الأراجوز يبعث الحياة في لوركا

عرض "الأراجوز في خطر" حقق الهدف المرجو منه بفرض حالة التفكيك ودفع المتلقين إلى السؤال وهو هدف أصيل في مسرح الأراجوز.
مهرجان الأراجوز يكرم أبوالسعود الإبياري وأحمد الإبياري ونجوى عانوس وسيد حجاب
"دمى الهراوة" جاء في إطار تصوير قصة حياة لوركا في فيلم وثائقي

انطلق مهرجان الأراجوز في دورته الثانية والذي جاء تحت عنوان "الأراجوز ملهما" مكرما اسم المسرحي الرائد أبو السعود الإبياري لما قدمه للمسرح والفن والإنسانية من قيم جمالية وإبداعية، وتكريم أحمد الإبياري لتجربته المسرحية كمؤلف ومخرج ومنتج مسرحي ساهم في إثراء الحركة المسرحية لما يزيد على أربعين عاماَ. وأيضا تكريم أستاذة النقد المسرحي بكلية الآداب جامعة الزقازيق أ.د.نجوى عانوس التي قدمت للمكتبة المسرحية العربية ما يزيد على عشرين مؤلفاً في المسرح جلها ارتكز على الحفاظ على ذاكرة المسرح والفن لقرابة ما يزيد على نصف قرن. 
وافتُتح التكريم بكلمة مؤسس المهرجان أستاذ علوم المسرح د.نبيل بهجت الذي أشاد فيها بالتراث الذي تركه أبو السعود الإبياري كنموذج يحتذى به في الكتابة والإبداع والفن، مؤكدا على أن الاهتمام بالنماذج الرائدة هو أحد أهم ركائز نهضة الوطن. وتحدث الكاتب والمخرج المسرحي أحمد الإبياري عن حياة والده أبو السعود الإبياري الذي ولد عام 1910 وتوفي عام 1969 وترك زاداً فنياً في المسرح والسينما والأغنية المصرية، وكيف ساهم في تشكيل وجدان الشعب المصري لعقود مختلفة. 
وتحدث الإبياري عن بدايات والده وكيف كانت الكتابة الزجلية هي مدخله لعالم الفن والإبداع. وتحدثت د.نجوى عانوس عن كيف خرج الإبياري من عباءة بديع خيري وكيف تفوق عليه في بعض الجوانب وتطرقا إلى تجربته المسرحية للكتابة لمسرح الصالات ثم انقطاعه للسينما في أربعينيات القرن الماضي، حيث يمكن اعتباره أحد أبرز المؤسسين لفن كتابة السيناريو في مصر. ثم تحدثا عن تجربته مع إسماعيل ياسين والتي بدأت عام 1954 وانتهت في عام 1966، وأعقب تلك المداخلات قراءة لنص "أراجوز وفكرة ومؤلف" وقدم القراءة الفنان محمود سيد حنفي ثم أعقب القراءة تقديم عروض المهرجان والتي شاهدت تفاعلا كبيرا من الجمهور، حيث تناولت بعض الموضوعات والقضايا التي تمسّ أشكال الحياة اليومية الحديثة. كما أعلن الإبياري عن إنتاجه لعرضٍ مسرحي يتناول شخصية الأراجوز إسهاما منه في دفع وتطوير والحفاظ على هذا الفنّ.
أراجوز سيد حجاب
وافتتح اليوم الثاني للمهرجان بتكريم اسم الشاعر الراحل سيد حجاب، حيث بدأ حفل التكريم بإهداء درع باسم سيد حجاب إلى ابنته الفنانة ريم حجاب، بالإضافة إلى درع خاص لها. وألقت حجاب بأدائها المميز قصيدة والدها الشهيرة عن الأراجوز" التي يقول فيها:

أراجوز.. أراجوز.. إنما فنان
فنان.. أيوه.. إنما أراجوز
ويجوز يا زمان أنا كنت زمان
غاوي الأرجزة طياري.. يجوز
إنما لما الكيف بقى إدمان
باجي أبص لشيء واحد أرى.. جوز
أرى إيه؟ أرى إيه؟ أرى أرى أراجوز
***
فلسان.. كحيان.. أيوه أنا فلسان
إنما برضك.. راجل إنسان
بأضرب بالألف لسان ولساند
وباكلها بعرقي.. ومش إحسان
راجل والرجولية لا عضلات
ولا ألابندة وسيما وحركات
الرجولية الحقيقية ثبات
قدام جبونية أي جبان.
