الفظيع بعيون نسوية في 'سيرتنا'

نصوص الكتاب تحتفي بالألم البشري وتكرمه من خلال الكتابة كفعالية إبداعية تحرر شغاف القلب من العذابات المكبوتة والأعماق النفسية المجروحة.

"سيرتنا" هو الكتاب الثالث من سلسلة الورشة التي أشرفت عليها ونسقت أعمالها الدكتورة إشراقة مصطفى حامد، ويمكن أن أقول الآن، كما أشرت إلى ذلك سابقا في قراءتي للكتاب الأول والثاني، على أن هؤلاء النساء أنجزن عملا عظيما يجسد الرسالة النبيلة التي من الضرورة أن تمثلها الكتابة الأدبية/السيرة بأوسع معانيها الفنية في احتضان الكثير من الصيغ والأساليب والأشكال التعبيرية الأدبية والفكرية، على مستوى الصنعة الإبداعية، والخلفيات المعرفية، المفعمة بالخبرة والتجربة الإنسانية والاجتماعية التاريخية.

تتأسس الكتابة في هذه الكتب الثلاثة بوصفها معنى حياة في وجه موت متعدد الوجوه والأساليب والأشكال، وأيضا باعتبارها أدوات وآليات استمرار معنى الوجود/الحياة، وحماية الذاكرة من نسيان الفظيع وخبرته، والبشاعة البشرية التي اجتافها واستبطنها الفرد والجماعة والمجتمع، وقد وصل تأثيرها الفظيع إلى الثقافة، وكل الأنظمة الرمزية التي وسع من خلالها الإنسان ذاكرة الكون.

تأتي هذه الورشات حسب فهمي لسيرورة تشكل وبناء معنى الشر والفظيع الذي خبرته هؤلاء النساء، لمنع طمس الذاكرة، أو التحايل على كتابة التاريخ الملموس، وأيضا من توثيق ما حدث حتى لا يتكرر ما جرى تحت ضوء الشمس، وعلى مرأى ومسمع من العالم المتقدم والديمقراطي الذي أعمته فظاعة مصالحه، وتنكر وتنازل عن الإنسان، فاتحا ممرات آمنة للفظاعة السائلة.

صحيح أن هناك الكثير من الأطر المعرفية والفلسفية، والأدوات والمفاهيم المنهجية الحديثة الغربية التي تتيح مقاربة هذه التجربة في الكتابة الإبداعية، أقصد هنا مثلا مقاربة السوسيولوجي زيجمونت باومان للشر في كتابه "الشر السائل"، أو من خلال طروحات وأفكار جورج باطاي في كتابه "الأدب والشر".

لكنني أفضل الاستناد على كتاب "الفظيع" للمفكر السوري ياسين الحاج صالح وهو كتاب أراه مرجعي، وله من الجدارة والكفاءة المعرفية والعلمية ما يساعدني في مقاربة هذا "الفظيع" الإبداعي الذي حاولت هؤلاء النساء تمثيله وتشخيصه، والتحرر من سطوته وثقله الرهيب، في شكل غير مألوف، وفقا لاشتغال جدلي تفاعلي يجمع بين التمثيل الفردي والجماعي، تبعا للعمل كفريق ممسوس بخيرة الفظيع، ليس في البلد الواحد، بل في البلدان ذات الأنظمة التبعية الشمولية القهرية، المسماة بدول الجنوب ومنها العربية والإسلامية.

فكتاب ياسين "الفظيع" يساعد كثيرا قارئ كتب هؤلاء النساء على مستوى الرؤية المعرفية والفكرية، والأدوات المنهجية التي يقترحها كمسالك للتعامل مع الفظيع، والعمل على تصريفه بطرق إيجابية تؤدي إلى التحكم في الخبرة والتجربة، وتملكها وعيا وممارسة، معرفيا وإبداعيا، في إعادة بناء النفس التي طالها التخريب، والنهوض بالثقافة والمجتمع والإبداع، كالعنقاء من تحت رماد التدمير الوحشي.

وهذا ما يجعل من كتاب ياسين خلفية نظرية وأدوات وآليات منهجية للنقد والتحليل والتفكيك في إنتاج المعنى وتوليد الدلالات المحصنة للذات من الإحباط والانهيار والسقوط، وتحفيزها وتقوية مناعتها الكيانية في أفق الولادة من جديد، بما يتجاوز الوضع الكارثي الذي خلفه الفظيع الذي أتى على كل شيء، وخلف دمارا وخرابا في النفس والفرد والثقافة والمجتمع.

