلام عصره" لشيخ الصحفيّين وديع فلسطين (سوهاج 1923 / 2022) الصادر عن دار القلم دمشق في جزئه الأول في 366 صفحة وفي جزئه الثاني في 353صفحة، هو سفر ضخم يؤرخ للحياة الأدبية في القرن العشرين قال الناشر بشأنه "إن كتاب وديع فلسطين يتحدث عن أعلام عصره يقدم إضافة حقيقية إلى تاريخ هؤلاء الأعلام وإلى تاريخ نهضتنا الحديثة، وهو سجل شرف لهؤلاء الجنود الذين بذلوا وجاهدوا وبنوا فأعلوا البناء ونعمنا نحن بما قدموا وسعدنا بما أعطوا".

تأتي أهمية الكتاب من كونه شاهدا على الحياة الأدبية في القرن العشرين فهو لا يقدم المألوف والمعروف من سير هؤلاء الأعلام ولا يقوم بنسخ وإعادة قول ما قيل بشأنهم وإنما يقدم شهادات وما خبره الكاتب وعرفه من واقع احتكاكه بهم سواء كان العلم شاعرا أو كاتبا أو صحفيا أو عالما أو رجل سياسة وتحرر قومي بحكم عمله كصحفي في الجرائد والمجلات الذائعة في ذلك الوقت، فهو كتاب يضيف جديدا إلى تاريخ الحركة الأدبية الحديثة، بل هو علبة سوداء تحوي الكثير من الأسرار والخفايا عن سيرهم وواقع سجالاتهم وخلافاتهم الأدبية والفكرية والحياتية بحيث يخرج القارئ بصورة واضحة عن مجمل النشاط الأدبي في ذلك الوقت الذي ازدهرت سوقه وفشت بضاعته وأعطت هذه الثمار اليانعة في الشعر والنثر والإنتاج الفكري والفلسفي بله والتحرر السياسي، فقد كانت القاهرة موئل الأحرار وملاذ المفكرين والسياسيين من العالم العربي يجدون فيها المناخ الخصب للعطاء والإنتاج على الرغم من عراقيل ومثبطات لم يفت الكاتب ذكرها في مواطن معينة وقد كتب في المقدمة "ولست أزعم بأنني مؤرخ أدبي أو بأنني أكاديمي محترف ولا بأنني باحث ببلوغرافي أو أنطولوجي، ولهذا فقصاراي أن أرسم صورة شبه حية لكل علم من الأعلام الذين عرفتهم من واقع تواصلي الشخصي معهم واحتكاكي بهم، وهي صورة ذاتية تومئ إلى شيء عرفته وقد تغفل أشياء لم أعرفها ولم يتناه خبرها إلي".

هو ذاكرة الأدب الحديث بما احتوى من أسرار وكشف من معميات ومن حقائق لم يتوان في إثباتها، ومن دفاع بحق الكثيرين الذين طالهم الجحود والنسيان، مع ما قدموه من جليل الأعمال، ولم يكتف بأعلام مصر وإنما بكل المثقفين و الكتاب والشعراء من العالم العربي الذين كانوا يقيمون في القاهرة أو يفدون إليها لأجل اجتماعات مجمع اللغة العربية أو لنشر مؤلفاتهم أو الاحتكاك برجال القلم أو الصحافة أوالسياسة، فمن منطلق عروبي جاء هذا الكتاب وكأنه ينطق بلسان الشاعر محمود أبي الوفا:

