حقائق ليبية على الأمم المتحدة أن تتوقف عندها
جدل واسع تشهده ليبيا هذه الأيام حول دور البعثة الأممية ومبادراتها الجديدة، التي لا يبدو أنها ستخرج عن طاحونة "الشيء المعتاد"، لاسيما أنها تأتي من هامش القراءة الموضوعية للوضع العام في البلاد، ومن دون اعتراف بأن تحوّلات كبرى وحاسمة ومصيرية شهدتها الجغرافيا الليبية، ولا تزال، ليس فقط منذ عام 2011، ولكن منذ 2014، ثم 2019، وصولا إلى راهنٍ يفرض على حنّا تيتيه، ومن ورائها البعثة الأممية ومجلس الأمن والمجتمع الدولي، التوقف عند جملة من الحقائق، من بينها:
أولا: إن وضع الفوضى الذي تشهده ليبيا منذ العام 2011، ليس سوى نتيجة موضوعية لأخطاء فادحة وقع فيها المتدخلون الأجانب، عندما سارعوا إلى التدخّل العسكري المباشر استنادا إلى تقارير إعلامية تبيّن أنها كانت مفبركة من قبل أطراف داخلية وخارجية، تبيّنت أهدافها من سياقات ما سُمِّي بالفوضى الخلّاقة، وثورات "الربيع العربي"، التي كان هدفها الأول الإطاحة بالدول الوطنية، وتمكين قوى الإسلام السياسي والمتحالفين معها من الوصول إلى سدّة الحكم في المنطقة العربية. وبعد فترة قصيرة من تبلور ملامح الكارثة على الضفّة الجنوبية للمتوسط، سارعت واشنطن ولندن وباريس وروما وغيرها من العواصم إلى الاعتراف بحجم الخطأ الذي ارتكبته في حق ليبيا وشعبها.
ثانيا: إن حالة الانقسام التي تشهدها البلاد حاليا لم تأتِ من فراغ، وإنما جاءت نتيجة حتمية للانقلاب السياسي والأمني، الذي نفذته الميليشيات الخارجة عن القانون في غرب البلاد على نتائج الانتخابات البرلمانية في يونيو 2014، من خلال تشكيلها منظومة "فجر ليبيا"، التي قادت تحرّكها الدموي بداية من 13 يوليو من ذلك العام، كردّ فعل إرهابي على فشل الإسلاميين في تحقيق أهدافهم بالوصول إلى السيطرة على الحكم من جديد، بعد أن أدّت يقظة الشعب الليبي إلى هزيمة مدوية للإخوان والجماعة المقاتلة، مقابل انتصار ساحق للقوى الوطنية والتيارات الليبرالية والديمقراطية.
ثالثا: إن التحوّلات السياسية التي عرفتها ليبيا منذ انقلاب "فجر ليبيا"، والتي فرضت انتقال مؤسسات الدولة الشرعية إلى المنطقة الشرقية، تزامنت مع العملية العسكرية الكبرى التي تحوّلت لاحقا إلى “ثورة الكرامة”، والتي انطلقت بقيادة المشير خليفة حفتر في منتصف مايو 2014 لتحرير بنغازي والمدن المجاورة من الجماعات المسلحة الخارجة عن القانون، والمرتبطة بمشروع تحويل ليبيا إلى إمارة للحكم الديني المتشدّد في شمال أفريقيا، تمتلك مقوّمات الإطار الإستراتيجي المهم، والثروات الطبيعية الزاخرة، وتتوسط بين مشرق الوطن العربي ومغربه، مع التموقع على التخوم الجنوبية لأوروبا، وامتدادها إلى الصحراء الكبرى والساحل الأفريقي. وفي 25 أغسطس 2014، قال مجلس النواب الليبي "إن الحرب الدائرة الآن في البلاد هي حرب بين الدولة الليبية ومؤسساتها الشرعية، يقودها أبناؤنا من جنود وضباط الجيش ضد جماعات إرهابية خارجة عن القانون والشرعية."