أقدم على هذه الحفلة (بالمعنى المقصود في أدب السجون) في جمالية تلقي الفظيع الذي حاول كتاب "سيرتنا" إنتاجه كإبداع في معنى قادر على امتلاك وتملك خبرة البشاعة، كآلام وعناء ومعاناة، وعذابات فظيعة، موشومة في القلب والدماغ والجسد، بحرقة الهروب والتهجير والترحال الشاق المحفوف بكم هائل من الرعب المروع، والمخاطر المشبعة بالتهديد بالموت والفقدان وانعدام المعنى الوجودي، المفتوح على الخيبات والخسارات والعدم.

وأنا على قناعة فكرية وجمالية إبداعية أن هؤلاء النساء استطعن من خلال ورشة (ليس سوانا يكتب سيرتنا) أن يتملكن تجربة خبرة الفظيع وتحويله من أبعاده التفتيتية وأهدافه التدميرية إلى خلق أشكال من التمثيل والتفاعل والتقارب والتشبيك والوحدة والاشتغال كفريق يسعى إلى التكامل وتمتين أواصر التضامن والحب والتعاون...

وذلك قصد قلب الطاولة على التأثيرات السلبية للفظيع بالحد من خطورته وإرهابه وقوته في خلق حالة من التشظي والتمزيق والتباعد والتفتيت الفردي والجماعي، السياسي والاجتماعي والثقافي.

ورشة الكتابة بوصفها حقلا لمقاومة الفظيع

كل نصوص "سيرتنا" من أولها إلى آخرها تقتحم وبجرأة إبداعية رعب الفظيع المحلي وأخواته (الاحتلالات الأجنبية، والعصابات الإرهابية الدينية، الطائفية، العنصرية...) تقبل عليه دون خوف وهي تحاول الكشف عن وجهه الخبيث في انتزاع أمن وأمان الناس قصد تدميرهم وإبادتهم والدفع بهم نحو مخاطر التهجير والمنافي وتمزيق شملهم واستقرارهم، مع زرع الرعب والخوف والقلق، وانعدام الثقة واليقين، والحذر والتجنب والتشكيك في الذات والأخر والعالم، واليأس وفقدان الأمل والرغبة في الحياة، مما يؤدي إلى التقوقع والعزلة والانكفاء على الذات والعيش في محراب النكوص والانشطار الوجداني العاطفي والاجتماعي وإلى تفكك القيم الأخلاقية والثقافية والاجتماعية.

هكذا يأتي الفظيع همجيا، مفاجئا ومروعا وملتبسا، مستهدفا القضاء على المعنى، وبالتالي الإجهاز على الحياة: "الساعة السادسة صباحا، وبينما نحن في نوم عميق وإذا صوت ابني يصرخ بخوف وذعر: أمي، أبي استيقظا، وانظرا ماذا حصل في الخارج، في بادئ الأمر انتابني إحساس أنني أحلم وهو يناديني، لكن كان الواقع ويا ليته كان حلما، ركضنا جميعا إلى الشرفة وإذا بالمدفعية تقصف الحي وجميع السكان يهربون بفزع وخوف، وبينما نحن في الشرفة مرت قذيفة من أمام أعيننا بسرعة البرق، وقصفت البناية الموجودة في السوق الذي كان مركز تجمع سكان حينا "حي الشيخ مقصود" يتبضعون كل ما يلزمهم من لباس وخضار واحتياجات أخرى".11

فانقلبت حياة الناس إلى جحيم وفوضى وتشتت، حيث يروق للفظيع أن يغرق الناس في الالتباسات والغموض والانسداد في الرؤية والتفكير وتعطيل الحواس كلها بجعلها في خدمة الخوف من التهديد اللامرئي المستوطن في الأعماق، هذا يعني أن هدف الفظيع هو قتل المعنى، وبالتالي إعدام الحياة، والدفع بالناس إلى لعبة الموت القذرة التي قد ينخرط فيها الجميع، حتى أقرب الناس إليك "كانت أسوأ مرة عبرت فيها المعبر عندما كان معي ولداي فرهاد وسياممند، كيف وجدتهما يهربان من الموت متسكين بأيدي بعضهما، يصرخ سيامند: أركض فرهاد... أسرع، القناص...القناص، هذا المشهد السينمائي البوليسي لن أنساه في حياتي لفظاعته، وكأن سكان حلب يعيشون في دولتين متعاديتين، يسابقون لعبة القتال من يفوز بقتل عدد أكبر من الأبرياء". 20

