أوجه المرأة التونسية في 'قطرة' وثائقية من الشعر الشعبي

المخرج يونس بن حجرية يتحدث في هذا الحوار عن توثيقه لمسار حافل لأهم الغناية في الثراث التونسي ويكشف أهمية حضور النساء في أبيات الشعراء.

الرباط - يروي الفيلم الوثائقي الطويل "القطرة"، للمخرج التونسي يونس بن حجرية، قصة تغيب المرأة عن الإطار الزمني للأحداث المصورة، بينما تظل هي الموضوع الأساسي ومحور كلمات الأغاني، إذ يسعى العمل إلى الحفاظ على ذاكرة شعبية تونسية تتجه نحو الضياع، من خلال توثيق فن شعر الملحون في مدن الساحل التونسي، في قلب التراث الشعري منذ الثلاثينيات من القرن الماضي، إذ يبرز الأديب والشاعر المكني محمد خضر جديرة كالأب الروحي لفناني وعشاق هذا النوع من الغناء.

ويعرض الفيلم في الدورة العاشرة لمهرجان الإمارات للأفلام، ويشارك حاليا في المسابقة الرسمية لمهرجان مسقط السينمائي الدولي الذي يقام في الفترة بين 3 إلى 8 آذار/ مارس 2024.

وفي هذا السياق قامت "ميدل إيست أونلاين" بحوار مع المخرج التونسي يونس بن حجرية حول كواليس تصوير فيلمه الوثائقي الطويل "القطرة"، وفيما يلي نص الحوار:

كيف تمكّنت من جمع وتوثيق قصص النساء رغم تغييبهن في الإطار الفيلمي؟

في الحقيقة لم يتم جمع قصص النساء بقدر ما يمثّل الجمع والتحقيق والتمعّن في الصّور الشعريّة التي كُتبتْ عن المرأة حينها، فهي قصص مستوحاة من أحداث واقعيّة صارت في فترات مختلفة من تاريخ هذا الفن، وقد حفظها شعراء شعبيّون في ذاكراتهم لأن هذا النوع من الشّعر لا يُكتب إنما يُحفظ خوفا من سرقته، لهذا تجد في نهاية كل غَنّاية الشعر الملحون ما يعبّر عنه بالقفلة، أي يذكر اسم الشاعر حتى وان كان هو صاحبها، فإن لم يذكر يُتهم بالسّرقة، إذ أن لهذا الفن قوانينه التي تضبط طُرق تدوينه وأغراضه المتفق عليها منذ قرون.

ما هي القصص الشخصيّة أو اللحظات التي لفتت انتباهك أثناء توثيق فن الإدبة في مدن الساحل التونسي؟

لا أتذكر الفترة التي بدأ فيها اهتمامي بالأدب الشعبي وفن الغنّايَة، لأني وجدت نفسي مهيأً منذ أن بدأت أتلمس طريقي في الحياة مع جدتي عندنا كانت تُنصِت لاغاني الأديب جديرة، والحبيب اللمطي، وبرايك السعفي، كذلك جارنا حمدة الذي كان يرشق الزهور أمام محلّه وينثر الياسمين في الطريق ويضع الكاسات بصوت عالٍ أغاني أم كلثوم، أو "يا ريم هائم حوّاس على جالك يا بنت الناس" لحبيب اللمطي أو "يا وشّام وِكيلك ربي ما تغرّق الجراح في عيشة محبوبة قلبي مولات الضّباح" للأديب برايك السّعفي، كُنت اتمايل مع اللحن ولكن لم أكن أفهم تلك الكلمات، وبعد سنوات انتبهت لهذا الفن وصرت مستمعا واعيا مهتما بهذه القصائد التي تتغنى بالمرأة والتي يزخر بها محيطي بالساحل التونسي وبمدينة المكنين خصوصا.