وتحدثت ريم حجاب عن تجربة والدها الشعرية وكيف استطاع أن يصل بقيمه ومعانيه العميقة عن الحياة والإنسان للعامة، وألقت الضوء على طريقة استخدامه للغة وتوليد المعاني من المفردات، حيث استطاع سيد حجاب أن يطرح معاني جديدة للمفردات المألوفة. 
وأكد د.نبيل بهجت ما أشارت إليه حيث أشار إلى طريقة بنية القصيدة لدى الشاعر وأن فيها جانبا من إدراكه لفلسفة اللغة واستنباط المعاني الجديدة التي ربما تكون أمام أعيننا ولكننا لا نراها، وفي ذلك تكمن عبقريته الشعرية، وكأنه يصنع بناء هندسيا بسيطا ومنتظما وسهلا وممتنعا حيث يظن كل من يسمعه أنه يستطيع أن يكتب مثله فيتبنى قصيدته، إلا أن الحقيقة أن سيد حجاب يتقمص لسان الشعب ليصبح هو الشعب، يحمل قضاياهم وهمومهم وأحلامهم وأوجاعهم ويعلمهم من رؤيته. 
وعن القصيدة الأراجوز أشار بهجت إلى أن سيد حجاب جعل من الأراجوز رمزا لمواجهة الفساد واستعادة الأرض والوطن إلا أن ذلك لن يحدث إلا باستعادة الوعي. ووقفت القصيدة على أنماط التلون الاجتماعي والسياسي إلا أنه انطلق من الأنا الشعرية المتمثلة في ضمير المتكلم "أنا"، والتي تشكل النص الشعري في القصيدة من خلالها ليعبّر من خلال الأنا عن الكلّ.
 وأوضح أن حجاب جعل من الأراجوز داخل القصيدة بطلا يدافع عن الأرض والمال والعرض، وهي الدوافع الكبرى التي تتحرك نحوها الأفعال داخل القصيدة "يضرب\ أحمي \أشك \أدوس \أغني \أضحك \أراعيكي \أشيلك" ليصبح الأراجوز في القصيدة رمزا للوطنية والشجاعة والمقاومة والثبات، ويطرح عددا من المفاهيم التي تشكل الوعي وتمثل مرتكزات القيم عند الشاعر، التي هي: الرجولة ثبات، الشجاعة، التفكير، رفض السلبية، التغيير باللسان وباليد، ليصبح الأراجوز لديه حالة من الوعي المتكامل بالواجبات تجاه الوطن ولحماية الضعفاء وتحقيق العدالة. حيث ارتبط صوت الأراجوز في القصيدة بالذات الشعرية فأصبح رمزا للوعي والمواجهة من خلال أدواته لسانه وعصاه في إشارة لضرورة القول والفعل في تغيير الواقع نحو الأفضل وتحقيق العدالة ومواجهة الفاسدين، ومعاقبتهم بشكل فوري ومباشر لتحقيق مفاهيم العدالة الناجزة. 
وأعقب التكريم وجلسة النقاش عرض نمرة "أراجوز التيك أواي" إخراج الفنان محمود حنفي وعرض "أراجوز بلاد الأساطير" تأليف وإخراج د.نبيل بهجت. وشهد العرض حالة من التفاعل والمشاركة بين الجمهور والممثلين تحقق من خلالها مفاهيم عروض الفرجة الشعبية. 