هذا التمثيل الإبداعي في مواجهة الفظيع وبناء معناه تطهيرا وتخليصا للذات من جبروته المانع لتجدد الإنسان هو ما يعيشه قارئ نص "سيرتنا" من أول صفحة إلى آخر سطر في الكتاب، ومع سيرورة فعل القراءة من محرقة لأخرى ومن رحلة الموت برا وبحرا إلى رحلة جهنمية في ويلاتها وسعيرها الممزق والحارق، إلى رحلة في أعماق النفس التي صارت مجرد أشلاء لا تقوى على التأمل والتفكير وفهم هذا القدر الجنوني الذي حمله الفظيع في أساليبه وأشكال فعله الرهيب قتلا وتخريبا وتدميرا، يدرك القارئ جمالية فعل الكتابة في قدرتها ككتابة أدبية على تناول المأساة والكارثة في فظاعتها القصوى، وجعلها في متناول الفرد والمجتمع والتاريخ، ككتابة سيرية تشهد على الذات والمجتمع والواقع التاريخي الاجتماعي.

ومع كل صفحة تزداد المآسي والكوارث في الحواجز المحروسة برعب الهويات القاتلة، وعلى عتبات المدن والطرق ومحطات العبور التي لجأ إليها الناس خوفا وحماية للأرواح البريئة التي لا يستثنيها الفظيع من شر محرقته المصرة على قسم وشعار أن تحرق البلد بما ومن فيه.

وما لم يصله رعب فظيع النظام تكفلت به الجماعات الإرهابية والاحتلالات الأجنبية "مع بداية 2018 وعفرين تقاوم الاحتلال التركي، ولمدة أربعين يوما والأبطال والبطلات الكرديات يدافعون عن أرض الأجداد، عن أرض الزيتون، امتزجت دماؤهم بزيت الزيتون، احتلت تركيا عفرين بقوة الطيران الحربي، هرب بعض من أهل عفرين من القصف التركي وكأن الكرد دائما على موعد مع الاحتلالات". 81

والجميل في الكتاب هو التحدي الذي يرفعه الناس في وجه الفظيع "ففي رحلة البحث عن الوجود وجدوى استمرار الحياة" 16 تنبثق الأسئلة العميقة حول ضرورة البقاء والبحث عن السبل للهروب والابتعاد من نيران المحرقة بحثا عن أمكنة أخرى في وطن آخر "يشعرك بالاستقرار والأمان، الكبرياء والكرامة" 20. مع ما يتطلبه ذلك من آلام ومعاناة وعذابات طويلة مرهقة ومنهكة للذات في محاولة مرعبة لفهم ما يحدث وتحصيل معنى يكذب سطوة القدر المشؤوم في انتصار تفاهة شر الفظيع على الإنسان "يبدأ زلزال الحرب يقض مضاجعنا جميعا، يخطف فلذات أكبادنا، يدمر كل ما تم بناؤه، فيصبح الهم الأكبر لنا هو الحفاظ على ما تبقى من الرمق، وكأننا جميعا كسوريون اتخذنا قرار "أن لا رضوخ"، وأن الحياة الكريمة تشترى بالأرواح، قررنا أن لا مفر من الموت إلا إلى الموت، فكان ركوب المجهول وترويض الخوف هوايتنا...". 29

يحضر الفظيع في الكتابة تبعا لمنطقها وآليات اشتغالها، قراءة التجربة، والعمل على منج شكل "فظيع" غير مألوف في الكتابة، لسيرة عيش الفظيع في أبشع صوره التي حكمت بالقهر والتهجير والقتل للناس، إنه شكل السيرة في أقصى تعبيراتها الفنية في انتهاك تابو عقدة العار والخوف من تعرية مناطق الظلال المعتمة في الذوات وهي تكشف عن هشاشتها ونشر غسيلها النازف والمؤلم أمام الكريم/الكرامة واللئيم والخسيس النذل.

