الجريمة إسرائيلية ولكنها مُستلهمة من الخيال الأميركي

من فيتنام إلى العراق صنعت الولايات المتحدة تاريخا من عار لا يُنسى مع الزمن.

يوم 13 شباط/ فبراير 1991 القت طائرات أميركية قنابل فتاكة على ملجأ العامرية ببغداد الذي كان محصنا ضد القنابل العادية. لم تعتذر القوات الأميركية عما حدث، بل زعمت أن العملية كان تستهدف القيادة العراقية التي غادرت المكان قبل لحظات من الحادث الذي تبين فيما بعد أنه كان مقصودا لذاته. كانت هناك حاجة لترويع المدنيين بمجزرة ذهب ضحيتها ما يقارب الألف إنسان، جلهم من النساء والأطفال. فهل كانت الولايات المتحدة في حاجة إلى ذلك بعد أن نجحت قواتها في إخراج القوات العراقية من الكويت وتدمير الجزء الأكبر من الآلة العسكرية العراقية؟ لكن إذا ما عرفنا أن الطائرات الأميركية قد استمرت في حصد أرواح أفراد الجيش العراقي المنسحب من الكويت بعد وقف إطلاق النار على الطريق الذي سُمي "طريق الموت" يمكننا أن نتأكد من أن الحاجة إلى القتل المجاني هي جزء من العقيدة العسكرية الأميركية ومن فلسفة الحرب التي اتبعتها الولايات المتحدة بعد أن ارتكبت جريمتها المروعة في هيروشيما وناغازاكي.

من فيتنام إلى العراق صنعت الولايات المتحدة تاريخا من عار لا يُنسى مع الزمن. ففي عام 2004 استعملت القوات الأميركية في حربها ضد الفلوجة وهي مدينة عراقية صغيرة أعلن أهلها عن مقاومتهم للاحتلال الأميركي الفسفور الأبيض وهو سلاح محرم أدى استعماله إلى ولادة جيل من المشوهين والمعاقين بعد أن كان قد قتل من تعرضوا إليه بشكل مباشر. كانت تلك الجريمة واحدة من مئات الجرائم التي ارتكبتها القوات الأميركية في العراق ضاربة عرض الحائط قواعد وقوانين الحرب ومتناسية مسؤولية المحتل عن سلامة وأمن السكان المدنيين. كل تلك الجرائم هي في حقيقتها جرائم ضد الإنسانية، كان على محكمة العدل الدولية أن تجر المسؤولين عنها إلى السجن، ولكن جورج بوش ليس سلوبودان ميلوسيفيتش أو عمر البشير. وما محكمة العدل الدولية إلا صنيعة بيد الولايات المتحدة.

تلك هي الخلفية التاريخية والأخلاقية التي دفعت الرئيس جو بايدن إلى التصالح مع فكرة قيام إسرائيل بقصف مستشفى المعمداني في غزة الذي لم يكن تابعا لحركة حماس لتلحق بتلك الجريمة كذبة مفضوحة مفادها أن حركة الجهاد الإسلامي فشلت في عملية إطلاق صاروخ فوقع على تلك المستشفى. لم يكن منتظرا من الرئيس الأميركي وهو الذي زار إسرائيل معلنا تأييده لها واستعداد بلاده لتزويدها بما تحتاجه من سلاح بعد ارتكاب الجريمة أن يصمت على الأقل حزنا. لم يتوقف بايدن كثيرا عند الحدث الذي خطف حياة المئات من المرضى والأطباء وهو ما يمكن اعتباره سقوطا أخلاقيا قبل أن يكون سقوطا سياسيا. ومما لا يمكن التغافل عنه أن بايدن بتأييده للجريمة أضافها إلى قائمة الجرائم التي سبق للولايات المتحدة أن ارتكبتها في كل مكان مرت قواتها به.

ربما إزداد اعجابه بنتنياهو. وهو ما يصح على الزعماء الغربيين الذين كان ريشي سوناك، رئيس وزراء بريطانيا أولهم في الذهاب إلى إسرائيل في خطوة هي بمثابة إعلان حرب على سكان غزة المدنيين. وبالتزامن مع زيارة سوناك كان الزعماء الغربيون يتسابقون في إعلان تضامنهم مع الدولة العبرية التي تدافع عن نفسها في مواجهة الوحوش. أما حين أطلق وزير الدفاع الإسرائيلي لقب حيوانات على سكان غزة فما من دولة في العالم احتجت على تلك البذاءة التي تعبر عن إنهيار أخلاقي غير مسبوق. كل تلك المواقف كانت أشبه بشيك على بياض يمكن أن تتمادى إسرائيل من خلاله بجرائمها من غير أن يخضع عنفها لقواعد تحرم قتل المدنيين وبالأخص النساء والأطفال منهم.

كل شيء إذاً متاح أمام إسرائيل بإرادة دولية. فإن لم تقتل أهل غزة مباشرة فإنها تملك حق تشريدهم وتجويعهم وترويعهم وحرمانهم من أدنى أسباب الحياة من خلال محاصرتهم. ذلك ما يستدعي في الأوضاع الطبيعية وضع حد لمعاناة شعب لا ذنب له في ما يحصل ولكن الولايات المتحدة وهي التي تسيطر على المنظمات الدولية قد دخلت طرفا في الحرب وهو ما يعني أن أية محاولة لإنقاذ أهل غزة سيكون الفشل مصيرها. ولكن أين الصين؟ واين روسيا؟ لا شيء يمكن انتظاره منهما. لا لأن الأمور اختلطت عليهما، بل لأن المسألة تتعلق بإسرائيل التي يعرفان أن القيامة تقوم إذا ما تعرض أمنها للخطر. وقد لا يصحو العالم من غفلته إلا بعد أن يكون شعب غزة قد تعرض للإبادة التي تنعش آمال نتنياهو في البقاء في منصبه.