كيف نجحت في إيصال أهمية الحفاظ على التراث الشعبي من خلال فن الإدبة في الفيلم؟

من خلال مبدأ "سجّل فان التاريخ يمر"، اتخذت من السينما ركيزة لحفظ هذا التراث الشعبي الذي في طريقه الى الإندثار ليصبح في يوم ما "الڨُطرة" هو نفسه تاريخ، لأن كل فيلم عن التاريخ هو تاريخ، فقد صار الفيلم مرجعا يعود إليه الطلبة والباحثون في ميدان الغناء والشعر، وصار جزءا من مهرجان أيام سينمكنة للأفلام الشعرية.

ومع هذا الفيلم كانت رحلتي طويلة منذ سنوات بين البحث ومجالستي للشعراء والأدباء الشعبيين ومُحبّي هذا الفن في المهرجانات والحفلات واللقاءات الخاصة والاجتماعات بفضل فيلم "الڨُطرة" واحتكاكي بمؤرخ الشعر الشعبي محمد الجلاصي الذي يمثّل ذاكرة لهذا الفن، وبعض من أصدقاء الأديب جديرة مثل محمد الغضاب، وشكري عثمان المخز، وعبد الله الطيب الذي توفته المنيّة منذ يومين عن سن تناهز المائة، وقد ساعدوني في التعّرف إلى القصائد والأغاني التي ضاعت كلماتها عبر الزمن لأنها غير مدونة.

ماهي العوامل التي تعتقد أنها ساهمت في إثراء تجربتك الإخراجية لهذا الفيلم الوثائقي؟

هي مجموعة من الرؤى، فالرُّؤيَة السِّينِمائِيَّة هي وجهة نظر يتبناها المخرج في إدراكه الخاص للعالم، لهذا كانت رؤيتنا مرتبطة كثيرا بالشعر، فـلا أعرف شيئا سوى أنّ الشعر يستطيع ان يفعل هذا،  كما قال المخرج الإيراني عباس كيارستامي، وهنا نحكي عن الصورة الشعريّة، فالرؤية الإخراجية تُبنى من خلال عين جمالية، فنية، إيديولوجيّة،  فكريّة، وفلسفيّة، فالقصيدة وفن الغنّاية مثلت إثراء للتجربة ومغزى للصورة.

هل واجهت تحديات في تسليط الضوء على فنانين وعشّاق فن الإدبة داخل السّياق الثّقافي التّونسي؟

كان التحدي الأكبر هو نسج رؤية للفيلم تتماهى مع رؤية الأديب وكلمات الشاعر، فكان أولها المحافظة على مصداقيّة هذا الأثر بالتركيز على دقة الأغراض وطريقة الإلقاء وحيثيّات السّهرة ورمزية غياب المرأة وحمل السّلاح ورقصة البارديّة ووقفة السّعفة والدّخان المتصاعد من القرابيلة والبنادق، كلها صور شعريّة غزيرة نسمعها ونراها، لهذا  كان تركيزنا على غرض من أغراض هذه البحور وتحديد أهداف هذا النّسيج حتى يبقى مرجعا للتّاريخ فارتأينا الاشتغال على شعر الغزل الأخضر، كما أن إطلاق النار من قبل الباردية يعدُّ فعلا خطيرا وتحدي رغم قيمته الرمزية، والشحنة التي يُضْفِيها للشعراء والإدبة الشعبين وللحضور، وقد تتبعها في بعض الأحيان زغاريد بعض النساء التي لا نراها ولا نعلم من أي زاوية تخرج.

كيف تمكّنت من تحقيق توازن بين التركيز على الشّاعر محمد خضر جديرة وعلى الفنانين الحاليين في الفيلم؟

خلق التوازن بين عالمين أمر مهم بالنسبة لي، لأن أغلب أفلامي تسبح بين العالم المرئي واللامرئي، وآخرها "صوفيزم" وفيلم "الهورلا" وفيلم "الطريق إلى كيراستامي" إلى أن نصل إلى فيلم "الڨُطرة"، إذ أنه حتّم عليّا فهم الأوزان الشعبيّة وما فيها من ثراء وتنوّع حتى نخلق نسقا للفيلم ونسيجا بين الكلمة والمعنى والصورة، وبين الصورة الشعريّة وشعريّة الصورة وبين الشاعر والأديب.