إنها كتابة صريحة، جارحة وموجعة، وبلغة ساحرة في تشكيل جمالية السرد في بنياته الفنية، إنها نصوص تحمل في طياتها رؤى فكرية عميقة، تكونت وتطورت في سياقات المحن المتتابعة "أبي... لقد عشت ومت غريبا، وها أنذا أكرر تلك المعاناة...". 151

التعامل الإبداعي مع خبرة الفظيع

"الفن والفاعلية الإبداعية عموما، تحاولان عبر الاشتغال على ما هو غريب وخطر وبشع، مستحيل، الفظيع، أن تبقياه في الذاكرة وتمنعا جرف النسيان له، لكن بعد فكه عن الموت، وربطه بانفعالات مغايرة. فإذا كان أسوأ الفظيع ما فيه تفنن وإبداع في التنكيل وتخريب كيان الحي، فإن أعظم الفن والإبداع ما هو فظيع في تمثيل الفظيع، متمرد على المألوف وخالق لكائنات جديدة وأشكال جديدة". (الفظيع127)

نصوص سيرتنا تتخطى كل هذه الترهات والحسابات القامعة للإنسان في التعبير والفضح والتأريخ لبشاعة الفظيع وتجاوز الحدود التي تجعل الخبرة والتجربة تستعصي على القول والتعبير والإبداع الفظيع الذي يخرج العيون من محاجرها، إنها نصوص تغضب وتصرخ وتندد وتحتج بكرامة في وجه الفظيع، تقلب اللعبة القذرة حتى ينقلب السحر على الفظيع الساحر الدموي لأنظمة الطغيان التي تشرب من عروق الناس ولا ترتوي، تأخذ الكتابة من خلال الإبداع شكلا أدبيا يجعل التابع/النساء يمتلكن القدرة على انتزاع حق الكلام دون خشية لومة لائم.

تستعيد النساء عبر الذاكرة وبتوسط من اللغة الفظيع في بشاعته في قتله، في إرهابه، في المعاناة الرهيبة والمؤلمة التي رمى فيها شعبه دون شفقة ولا رحمة، تحاول كل واحدة منهن، انطلاقا من الكتابة/ السيرة، تصفية الحساب مع ما خزنته النفس من رعب، وما سكن الأعماق من أشباح أعاقت تجدد الذوات بعد أن اغتصبت سيرورة الفظيع حياة وعمر الإنسان وقذفت به في عراء المنافي كقنينات فارغة، أو كأشياء فقدت صلاحيتها ولم تعد قابلة للاستعمال.

تستحضر النساء في نصوصهن يوميات خبرة الفظيع، في أرض الوطن، والمحن الشاقة والقاسية التي كابدوها خارجه، في صراع قاس وشرس وعدواني، لاستعادة الذوات المفقودة التي زادتها الغربة وعسر الاندماج أو الانتماء إلى المكان قلقا وخوفا وألما يشوبه الكثير من العذاب "هذا المنفى الذي تاهت فيه خطواتي، فقدت سنين سهري مع الكتب معناها، تحولت سيرتي الذاتية الصاخبة إلى مجرد ورقة مستعملة انتهى مفعولها وتحتاج إلى تحديث لم تعد نفسي تطيقه". 35

تحفر الكتابة في أعماق النفس، تزلزل أثقالها التي ترسبت في القاع بفعل صدمة الفظيع، في تناميه المخيف المولد لأبشع صور وألوان القلق والخوف، تتعمد الكتابة أن تكون قولا صريحا كاملا ما أمكنها ذلك في التخلص من التأثيرات السلبية التي رسختها خبرة الفظيع، تعيد النساء قراءة التجربة، التفكير فيها، تأملها، الاقتراب منها، قصد إزالة الالتباس والغموض البشع الذي سيجها.

تشتغل آليات الكتابة في التقطيع الزمني والتفكيك الوقائعي وإعادة التركيب لسيرورة الفظيع الهارب المنفلت من أي معنى، تواجهه الكتابة كسيرة فردية/ جماعية/ مجتمعية، تعري حقيقته اللاإنسانيته القذرة، تضفي عليه معنى، كما لو أنها تكشف فظاعته الإجرامية التي يتستر عليها إعلاميا وسياسيا، تمسك به حيا بتوسط جمالي لفنية الكتابة التي تجمع بين السردي والشعري واليوميات والرسائل والسير الذاتي والشكل الروائي في اشتغال النصوص كبنيات وخصائص مجردة أدبية مولدة ليس فقط لفنية الكتابة، بل أيضا، في الوقت نفسه لمتعة وجمالية القراءة.