وطني هو الفصحى بكل بلادها

في مصر أو في الشام هن بلادي

هذا هو الوطن الذي أحيا له

وله أوالي صادقا أو أعادي

ولهذا يقف القارئ على كشف شامل للصحافة الأدبية والسياسية في ذلك الوقت التي اغتنت من محصول هؤلاء الأعلام، وبالسجالات الدائرة والمعارك المحتدمة حول القديم والجديد أو النضال السياسي كالمقتطف والرسالة ومجلة الأديب لصاحبها ألبير أديب ومجلة العصور لإسماعيل مظهر وجريدة السياسة ومنبر الشرق لعلي الغاياتي والمقطم والهلال، كما يقف القارئ على البدايات الأولى للحركة وللكتابة النسوية  التي باشرتها بعض رائدات الحركة النسوية والمبدعات، وصورة واضحة كذلك عن الأدب المهجري في تفاعله مع الشرق ومع قضاياه ومساهمته في تجديد الأدب سواء أكان ذلك في حقل الكتابة الشعرية أم النثرية أم الصحفية، وبما بثه من روح جديدة في الأدب العربي، وبما شحذ به العزائم و استثار به الهمم لأجل مقاومة الاستعمار أو دحر الاستبداد ونشدان الحرية والمساواة وتحرير المرأة والنهضة الثقافية والاجتماعية والدعوة إلى العلم أسوة بالمجتمعات الناهضة، وبين ما كان بين هؤلاء الأدباء في مهجرهم البعيد وبين كتاب المشرق ونقاده وشعرائه من مناوشات وخصومات في قضايا خلافية حول اللغة والأسلوب والموقف من القديم والجديد، سواء تعلق الأمر بالرابطة القلمية أو بالعصبة الأندلسية ومن الأدباء الأعلام المشهورين الذين احتك بهم الكاتب وتعرف عليهم عن قرب وخالطهم: خليل مطران، طه حسين، العقاد، عزيز أباظة، محمود تيمور، محمود حسن إسماعيل، نجيب العقيقي صاحب الكتابين المهمين "المستشرقون" و"الأدب المقارن"، ساطع الحصري، سلامة موسى، الكاتب الإشكالي والمستفز والعنيد كذلك، وقد كتب بشأنه "..إن صاحبها هو المفكر، أو قل هو المؤرخ أو إن شئت فقل هو الداعية، أو إن شئت فهو الفيلسوف العالم، وإن شئت أن تجمل هذا كله في خلاصة الخلاصة فقل هو إنسان محب للعلم في نفسه ولغيره في قرية هذه الدنيا بأسرها وفي مجتمع هو الإنسانية برمتها"، ومن الأديبات اللائي تعرف عليهن الكاتب وقدمهن في كتابه هذا مظهرا مزيتهن في الكتابة النسوية والنضال النسوي : مي زيادة وصالونها الأدبي ودورها في بعث الحياة الأدبية في مصر وفي العالم العربي عبر صالونها الشهير وريادتها في الكتابة النسوية والشاعرة جميلة العلايلي والداعية إلى المساواة وحرية المرأة روز أنطون حداد وفدوى طوقان صاحبة السيرة الذاتية الصعبة والأصعب وبما استدركه عليها يوسف بكار في السيرة المنسية ووداد سكاكيني، كما يقف القارئ على كشف ثري يقدم حقائق وشهادات عن أعلام من مصر أو من العالم العربي بما قدموه من إسهامات في مجال الشعر أو الرواية أو النقد أو الصحافة أو النضال التحرري من ربقة الاستعمار أو الاستبداد وقد اتخذوا من القاهرة منطلقا وقد طال بعضهم النسيان وغمطهم النقاد والمؤرخون حقهم وبخسهم كتاب السير والتراجم والأنطولوجيا فضلهم فلم يعد للكثيرين منهم لهم ذكر في حياتنا الثقافية والأدبية الحديثة أمثال :إبراهيم المصري، أبو القاسم محمد كرو، أحمد حسين مؤسس حزب مصر الفتاة والمتهم في حريق القاهرة الشهير 1952 وصاحب رواية "أزهار" عادل الغضبان، عبد الله يوركي الحلاق، سيد قطب، عبد الله كنون، علي الغاياتي، يعقوب العودات "البدوي الملثم"، يوسف أسعد داغر صاحب "معجم الأسماء المستعارة"، إسحاق موسى الحسيني، أكرم زعيتر، بدوي طبانة، بولس سلامة، جعفر الخليلي، حبيب جاماتي، حبيب الزحلاوي، صلاح الدين المنجد، زكي المحاسني، سعيد تقي الدين، علي هاشم رشيد، فارس نمر، قدري حافظ طوقان، قرياقص ميخائيل، كامل السوافيري، محمد جميل بيهم، محمد صبري السوريوني، مصطفى الشهابي، نقولا يوسف، يوسف جوهر صاحب رواية "أمهات في المنفى"، عادل كامل، زكي مبارك الكاتب الإشكالي والمستفز في كتاباته وأهاجيه للزمان وللمثقفين، زكي مبارك الذي طاله الجحود فبالرغم من حصوله على الدكتوراه إلا أنه لم يتهيأ له العمل بالجامعة أسوة بزملائه مما جعله يعيش الإحساس بالاضطهاد أو الشعور بالنبذ وذلك كله جعله ذلك ميالا إلى الخصومات والمشاكسة وإهمال نفسه والإغراق في تدمير الذات بالمسكرات وقد كتب بشأنه بعد أن اختلط به "إنه أديب جنت عليه عبقرياته وألقاب دكترته الكثار، ففي عشرين عاما من عمر الجامعة المصرية الحديثة لم تمنح درجة الدكتوراه إلا لاثنين هما عبد الوهاب عزام وزكي مبارك ومع ذلك أبت الجامعة أن تعترف بمبارك أستاذا فيها إلا لفترة قصيرة" وما جاء في رثائه بلسان حسين خريس:

كنت في دنياك فردا واحـــــــدا

تتأبى الظلم لا تخشى الخطوب

ولتعش فينا حضورا مطلقا

شمس فكر عن دنانــــا لا تغيب

ومن الشعراء المصريين الذين تعرف عليهم الكاتب وقد كان صاخب نبوغ شعري بالرغم من حياته القصيرة وأحيا ذكره الكتاب فؤاد بليبل (1911/1941)وقد قال بشأنه الشاعر محمود غنيم "امتاز برشاقة الأسلوب وعذوبة الروح والانسجام وحسن الصياغة والديباجة".

كما قدم الكاتب في مؤلفه هذا بعض الحقائق المطموسة عن الأدب المهجري وأعلامه وخلافاتهم فيما بينهم وبين أدباء المشرق ومساهماتهم الجادة في الارتقاء بالكتابة الشعرية والنثرية على السواء أمثال أحمد زكي أبو شادي، ميخائيل نعيمة، إلياس فرحات، جورج صيدح، رشيد سليم الخوري، وبهذا الحشد من الشعراء والكتاب والمستشرقين الذين عرفهم مثل عبدالكريم جرمانوس، جورج رنس ودعاة الإصلاح النضال السياسي مثل المناضل الفلسطيني الكبير محمد علي الطاهر، مما يرشح الكتاب بجدارة إلى أن يكون تواصلا بين هذا الجيل الراهن والجيل السالف من أعلام ذلك العصر الذين حفل بسيرتهم ومنجزاتهم هذا الكتاب، وقد تنبه الكاتب إلى ذلك فكتب في الخاتمة "ما ينعى على هذا الجيل افتقارهم إلى التواصل مع الأجيال السابقة وهو ما أجتهد في تداركه في هذه الأحاديث بحكم خضرمتي في الحياة الأدبية وإن كنت أعتبر نفسي على الدوام على الهامش".

وإن وسم نفسه بأنه كان على الهامش في تواضع كبير منه إلا أنه في حقيقة الأمر من خلال هذا السفر الضخم الذي أضاء به دياجير في الحياة الأدبية في القرن العشرين وكشف ألغازا ومعميات كثيرة وقدم شهادات حية بحق الكتاب والشعراء المشهورين والمغمورين فقد أثبت بثراء تجربته وغزارة احتكاكه بأنه كان في المركز وفي المتن من هذه الحركة الأدبية، وهذا لا يتهيأ إلا لصحفي نابغ ومثقف مقتدر وكاتب صاحب قلم سيال فياض بالشعور وبالفكر النير وبجزالة الأسلوب ونصاعة العبارة، دون تكلف أو تصنع كما تكشف سطور هذا الكتاب الذي يشكل بالفعل إضافة حقيقية وثرية إلى المكتبة الأدبية العربية لا يستغني عنه أكاديمي أو باحث أو طالب أو مثقف أو أديب في دقائق وأسرار الحركة الأدبية والفكرية في ذلك الإبان .

وإذا كان الكتاب بهذه الجدارة وبهذه القيمة فهو كتاب خالد ولا ريب في ذلك، فستمضي أجيال وأجيال وتتعاقب الحقب والعصور وسيظل الأدباء والعلماء وعشاق الأدب ينهلون من معين الكتاب نظرا لقيمته الأدبية والتاريخية ويحق عليه قول الشاعر العربي:

من كان فوق محل الشمس موضعه

فليس يرفعه شيء ولا يضــــــــع

وسيقف القارئ بلا شك على الدور الذي لعبته مصر في النهضة الشعرية والنثرية والصحفية والفكرية والسياسية، فقد كانت قلعة الأحرار وموئل الفكر الحر وملاذ الصحافة الهادفة والحرة وبما استضافت من قوافل المبدعين من كتاب وشعراء وفلاسفة ورجال صحافة ودعاة تحرر سياسي واجتماعي ولم يبالغ خليل مطران، وهو اللبناني النازح إلى مصر شأن كثير من الشوام في ذلك الوقت حين قال:

يا مصر أنت الأهل والسكن

وحمى على الأرواح مؤتمن

فهنيئا للكاتب، وهو في دار البقاء- إنجازه الكبير والخالد هذا، وهنيئا لقراء العربية ما يقرأون من ثمرات الفكر والأدب في هذا السفر الخالد والممتع.