رابعا: نجحت القيادة العامة للجيش الوطني الليبي في تحرير شرق البلاد وجنوبها ووسطها من الميليشيات، وفرضت سلطة الدولة وضمنت استمراريتها، وحققت المصالحة الشاملة بين عناصرها ومع التاريخ، وعبّرت عن إرادة الأغلبية الساحقة من الليبيين، باستثناء التيارات الدينية العقائدية المرتبطة بأجندات تتجاوز جغرافيا ليبيا. واتجهت إلى عملية إعادة الإعمار والتنمية التي شملت مناطق عدّة من البلاد، وخاصة في مدن بنغازي ودرنة وسرت ومرزق وسبها. وهي عملية متواصلة بأبعادها التنموية المتعددة، وبروح المبادرة التي نجحت في غرسها داخل المجتمع؛ فبمجرّد أن لاحظ الليبيون استرجاع الدولة لروحها وسلطانها، اتجهوا للمشاركة في تكريس مشروع النهضة الشاملة، التي شبّهتها بعض التقارير الغربية ببدايات نهضة دبي في ثمانينات القرن الماضي.
مع هذه الملاحظات، لا يمكن تجاهل حقائق أخرى، لعلّ أهمها: أن كل محاولات الحل التي بادرت بها أو تبنّتها الأمم المتحدة كانت تسعى إلى إعادة تدوير قوى الفساد والتطرف، والتركيز على عملاء الخارج، وكانت تصبّ في خدمة أجندات أجنبية بأدوات محلية أو أجنبية من أصول محلية. ولم تعمل على طرق أبواب الأسئلة الحقيقية بخصوص نظام الميليشيات في غرب البلاد، واستمرار انتشار السلاح خارج سلطة الدولة، وتوظيف أمراء الحرب في مراكز القرار الأمني والعسكري والسياسي، ونهب المال العام بشكل غير مسبوق، وتحويل سيادة ليبيا ومقدراتها ومستقبل أجيالها إلى أوراق في يد سلطات طرابلس المتعاقبة، تساوم بها على مصالحها وامتيازاتها، وفي مقدمتها البقاء في السلطة.
في ظلّ هذه التناقضات بين منطق الدولة ونظام الميليشيات، تحتاج الأمم المتحدة ومن ورائها المجتمع الدولي إلى لحظة صدق مع النفس، للاعتراف بأن الدولة الليبية، التي تمثلها القيادة العامة للقوات المسلحة، ومجلس النواب، والحكومة المنبثقة عنه، لن تندمج في أيّ مغامرة سياسية جديدة غير مضمونة العواقب، ولن تتورط في خطة أخرى هدفها إضاعة الوقت على الليبيين، بإعادة تدوير الفاشلين والفاسدين والمتآمرين وعملاء الخارج، وبالتشكيك في القوى الوطنية الحقيقية وفي قدرتها على طي صفحة الفوضى والانقسام، وفق أبجديات المشروع الوطني الذي أثبت جدواه وحقق شرعيته بما تميز به من مشروعية تعبّر عن الضمير الجمعي لليبيين.
كما على حنّا تيتيه الممثلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة في ليبيا أن تدرك أن عملية التنمية وإعادة الإعمار في مناطق نفوذ الجيش الوطني، قد حققت الجانب الأكبر من أهدافها، ولا تزال تمضي على طريق الإنجاز، بالاعتماد على إيرادات هي، في الواقع، جزء بسيط من الثروات التي تزخر بها تلك المناطق، بينما يذهب الرصيد الأكبر إلى صفقات المساومين على ديمومة الكراسي، وجيوب الفاسدين، وحلفائهم من أمراء الحرب، وقادة الميليشيات، ولصوص المال العام، ممن يحظون بشرعية الوهم التي يُمكّنهم منها المجتمع الدولي، في مشهدية مشكوك في جدّيتها ونزاهتها، وفي أهدافها وحسابات الواقفين وراءها.
على تيتيه أن تراجع نفسها، قبل أن تعود من ذات الطريق التي عاد منها سابقوها.. دون أن تُحقق شيئا غير الخيبة والفشل والعجز، تلك المفردات التي باتت شعار الأمم المتحدة في ليبيا.