"هكذا نحن ندفن أينما حللنا جزءا من أرواحنا لتدل على أوجاعنا، فيا جرحي لا تكابر وطني أصبح حقيبة وأنا أصبحت مسافرا". 252

إننا إزاء إبداع ساحر يحرر الذوات المبدعة لهذه النصوص التي عاشت خبرة شر الفظيع وتداعياته المؤلمة عبر محطات التهجير والمنفى، تسلك النساء هذا المسلك الإبداعي بعد معاناة طويلة مشحونة بقدر ضخم آهات وآلام التي جشمت وحطمت ومزقت حياتهن في الداخل والخارج، مرورا بسلسلة من التجارب الفظيعة في البحث عن ممرات ومناطق وبلدان آمنة، كما أننا أمام إبداع يجعل القارئ معنيا بكل ما واجهته هؤلاء النساء من محن وفظاعات في الواقع الحي الكارثي والمأساوي، كما أنه معني باستراتيجية الكتابة في القبض على الفظيع وتحويله إبداعيا إلى أدب جمالي "فظيع" في تملكه لخبرة الشر، من خلال النص المتعدد المضياف لمستويات مختلفة من الأشكال الإبداعية من السيرة والشعر واليوميات والشكل الروائي...

تورطنا نصوص الكتاب في بشاعة الفظيع ونحن نتذكر المحرقة التي عشنا لحظاتها الرهيبة، كما هي مخزنة في الأعماق، محطمة للقلوب والعقول، ومدمرة للجسد في قوته ونشاطه وحيويته ومناعته "في الثامن من يونيو/حزيران، توجهنا إلى كامب ليباخ بساربروكن، لم تدم إقامتنا بالكامب سوى 32 يوما، لكن الزمن لم يرحمنا في هذه الفترة القصيرة أيضا لنسمع بفاجعة كوباني، حيث تم ذبح الرجال والنساء والأطفال وهم نيام من قبل وحوش بشرية، راح ضحيتها قرابة 250 و271 جريحا، تألمت أكثر لجارتي في الكامب لأن أهلها أيضا كانوا من الضحايا وتم إسعافها لأكثر من مرة، ااااااااااخ... إنه الوجع الكردي أينما حللنا". 255

لكننا من جهة أخرى نكتشف عظمة الإنسان المعجزة في الصمود والبقاء والتجدد والقدرة على الكلام والحضور والإبداع، خاصة وأن خبرة الفظيع متعلقة بالنساء، وهن جزء من الفئة التابعة/ العمال والفلاحين والنساء...، التي فرض عليها تاريخيا، بالقهر والتسلط السياسي الاجتماعي للنظام الأبوي ذي المركزية الذكورية أن تبقى صامتة مهمشة مقهورة منبوذة ومنسية...

كما أن القارئ العادي البعيد كليا عن هذه المحرقة كما جرت أحداثها الملموسة على أرض الواقع الحي تورطه القراءة في سيرورة بناء المعنى، لمحاولة فهم حقيقة هذا الفظيع المستحيل الذي تحقق في التاريخ البشري، كوقائع غريبة لحاكم يقتل شعبه، ويحكم عليه بالتهجير هروبا من موت محقق ومن أحشائه العطنة خرجت وحوش بشرية دينية وعصبية وطائفية...

إنها سيرة موجعة كتابتها تجعل قارئها معنيا بالتلازم البنيوي بين الفظيع والموت، وبشكل لا يقبل أي شكل معروف في السيرة المنكفئة على نفسها، لذلك هي تميل بوضوح إلى تعرية الترويع والخراب والحرائق التي لا تقبل الجدل والشك في حدوثها الكارثي كخراب أتى على كل ما هو متعارف عليه بين الناس في الأنظمة الرمزية والثقافية والاجتماعية، على هذه الفظاعة تشتغل نصوص الكتاب من زاوية التمثيل والتشخيص، تمنحها شكلا إبداعيا، حفظا للذاكرة، وحماية لها من النسيان.

ومحنة البشاعة نفسها نلمسها بكافة جوارحنا بين شقوق وطيات النصوص الحاملة لعذابات القهر والتخلي التي عاشتها نساء السودان والايتريات، فالأنظمة اللاوطنية الشمولية تتشابه في قهرها وهدرها للإنسان والوطن، وفي نظرتها اللاإنسانية إلى الشعب في تبخيس قيمته، وسلخ بعده الإنساني.