خطاب لوركا الأخير
بالتعاون مع معهد ثربانتس قدمت فرقة ومضة عرض خطاب لوركا الأخير "لوركا والأراجوز" إعداد وإخراج دكتور نبيل بهجت، واستلهم العرض مسرحية "دمى الهراوة" الذي كتبه لوركا في صغره، والذي تأثر فيه بعروض الدمى الشعبية في أسبانيا والتي كانت تدور حول الشخصية الأشهر "كريستوبال"، وتتحرك تماما بالعصى وتحل مشاكلها به مثل ما يفعل الأراجوز المصري. 
وجاء العرض في إطار تصوير قصة حياة لوركا في فيلم وثائقي بدأ وانتهى منذ اللحظة الأخيرة في حياته، وهي لحظة موته التي لا نعلم عنها شيئا، سبقها عرض حركي بالعرائس التي تركها وحيدة، وكأنها تستدعي ذكرياته معها من خلال صور حياته التي تعرض أمامنا على شاشة، ليحضر لوركا روحا في القاعة.

وبدأ العرض بمقطع شعري للوركا والتي يتنبأ فيه بموته واختفاء جثته "وعلمت أنني قُتلت، وبحثوا عن جثتي في المقاهي والمدافن والكنائس، فتحوا البراميل والخزائن، سرقوا ثلاث جثث، نزعوا أسنانها الذهبية، لكنهم لم يجدوني قط". هذا المفتتح لخص العرض لحظة النهاية لحياة لوركا كما قدمها هو، ويقطع انسياب الأداء صوت المخرج الذي يمثل السلطة، ليقهر كل من على خشبة العرض والصالة، لينقلنا إلى المشهد الثاني حيث نرى لوركا جسدا يتحرك بين الجمهور ليعرض لنا جزءا من أفكاره، معلقا على حياته: "أسير منذ بدايتي نحو النهاية لأنني رفضت – أنا ما حملت سلاحاً، فقط أنا ما سكتّ". ويبدأ حوار بين لوركا وقاتله الذي يكيل له الاتهامات التي بسببها أطلق عليه الرصاص، ليلخص لوركا وعيه عن نفسه مدافعا عن كل هذه الاتهامات، "أنا الغجري المورسكيّ الأندلسي الأسباني – أنا الإنسان".
ومن خلال الفلاش باك نرى جزءا من طفولة لوركا وعروض عرائسه حيث تُعرض مسرحية "دمى الهراوة"، ولكن بشكل مكثّف حيث تم اختصار عدد كبير من مشاهدها في سبيل التركيز على الحدث الرئيسي، والذي يدور حول زواج روسيتا من كوكوليتشي، وكيف أن كريستوبال يريد أن يستحوذ عليها. 
ولا ينسى العرض أن يلمح إلى اهتمام لوركا بالمرأة كرمز، كما قدمها في مسرحيتي "يرما" و"عرس الدم" ليكشف لنا العرض وعيه بالمرأة كمعادل موضوعي للحرية والوطن. ويستمر صوت المخرج الذي يقهر ممثليه ليفسد عليهم انسجامهم في عرض العرائس وينقلنا إلى مشهد قتل لوركا مرة أخرى، حيث نراه ظلا من خلال "السلويت" في مواجهة ظل الجندي الذي يشهر في وجهه السلاح، مكيلا له الاتهامات ليعلن لوركا في نهاية العرض "وعلمت أن قصيدتي صليبي وأغنيتي رثائي ولوحتي قبري" ليختفي في الفضاء ويبحث عنه الجندي فلا يجده مرددا: أين ذهب؟.. ليأتي صوت لوركا "أنا في أغاني الغجر والرحّل والمقهورين، في صفحات الكتب المنسية – أنا هنا، أنا في كل مكان". ليجعل العرض منه رمزا حيا للمقاومة في كل مكان. 
وقُدّم العرض من خلال الدمى المصرية التراثية حيث يرجع عمر بعضها إلى ستين عاما، وكانت تلك رغبة المستشار الثقافي الأسباني خابير لريس، ليمزج بين الثقافتين المصرية والاسبانية. وأشاد بالعرض الذي أعاد لوركا للحياة وأوجده بالقاهرة ليعرض لنا حياته وجزءأ من طفولته. 