هل كان لديك أي تحديات خاصة أثناء توثيق تطور فن الإدبة على مرّ السنوات؟

كل عمل فني أو سينمائي يحمل الكثير من التحديات قبل وخلال فترة الإخراج، ولكن تغمرني لحظات سعادة لا توصف حين أرى الإبتسامة على وجوه الشُّعراء والادبة أمام نافذة فيلم " الڨُطرة "، أحدهم يدندن مع نفسه والآخر يتمايل وكأنه لأول مرة يستمع للغنايّة ومنهم من يضحك كثيرا لمّا اكتشف أننا كنّا نصوّره معتقدا أن الكاميرات كانت متوقفة عن التسجيل حينها، فهذه ردود أفعال مختلفة حفّزتني على مواصلة الاشتغال على مثل هذه المواضيع خاصة، كما ذكرنا سابقا  أن التاريخ يستمر، فدع الكاميرا تُسجّل وتَعبر إلى عمل آخر.

كيف أستجاب الجمهور لرؤيتك الفنيّة حول حفظ هذه الذاكرة الشعبية التي في طريقها إلى الاندثار؟

في هذا الفيلم قمنا بالاختزال وتفادي بعض القصائد التي تَغنَّى بها جديرة والإدبة في عصرنا هذا، ولكن مازلت تُمثل إشكالا بالنّسبة لبعض الأهالي التي تغنى بإحدى نسائها، فخلال التصوير والحفاظ على هذه الذاكرة الشعبية التي في طريقها إلى الإندثار، اكتشفت شخصيّة تقف خلف أغلب حفلات الأدب الشعبي "الغنايّة"، وتحافظ على هذا الإرث منذ عدة سنوات، فقد لعبت هذه الشخصية دورا مهما في أحداث الفيلم ولمسنا من خلالها قيمته الفنية، إذ تابعنا شخصيّة الشاعر"شكري أمخر عثمان"  فوجدناها هي الأكثر شغفا وعشقا لهذا الفن، فهو لا يفارق الغنايّة ولا يغيب عن أي سهرة في أي مكان في تونس، فيكون أول  الحاضرين وآخر المغادرين، له أرشيف من التسجيلات النادرة لاغاني وفنانين رحلوا.

هل كان لديك أي مفاجآت أثناء عملك على الفيلم، سواء في مجال الإنتاج أو التوثيق؟

تكمن خطورة السهرة خلال فترات غناء الصّالحي التي يُطلق فيها البارديّة البارود (الكسكسي، الخراطيش) تنطلق شظايا أحيانا تتسبب في تشوه لأحد الحاضرين وأحيانا تؤدي بحياته أو بحياة صاحب السلاح وقد أُصِبت في إحدى السّهرات ولكن أكملنا التصوير في سكرة الأغاني والبحث في معنى المقاصد، فلم أنتبه إلا في آخر الليل والدم يسيل من رجلي، كما مُنع أصحاب القربيلة والبنادق في بعض السهرات لِما تمثّله من خطر ولكنها تبقى من نواميس فن الإدبة، إطلاق البارود والتخمّر حتى الثمالة عبر كلمات الأغاني  والحان الحناجر وهذا ما يميزها عن بقية الحفلات الأخرى.

ما هي الرسالة الرئيسيّة التي تأمل في نقلها من خلال هذا الفيلم الوثائقي حول فن الإدبة وحفظ التراث؟

الرسائل عديدة منها ما هو مقصود ومنها ما هو مقروء من قبل المشاهد ولم يقصده المخرج، وهو الذي يرى ما لا يراه المخرج أحيانا، يقول السيميائي رولان بارث: أن للعمل الفنّي ثلاثة مقاصد؛ الأول وهو ما يقصده الفنان والثاني ما يحمله العمل الفني والثالث ما يقرؤه المتلقي"، فمن بين أهم أهداف الفيلم هو المحافظة على إرث عملاق في طريقه الى الإندثار، منذ سبع سنوات ونحن نوثّق سهرات واجتماعات مجموعة "الڨُطرة"وحفلات "الغنّاية" كما يُطلق عليها الإدبة.