هكذا كانت تجربة ضريبة المنفى بالنسبة إلى حرية علي جامع التي وجدت نفسها في موقف حاسم لا يمنح متسعا لحرية الاختيار في تحديد المسار، والتحكم في زمام المصير "كان المهرب الوحيد هو الهروب وترك حريتي في بلد لم تكن فيه الحرية من يوم ولدت". 42

لذلك عاشت أنواعا مختلفة من الاضطهاد داخل البلد، وفي الغربة في السودان بين بعض الأقارب الذين ضيقوا عليها الخناق، وأيضا من خلال النظرة السودانية التحقيرية والاستغلالية التي مارست في حقها الكثير من الظلم والبشاعة العدوانية في المس بالكرامة والتقدير. وتطورت هذه البشاعة إلى حد الفظاعة في السعودية عندما استبيحت حياتها بتعرضها للإهمال والتحرش، ووضعت في مكانة ما دون خط البشر "لم يعد بيدي حيلة بسبب هذا القهر الذي عشته وأنا في الغربة، لم أتعب نفسيا فقط، فالخوف والقلق الذي عشته ظهر على جسدي، ألم في كل جهازي الهضمي، كنت أتقيأ دما... كلما أذهب إلى كفيلتي وأخبرها أنا تعبانة تقول لي: "الشكوى على الله". 46

لكن امتلاك القدرة على التعبير عن هذه المحنة المؤلمة يعد خطوة رائعة في التعافي، وفي تحرير النفس من عبء التركة الثقيلة للقهر والاضطهاد والفظاعة التي دمرت الروح وانعكست خطورتها على توازن الجسد الذي صار مأوى لمختلف الأمراض.

تأتي الكتابة في "سيرتنا" لتحد من تدفق البشاعة، ونزع سطوة الفظيع التي حالت دون التعبير والكلام، وانفتاح الرؤى، وانبثاق فرح الأمل في انتصار الحياة على القهر والخوف الذي ألجم اللسان والعقل في تعظيم فرص البقاء والمقاومة هزما للفظيع، فعلا وكلاما وكتابة...

الكتابة للسيطرة على الفظيع والحد من تأثيره

"لا زلت أشعر أن طعم الدم يقطر من فمي، وأنا أتصفح صورهم كشريط سينمائي لا يحتاج إلى تقنيات وخدع لإتقان مشاهد الرعب، وفي الجانب الآخر أرى جثثهم تحترق ويحترق معهم قلب المدينة المتعب، وكلما سمعت خبرا عن توغل الشر كثيرا في قلب الشوارع والمدن البغدادية، أرسل سلاما لقلب أمي المرتجف خوفا على فلذات كبدها وسط عصف الانفجارات التي لم تخجل من شيبتها يوما". 223

لكم هي رائعة وجريئة فكرة هذه الورشات (ليس سوانا يكتب سيرتنا)، في اختيار مسلك الكتابة للسيطرة على الفظاعة والبشاعة والقهر، وكل أنواع الآلام والعذابات التي واجهت هؤلاء النساء، من خلال التمثيل، إنها الفظاعة التي خلفت في النفس والذاكرة جراحات عميقة، ولدت مختلف الأمراض النفسية والاجتماعية والجسدية والروحية، لكن بالكتابة وفي الكتابة، تبعا لهذا الشكل السير ذاتي من الفاعلية الإبداعية يلمس القارئ نوعا من الحوار والتأمل والتفكير المسكون بحرقة الأسئلة. "هل دمر فقد الوطن بنياننا الداخلي الذي قضينا عمرنا كله نبنيه، أم أن ذلك الوطن عرى نقاط الضعف فينا؟... قد أجد يا وطني يوما إليك سبيلا... ولكن كيف أجد سبيلا لمن كان يقطنك". 38 و39

هكذا يشتغل منطق الكتابة وآلياتها في الحفر والمساءلة والقراءة، للوقائع والأحداث المؤلمة، يتم هذا عبر الاشتغال الفني على تجربة خبرة البشاعة والاضطهاد والقهر والفظاعة، يظهر ذلك جليا انطلاقا من عناوين كل مساهمة في هذا السيرة الجماعية: الهجرة تليق بك أيها الحزن، ضريبة المنفى، غربة الروح، سأقتلك... أيها الخوف...

هذه العناوين كعتبات مشحونة أدبيا ورمزيا وشعريا بما يجعلها تملك قوة العبارة والصياغة والتركيب في توليد دلالات قادرة على السيطرة على الفظيع والحد من سطوته وقهره المزمن للنفس البشرية التي عانت طويلا من احتلاله البشع للجسد والروح.

تستعيد الذاكرة شر المأساة القابعة في الأعماق، تستحضرها، تحاول دفعها للخروج، كما يفعل مشعوذ ديني، أو دجال لإخراج الجن الساكن في جوف الممسوس، وهو يعتمد على طقوس غريبة، لكن الكتابة تقتحم بتمثيلها الأدبي الرفيع حصن الفظيع الذي يصر على احتلال الذات وتدميرها مستعينا بآليات التخويف والترويع والإرهاب التي رسخها في جوف الأبرياء، فللكتابة مفعولها السحري في القذف بهذا الرعب والفظاعة، لتصير سردا، حكاية، تاريخا يذكر بالفظيع الذي التهم الوطن وأباد وهجّر كما يحلو له.

