العراق بلد من غير هوية

العراق لم يعد موجودا إلا باعتباره مساحة جغرافية لا سيادة سياسية فيها وكتلة بشرية مضطربة تنتظر مصيرها.

منذ عشرين سنة ابتعد العراق عن محيطه العربي، لا بفعل قانونه العام حيث لا ينص دستوره الجديد على أنه دولة عربية حسب، بل بتأثير سياسات حكومته التي صارت تدفع به إلى الشاطئ الإيراني أيضا.

ولأن العراق لا يفكر بلغة واحدة فقد صار من الصعب عليه أن يبرز هويته بالرغم من أنه لا يزال عضوا في الجامعة العربية وهي العضوية التي أتاحت له إعاقة القرارات التي تتخذها تلك المؤسسة ضد التدخلات الإيرانية في الشأن العربي بما يؤثر سلبا على الأمن القومي العربي.

عراق اليوم لا ينتمي إلى نفسه ولا إلى تاريخه. ولو عدنا إلى مرحلة ما بعد الاحتلال لرأينا مجاميع من المثقفين العراقيين القادمين من أوروبا كانت تدعو إلى إحياء الهوية العرقية. وهو مصطلح أريد له أن يحل محل الهوية العربية.

كانت "الهوية العراقية" كذبة فلكلورية تمت إزاحتها بيسر وبسرعة. لا لأن هناك هوية أخرى جاهزة قد تم التخطيط لتحل محلها. فمشروع الاحتلال الأميركي الذي ساهمت فيه إيران فيه منذ البدء يقوم على أساس إفراغ العراق من محتوى هويته العربية. أن لايكون العراق دولة عربية. ذلك واحد من أهم أهداف الغزو الأميركي وما تلاه من غزو إيراني.

جوهريا كانت مصر دائما قلب العالم العربي وكان العراق هو ضمانه أمنه الإقليمي. فلا دولة مثل إيران تهدد استقرار العالم العربي وأمنه. وقف العراق أمام الأطماع الإيرانية وليست حرب الثمان سنوات سوى دليل صارخ على ذلك. كان العراق هو البوابة الشرقية للعالم لعربي. حين سقطت تلك البوابة أُستبيح العالم العربي.

من المؤكد أن انتزاع الهوية العربية من العراق هو الجزء الأكثر أهمية بالنسبة للأميركان وهم يعيدون رسم الخريطة السياسية للشرق الأوسط باعتبارها (أي الخريطة) قاعدة لصنع ميزان قوى جديد، تم استبعاد العرب منه. فالعرب من غير العراق يفقدون واحدا من أهم صمامات أمنهم القومي وبالأخص إذا كان العراق واقعا تحت الهيمنة الإيرانية.

في كل الأحوال فإن عزل العراق عن محيطه العربي يحقق غايتين مثلتا جوهر المشروع الأميركي. الأولى دفع العراق ثمنها حين فقد الجدار العربي الذي يستند عليه والثانية تمثلت في ما فقده العرب حين سقطت بوابتهم الشرقية التي كانت تقف بينهم وبين فارس.

أما حين استولت الميليشيات الإيرانية على القرار السياسي في بغداد فإن العراق تحول إلى جبهة أمامية إيرانية في مواجهة العرب. وهو ما لم يعترض عليه الأميركان الذين صنعوا كل شيء ولا يزال في أيديهم كل شيء. وكل ما يُقال عن المقاومة الإسلامية التي تتصدى (للعدو الصهيوني) هو محض إفتراء يُراد منه التغطية على المهمة الحقيقية لتلك المليشيات التي صار تُعرف بـ"المقاومة الإسلامية".

في حقيقة ما تقوم به تكمن مهمة الميليشيات التابعة للحرس الثوري في الاستمرار في اختطاف العراق وتحويله إلى جبهة إيرانية في مواجهة العرب. أما الدور الذي تقوم به في إزعاج القوات الأميركية في قواعدها داخل لأراضي العراقية بين حين وآخر فإنه دور ثانوي يرتبط بحاجات إيرانية مؤقتة.

وإذا كانت الولايات المتحدة قد سحبت قواتها وأنهت صوريا احتلالها فلأنها كانت مطمئنة إلى أنه لن يعود عربيا. فالأحزاب التي كُلفت من قبل سلطة الاحتلال الأميركي بتصريف شؤون الدولة الهشة في العراق كانت وستظل في حاجة إلى حماية أجنبية من أجل استمرار النظام الذي هو عبارة عن غطاء لعمليات فساد نُظمت لسرقة ثروة العراقيين. ولأنها في حاجة إلى تلك الحماية فإنها ستنفذ ما هو مطلوب منها بسرعة وإتقان شديدين.

كان العرب دائما راغبين في استعادة العراق وإعادته إلى الحاضنة العربية غير أنهم كانوا محقين في عدم ثقتهم بكل المبادرات الشخصية التي قام بها هذا الزعيم الحزبي العراقي أو ذاك. فالمسألة هي أكبر من تلك المبادرات ومن حامليها. فالعراق الذي ضاع عن أهله كان قد ضاع في الوقت نفسه عن محيطه العربي. كان المطلوب أميركيا أن يكون العراق منزوع الهوية وهو في حقيقته بلد من غير إرادة وطنية وليس لدولته معنى سوى ذلك المعنى السكوني الذي يتم من خلاله تصريف شؤون الناس في أدنى مستوياتها.  

علينا هنا أن نعترف على مضض أن العراق الذي فقد هويته لم يعد موجودا إلا باعتباره مساحة جغرافية لا سيادة سياسية فيها وكتلة بشرية مضطربة تنتظر مصيرها من غير أن تملك سنتمتر واحد يتيح لها الحركة.