ابن خميس، مؤرّخ اليَمَامة وأديبها

مؤلفات الراحل عبدالله بن خميس تقع تحت مظلة 'الكتابة الموسوعية الجامعة' والتي تحمل متونها الأصول والشواهد والبراهين والمعاني في كُتلة واحدة صنع لها قواسم مشتركة لا يمكن تفتيتها أو تقطيعها.

اعتادت الأمم العظيمة أن تُفاخر بمبدعيها، وتُبرز وَرَثة بيانها ونهضتها المعرفية والعلمية، وأن تزهو بأعلامها من حملة مشاعل البيان والكلمة والعطاء الأدبي والفكري والتاريخي، فأوجدت لهم خدمات خاصة تُشير إلى عالمهم الثقافي الخاص، كما أسست لهم أندية ومؤسسات تحمل أسماءهم، وترفع رفرفة أعلام معانيهم التي سطّروها طيلة حياتهم الممتدة بين المقروء والمكتوب، تلك عقول استثنائية سقت بينابيع أفكارها حقول الجمال المتنوعة، وأجزلت بسخاء أقلامها صفحات استحالت مرجعيات شاهقة ومشارب عذبة للباحثين عن ضياء العلم المُراد، ووسيلة للمثقفين لتعميق وَعْيهم الخاص، ومكسباً ثميناً بيد طالبي المعرفة والمتحقّيين من خبرٍ أو معلومة أو إشارة، كما أثّثت تلك العقول بيت الثقافة المحلي والعربي الواسعين بمؤلفات عالية الكعب، وغنية على المستوى التاريخي والعلمي والأدبي، وحققت بها مراتب رفيعة في القصر الكبير لعلوم العربية.

أنجبت بلادنا الغنية رموزاً في شتى الميادين، وعبدالله بن محمد بن خميس ـ رحمه الله ـ أحد هذه الرموز الثقافية الكبيرة، فهو صاحب قلم بارٌّ بالأهل والبلد، وفكر جادّ في إثراء المواد التي شكلت كنوز آثاره ومؤلفاته، حيث قدّم أعمالاً ثريّة كثيرة كبيرة غير مسبوقة ولا مطروقة ولا مُقلِّدة ولا مُتأثّرة، وأروى مجالات معرفية مُهمة مُتنوعة الأغـــــراض،  ومُتفرعة المقاصد، وأترع كؤوس فنون القول قصصاً وأشعاراً وأنثاراً وأخباراً، خاصة اهتمامه البارز بأدب وتاريخ الجزيرة العربية، وأُشير بشكل خاص إلى الأعمال التي حفرت عميقاً في تاريخ وجغرافيا إقليم اليمامة، وكشفت عن بهيّ كنوزه وثقيل ثرواته، الإقليم الذي لم يأخذ حقه وأهميته من الكتابة التاريخية والتحليلية فيما مضى، ولم يكن هدفاً للإشارات المرجعية في الثقافة العربية حتى نهاية العصر العباسي وربما أبعد، ولم يُعطَ حَقّهُ الأدبي الخاص والاجتماعي المختلف من ناحية تسليط الضوء على رموزه من رؤوس البلاغة والأدب والأمارة والقيادة وغيرها.

إلى وقت قريب لم يُعرف عن إقليم اليمامة إلا الموروث الشفويّ والماديّ، ونُتفاً كثيرة متشابهة أوردتها كتب الرحلات ومجلدات التاريخ المسطور بأقلام أبناء من غير أبناء اليمامة ممن عنوا بالمرويات والتراث الإخباري العربي، حتى برز عبدالله بن خميس وهو ابن الإقليم والعارف بتضاريسه ومعالمه، وشواهده، وأنساب أهله، وأعلامه من القبائل والعائلات من أهل الأمارة والقيادة والشعر والرواية، فاقتطع عُمراً ليس بالقصير ليُبهرنا بأعمال أُشير إلى أبرزها وهو معجم اليمامة، والذي جاء في جزأين جَمَعَا كل ما في اليمامة من قُرى وتضاريس وأودية وهضاب ورمال عُزّزت شروحها بالشواهد من الأشعار الفصيحة وشقيقتها العاميّة، تلاه عمله الكبير في معناه ومبناه (تاريخ اليمامة) والواقع في سبعة مجلدات كبيرة، والملحق بعنوانه الفرعي (مغاني الديار ولما لها من أخبار وآثار)، حيث أودع فيه كل ما تعلق باليمامة من أحداث شُهودها المعالم والأسماء، والمعارف، والقصص، والتفرّعات الدقيقة لروابط قبليّة وعائليّة وإقليميّة، وتنوّع في ثياب الأعراف والتقاليد كافّة، والتي حفظتها أصالة الموروث النقي، فتراه كالمحيط العميق الذي حوى ما لا تظن، وفاجأك بما فاتك مما يخص إقليم اليمامة.

أستطيع القول أن مؤلفات عبدالله بن خميس رحمه الله تقع تحت مظلة "الكتابة الموسوعية الجامعة" والتي تحمل متونها الأصول والشواهد والبراهين والمعاني  في كُتلة واحدة صنع لها قواسم مشتركة لا يمكن تفتيتها أو تقطيعها، وكأنها ولدت على الصفحات العريضة كنفسٍ واحدة، وهذا التنوع المعرفي الكبير الذي اتسمت به أغلب مؤلفاته ومن كان من جيله رحمهم الله، تنوع لا يمكن وضعه في خانة واحدة، فالداخل إلى عالم مؤلفاته الثريّ، كالداخل إلى بساتين كثيرة الألوان، وواسعة الجمال، ومُتغيرة الأثواب كل يوم، ومُتجددة الأغصان والأوراق كل مَرّة، وجارية الأنهار العِذَاب، ومُتداخلة الإبهار والجاذبية كإبهار الشمس في نهار ربيعيّ.

إن الميادين التي سارت فيها قوافل أفكاره وبيانه ومعانيه؛ هي مشروعات ثقافية ضخمة تجاوزت ما هو تاريخي وأدبي وجغرافي واجتماعي، وصارت الدليل المعتمد، والحُجّة المرفوعة، ولا أنسى كيف أعاد رحمه الله مكانة الأدب الشعبي في قلوب مُحبّيه بعد أن كادت تخفت جاذبيته في النفوس، في مرحلة كرّست بعض الأصوات التنقيص من قيمته وتهميشه والدعوة إلى معاداته تحت ذريعة الحفاظ على اللغة العربية، فكان من ابن خميس أن غَيّر بوصلة الثقافة المحلية إلى فتحٍ جديد للأدب الشعبي غَذّاه بمؤلفات أبرزها شوارده ــ الشّوارد ــ بأجزائها الثلاثة التي جاءت مُبرهنة على أنّ الأدب الشعبي صنو الفصيح  وسليل أصيل للأدب الجاهلي، ومُؤكداً خطورة تجاهله أو الإعراض عنه مُبرزاً كيف أن هذا اللون من الأدب مستودع للتاريخ الخاص بالمنطقة، وحافظ الأنساب، وخزانة العادات والتقاليد، وديوان الأشعار، وسجل الأخبار، والشاهد الحيّ الحاضر على مئات الوقائع الشهيرة الراسخة في الذاكرة الشعبية، والتي لم تُدوّن في متون التاريخ، وهذا غيض من فيض المعاجم والدواوين الشعرية، وإسهاماته الثقافية في نواحٍ أخرى.