وأكد د.نبيل بهجت في نهاية العرض أن العرض ثمرة تعاون مشترك مع معهد ثربانتس في إطار بناء جسور التواصل بين الثقافتين المصرية والاسبانية. وقُدم العرض في ثالث أيام مهرجان الأراجوز المصري، وسيتم برمجته لاحقا ضمن عدد من الأنشطة الثقافية المشتركة بين فرقة ومضة ومعهد ثربانتس. وفي نهاية العرض تم الاحتفاء بشخصية لوركا كنموذج إنساني عابرٍ للحدود وداعٍ للعدالة وثقافة الحياة، حيث كان هو الشخصية المكرّمة في ثالث أيام المهرجان.
أراجوز فؤاد حداد
وفي رابع أيام المهرجان تم تكريم اسم الشاعر فؤاد حداد الذي قدم تجربته مع الأراجوز في ديوانين الأول "الأراجوز يضرب على الوجيعة ويلاقي على الطبطبة" عامية، والثاني "لسْتْ الأراجوز" فصحى. وكذلك تم تكريم ابنه أمين حداد لإبداعه الشعري المتميز والذي تحدث عن والده وعن تجربة كتابة الديوان التي بدأت في المعتقل من 1959 وحتى 1964 وكيف امتزج أسلوب الكتابة لديه بوعي الرفض والاحتجاج حيث غلب على الديوان الأول صوت النقد لما هو سائد من سياسي ونخبوي ورسمي والتزم الأراجوز كصوت جاء من الهامش ليحطم هيبة المركز. أما عن ديوان "لست الأراجوز" والذي نشر بعد وفاته فقد غلبت عليه الفلسفة والحكمة. 
وألقى الشاعر أمين حداد قصيدة  والد الأراجوز "أنا عندي ياولاد الحلال حدوتة، أنا والدي هو اللي عاشها.. ولا حد قبلي نقشها في خبر ولا مخطوط.. كان والدي بالطبع زيي أراجوز ولكن حزايني...". 
وعلق د.نبيل بهجت على تجربة فؤاد حداد مع الأراجوز حيث قال "اتخد حداد من قصائده منصة للدفاع عن هموم الهامش، وأعاد الاعتبار للشعب وفنونه حيث استلهم أنماطاً إبداعية كثيرة مثل السيرة الهلالية والأدباتية وخيال الظل والحواديت والألغاز والقافية في قصائده المتنوعة، مدافعا عن ثقافة الشعب ومعرضاً بالنخب التي وضعت تصوراتٍ للفنّ تختلف عن التصورات الشعبية. ويطرح حداد الأراجوز كمصدر للمعرفة مؤكدا على حكمته التي شكلها وعيه التراكميّ معرضاً بالنخبة أيضاً".
وأضاف "كشفت قصيدة "والد الأراجوز" وعي المقاومة داخل الأجيال حيث تحمل القصيدة صوت الوالد والابن الراوي والحفيد المحكي له، في محاولة لكشف ميراث المقاومة عبر الأجيال. حيث اتخذ الأراجوز الأب مواقفه داخل القصيدة ليجعل التغيير واقع بعدم التواطأ مع السلطة ضد الوعي، ولتخلّد تلك القصيدة تصوراً عن صوت الوعي داخل الأراجوز الذي ربما يؤدي به وعيه إلى أن يُقتل أو يقتل نفسه في مواجهة السلطة. 
وأعقب العرض مسرحية "الأراجوز في خطر" والذي اعتمد على الأسلوب الملحمي في الإخراج حيث تفكيك المشاهد والمناظر في عدم وجود بنية مسرحية متماسكة لكسر إيهام الحائط الرابع وكسر حالة التلقي المنسجم لدى الجمهور وخلق القلق المحرّض لرفض العرض، وحالة التلقي السلبية التي يفرضها عليهم الإيهام ودفعهم إلى طرح الأسئلة والتفكير وعدم الاستسلام لسلطة المخرج الذي يفرض ما يقول لأنه يمتلك منصة الأداء. وقد حقق العرض الهدف المرجو منه بفرض حالة التفكيك ودفع المتلقين إلى السؤال وهو هدف أصيل في مسرح الأراجوز.