نصوص مكتوبة بالدم تحرسها الأرواح التي أزهقت ظلما وعدوانا، في البر والبحر، حيث كان الفظيع يختبئ في محطات العبور، وبين تجار قوارب الموت التي تبيع أحلام الخلاص الكاذب، وهي تستنزف أموال الهاربين من فظيع لأخر، غالبا ما يقدمهم هدية ولقمة سائغة لفظاعة البحر "كنت أموت حتى نبضات قلبي تتوقف عندما يسقط الموج فوقنا ونطير من مقعدنا وصوت الأمواج المميتة.. نعم، إنها رحلة الموت...". 115

هكذا تتسع الذاكرة، تنتعش وتتنفس بعمق، ويختنق النسيان والموت، بعد أن تمدد الكلام، واعتلى منصة الكتابة، في شكل "سيرتنا"، كتابا مسطورا يخشاه النسيان.

"أود الذكر أني التقيت عائلات عانت الويل، وسمعت قصصا عن مخاطر الطريق والغابات وعن حالات وفاة في الغابات من الجوع والتجمد والبرد، سيرة تطول ولا تنتهي من معاناة السوريين، فقط اسألوا أشجار الغابات والبحار لتخبركم عن أنيننا ووجعنا، حتى الآن مجرد أن أسمع صوت حسام جنيد وهو يترجى البحر أن يخف غضبه علينا لأن السفينة فيها أطفال... أجهش بالبكاء حتى الثمالة". 249

الاحتفاء بالألم البشري وتكريمه

"خمسة عشر عاما مضت في بلادي وأنا أحاول أن أمسك ولو بشعرة واحدة من شعاع شمس أحلامي الكبيرة، أصارع طواحين الهواء في رحلة دون كيشوتية، أحصد فيها خيباتي وأفقد العد من كثرتها. سئمت من رؤية عجزي وضآلتي في وجوه الفقراء الشاحبة وأنا أراقب كل هذا البؤس والقهر الذي يحيط بهم، خمسة عشر عاما فقدنا فيها أكثر من مليون ونصف إنسان في الحروب والحصار أكثرهم كانوا أطفالا، كنت أشهد تساقطهم كأوراق الخريف عاجزة لا أملك حتى أن أمنح أحدهم أملا في ربيع قادم". 117

الكاتبات جعلن من أنفسهن مرايا حارقة نازفة بشر المأساة العارية من أي قانون إنساني

نصوص "سيرتنا" لا تخشى مواجهة الفظاعات التي واجهتها بقوة وصلابة، وبضعف وهشاشة أيضا، الكتابة تتأمل متنها، جسدها العاري، قصصها الواقعية التي نسجها الفظيع الشمولي، من إيرتريا، السودان، سوريا، العراق...

تعاود الكتابة اللقاء بالفظاعات التي عاشتها بالحديد والنار، قلقا وخوفا، رعبا وإرهابا، قتلا وتهديدا بالقتل. تعود الكاتبات إلى التجربة وهن يحدقن بوعي مفعم بالألم والفرح، ليس على أنهن ناجيات من شر الموت في البر أو في البحر، أو في محطات العبور، ومدن المنفى، بل لأنهن أردن الاحتفاء بالألم البشري وتكريمه. جعلن من أنفسهن مرايا حارقة نازفة بشر المأساة العارية من أي قانون إنساني، وفي لحظة كان فيها العالم شاهد زور، والقانون الدولي ومؤسساته، كان في قيلولة ساهيا عن قصد مصلحي أناني ضيق عن جرائم حرب واستبداد وقهر فظيع ضد الإنسانية.

كل نصوص الكتاب تحتفي بهذا الألم البشري وتكرمه من خلال الكتابة كفعالية إبداعية تحرر شغاف القلب من العذابات المكبوتة والأعماق النفسية المجروحة، تساعد دواخلها على البوح الأصيل، حتى لا تتحول الجراح إلى ندوب تحول دون العافية والخلاص من سطوة رعب التجارب المؤلمة التي عاشتها على فترات صعبة لا تقاس بالزمن البشري العادي في وقت الهناء والسلام، أو في ظروف الحياة العادية مهما كانت شاقة وصعبة.

