الإعمار الاجتماعي ضرورة يحتاجها السوريون
لا يُمكن التعمق في مرحلة ما بعد سقوط نظام الأسد وتحدياتها دون العودة والمراجعة وتقييم ما تعرض له المجتمع السوري خلال عقود حُكم آل الأسد، ولا يُمكن بالتوازي تصحيح مسار سوريا الجديدة دون التصويب على الإرث الذي خلفه نظام الأسد ودون إعادة بناء حقيقية للمجتمع السوري، خاصة أن الأخير وجراء سياسات آل الأسد تعرض للتفكك ضمن سياسات ضرب الروابط الاجتماعية، بما يعمل على إضعاف وضعضعة بنية المجتمع السوري واستنزاف قواه الحيّة. نتيجة لذلك فإن مرحلة ما بعد سقوط الأسد لا تقتصر على إعادة الإعمار بمعناه المادي، ولا بعث سياسات جديدة كوسيلة طمأنة للسوريين على قاعدة “طالما أن الأسد رحل فالقادم أجمل،” وهذا لا يتسق مع عمق ومضمون التحديات التي يواجهها السوريون عموما.
يُتفق على أن سوريا الجديدة لا تحتاج إلى إعادة الإعمار بمعناه المادي فحسب، بل ثمة ضرورات مُلحة تقتضى إصلاح المجتمع السوري وترميم قواه جراء سياسات الهدم والعبث بروابط السوريين الاجتماعية، وعلى اعتبار أن إصلاح المجتمع وتقوية أركانه يُعدان أساس الدولة القوية، لهذا فإن الركيزة الأساسية التي يجب على السوريين الانخراط في عمقها تتعلق بإعادة بناء المجتمع السوري، أو ما يُمكن تسميته بالإعمار الاجتماعي، وهذا الأمر يحتاج جهداً مشتركاً من غالبية السوريين بعوامهم ونُخبهم السياسية والاجتماعية، كل ذلك بغية توليد الحلول وإعادة ترميم الثقة بقوى المجتمع السوري، والعمل بشكل متدرج للوصول إلى الإصلاح الاجتماعي الكامل.
سقوط نظام الأسد مثّل للسوريين فرصة للحديث عن المُحرمات السياسية والاجتماعية التي مُنع التداول بها نتيجة سلطة البعث وآل الأسد، واليوم ثمة نقاشات كثيرة في كل ما يخص السوريين للوصول إلى سوريا الديمقراطية التعددية، لكن بالتوازي مع ذلك فإن الحديث عن الإعمار الاجتماعي تم تغييبه جراء التصحر السياسي الذي فُرض على السوريين، وهنا يبدو جليًّا أن الحديث عن الإعمار الاجتماعي لم يأخذ مساره الصحيح جراء الكثير من التحديات التي يمر بها السوريون ما بعد سقوط الأسد، ليكون المطلوب ربطاً بما سبق التركيز على إعادة الإعمار الاجتماعي الذي يعُد رافداً غاية في الأهمية لإعمار سوريا، وفي العمق فإن الإعمار الاجتماعي يُعد أساساً وركيزة لاستقرار المجتمع السوري وتقوية مناعته ضد التفكك، خاصة أن سياسات البعث وآل الأسد أثرت تأثيرا عميقا في طبيعة وشكل وماهية المجتمع السوري، وهذا ما على السوريين إدراكه وترميمه سريعاً.
الحديث عن إعادة الإعمار الاجتماعي يجب أن يأخذ الحيّز الأكبر في نقاشات وحوارات السوريين، خاصة أن أهمية هذا الطرح في مرحلة ما بعد الأسد تستمد قوتها من ضرورة ترميم المجتمع السوري بالمستويات كافة، لاسيما أن الهياكل الاجتماعية السورية تعرضت لانتكاسات حادّة جراء السياسات المُدمرة التي انتهجت من قبل نظام الأسد، والأخير يعي ويدرك أن تفكيك المجتمع السوري وتحييد القيم التي تُشكل العمود الفقري لأي تماسك اجتماعي، هما السبيل الوحيد لبقائه والتفرد بالحكم والسلطة، وفي هذا الأمر ثمة تساؤل لا بد من طرحه في عناوين الحدث السوري؛ هو تساؤل يتمحور حول إمكانية أن يقوم المجتمع بإعادة بناء نفسه اعتماداً على إحياء الروابط الإنسانية وتعزيز أواصر التماسك الاجتماعي.
ومن المهم التنويه إلى أن خصوصية الحالة السورية التي تحتوي تنوعاً عرقياً وإثنياً وقومياً، تقتضي البحث عن موجبات إعادة الإعمار الاجتماعي والنهوض به مجدداً، وهذا الأمر لا يخص السوريين فحسب، بل ثمة مهام على الإدارة الجديدة التنبه لها والعمل على تحقيقها وتبني سياسات جديدة من شأنها ترميم المجتمع السوري، والأهم أن الإدارة الجديدة يجب أن تعلم بأن الدولة المُستبدة تُحقق الهيمنة بمستوياتها الظاهرية، لكن ستفشل حُكماً في تحقيق الاستقرار السياسي والاجتماعي، وهو ما يُهدد شكل الدولة، كما أن تبني ثنائية القمع والإبقاء على المجتمع مُفككاً، من شأنه تقويض أركان الحُكم والذهاب بالدولة إلى معالم غير مستقرة وفوضوية، ولعل سياسات آل الأسد مثال واضح على ما سبق، خاصة أن نظام الأسد اعتمد القبضة الحديدية والأمنية ومبدأ قمع إرادة السوريين وكبت أصواتهم وتكميم أفواههم، فضلاً عن إشاعة الخوف وإبقاء سيف الرقيب مُسلطاً على رقاب السوريين، الأمر الذي أدى إلى تحطيم روابط المجتمع السوري وتفكك الدولة.
بهذا المعنى فإن التحدي الأبرز الذي يواجهه السوريون هو القدرة على إعادة إعمار المجتمع، وضمن ذلك لا يمكن تجاهل أن هناك تمزقاً اجتماعيا يعاني منه السوريون، جراء أربعة عشر عاماً خبر من خلالها أغلب السوريين النزوح والتهجير، وهذا الأمر أفرز حالة من عدم الثقة نتيجة تداعيات الحرب، ومن البديهي القول بأن أغلب العائدين إلى سوريا، وتحديداً أولئك الذين عانوا من النزوح في دول الجوار، يحملون في داخلهم أفكاراً وتجارب قد لا تتوافق مع جميع السوريين، وهذا يجب فهمه والتعامل معه بجدّية، وفي المقلب الآخر فإن السوريين الذين بقوا في مناطق سيطرة النظام السابق أيضاً عانوا كثيراً من الاستبداد وسياسات نظام الأسد، وبين هذا وذاك يجب ألا يكون هذا المشهد عبارة عن معادلة مستعصية الحل أو سبيلاً لتضارب الرؤى حيال سوريا الجديدة، فهذا يَحول قولاً وفعلاً دون الوصول إلى حالة النضوج في ضرورات إعادة الإعمار الاجتماعي، والإبقاء على إرث النظام السابق في تعميق الانقسامات داخل المجتمع السوري.
بعد سقوط نظام الأسد، فإن بناء الثقة بين السوريين والإدارة الجديدة يُعدّ ركيزة أساسية لإعادة الإعمار الاجتماعي والسياسي في سوريا، وهذا يُحتم على الإدارة الجديدة اتباع سياسات بناءة، وتحييد مفاهيم القمع والثأر والاستبداد، والاستفادة من الأخطاء التي اتبعها النظام السابق، والتي كانت سبباً في انعدام الثقة بالسلطة، فالسوريون يبحثون عن دولة تحمي حقوقهم، وسلطة تضمن مصالحهم وتحترم تنوعهم القومي والإثني. نتيجة لذلك فإن السوريين يطالبون الإدارة الجديدة بأن تقود بنفسها جهود إعادة الإعمار الاجتماعي، من خلال فتح أبوابها بشكل حقيقي للجميع وعدم اقتصار لقاءاتها ومبادراتها على النخب الاقتصادية والسياسية، بل يجب أن يكون التواصل مع المواطنين من جميع الفئات والطوائف مفتوحًا، والاعتراف بالأخطاء الجوهرية التي وقعت وتصحيحها، لأنه إذا اقتصر تعامل الدولة على النخب وبقيت حالة الفوضى الأمنية والابتعاد عن السياسات الاقتصادية الناجعة التي ترمم معيشة السوريين، فإن كل ذلك سيكون بمثابة إعطاء مؤشرات سلبية تضعف مستوى ثقة الأفراد بالمؤسسات العامّة؛ ما سيؤدّي إلى إعادة إنتاج الفجوات نفسها التي أوجدها نظام الأسد بين الشعب والدولة.
صفوة القول، لا شك أن إعادة الإعمار الاجتماعي في مرحلة ما بعد الأسد تتطلب جهوداً ليس فقط لمعالجة أزمات السوريين، بل ثمة جهود يجب أن تنصبّ على الوصول إلى الجذور العميقة للأزمات التي رسختها عقود من السياسات المدمرة، مع الأخذ في الحسبان أن كلفة هذا الإصلاح ليست ملموسة ككلفة الإعمار المادي لأنها مؤطرة بمشكلات مدفونة في الوجدان الجمعي لشرائح كثيرة من السوريين، وبغية تقليص المسافة بين الشعب والسلطة الجديدة، يجب العمل على تغيير المفاهيم والثقافات السائدة، وأن تكون بالقطع الإدارة الجديدة على مستوى آمال وتطلعات السوريين في بناء سوريا ديمقراطية تعددية، وهذا ما يعمل على إعادة الإعمار الاجتماعي الذي سيكون بلا ريب ركيزة قوية لبناء سوريا الجديدة.