كل المحن والبشاعات كانت محرقة مؤلمة في الرحلات المجهولة المحفوفة بالمخاطر، مشيا على الأقدام، وأثناء الانتظارات الفظيعة لقوارب الموت، في البرد والظلام، ومع الأطفال يتضاعف رعب الألم حافرا أخاديد نازفة، وفي مخيمات اللجوء، وفي أجواء المذلة والمهانة والتعامل اللاإنساني حين يتم رفض حق اللجوء.

ذكريات وذكريات لا تقف عند الشهادة على الذات وما عاشته من محن وآلام، كما لا تشهد فقط على الآخرين، رفاق المحنة والغوص في الرعب الفظيع للمجهول الوحشي قرين الموت الذي يترصد خطواتهن الخائفة المذعورة الباحثة عن ممرات للأمان والهروب برفقة أطفالهن، بل تحفر الكتابة عميقا لتستجلي الرؤى النفسية الداخلية التي استطاعت في لحظة صغيرة من الزمن رؤية صور الآخرين الذين واجهوا بألم فظيع مخالب وشراسة وحشية الموت التي لم ترحم قلوبهم الخائفة المتوسلة، الراجية للرحمة والشفقة، في لحظة لم تكن السماء معنية بما يحدث في البر والبحر من مآسي وفظاعات. "ذكريات تتخبط في نفسي وعقلي، أستطيع الآن رؤية وجوه الناس الذين ماتوا قبلنا، أراهم في هذه الأمواج، وأستطيع أن أميز ملامحهم الواضحة في البحر. أجل، يمكنني التعرف عليهم، فقد عاشوا هذا الرعب المخيف من البحر وأمواجه القاتلة". 116

إنها سيرة مرعبة مؤلمة لا تتوخى بطولة النجاة بقدر ما تسعى بوعي حارق إلى تمثيل فظيع للفظيع، جعله حقيقيا ملموسا وفي متناول الذات، أولا، التي عانت وتألمت إلى حد أن استعصى عليها التعبير والكلام، وفي متناول القراء ثانيا.

وفي هذا الشكل من الكتابة تكمن فتنته وسحره العجيب، أي امتلاك القدرة الإبداعية في جعل التجربة والخبرة كلاما مقروءا مسموعا، متحررا من السجن الداخلي للقهر النفسي الذي ولدته المحن والآلام، هكذا تكون الكتابة حقلا للمقاومة وحفظا للذاكرة حتى تستفيد البشرية مما جرى، تجنبا لعدم التكرار.

الكتابة وتملك الفظيع، والاقتراب منه، بدل التجنب والنسيان

يمكنني القول إن نصوص "سيرتنا" قد أفلحت في الاقتراب من مختلف المحن والآلام التي سببها الفظيع بشكل مباشر، أو قاد خطوات ومصائر الناس العزل الأبرياء مكرهين نحو الجحيم، نحو اختيارات فظيعة كان الموت حاضرا فيها بقوة رهيبة.

يشعر القارئ، رغم قسوة وفظاعة التجربة، بسحر الكلام/الكتابة، في النيل من الفظيع، في جعله موضوعا قابلا للكشف والتعري، إلى حد فأق عيون فظاعته، وهي تقوده نحو المسلخ، لنزع أقنعته، وتأمل حقيقته الإجرامية، تبسط النساء الحديث حول الكم الهائل من الآلام والعذابات التي عاشوها برفقة أطفالهن، وأقرب الناس إليهن، والآخرين.

تأتي الكتابة على ما تم كبته في الداخل من وجع فظيع، كله فقدان أعز الناس والخيبات والخسارات التي اغتصبت الروح والعمر ودمرت كل الأواصر والعلاقات وأنماط وأشكال الوجود الاجتماعي والإنساني، وخرب خزان الذاكرة والألفة مع الأمكنة والأزمنة والبيوت والأشجار...، وكل ما له دلالة ومعنى في بيوغرافية الناس، في هويتهم وتاريخهم الفردي والجماعي، تقترب الذاكرة والجوارح والأعماق النفسية إلى هذا بتوسط من الكتابة كآلية لترميم الذات ودعمها للوقوف مجددا في وجه خبرة الفظيع دون قلق ولا خوف.

مع سيرورة القراءة من نص لآخر يتشكل وعي نقدي حاد وغضب يخالطه حقد دفين تجاه رعب المآسي والفظاعات التي صارت جزءا من ذاته، حيث لا يمكن أن يقول لا أعرف، بل صار معنيا بما حدث وله ألف صلة بشكل أو بآخر بالضحايا كيف ما كانت هوياتهم. قوة الكلمة، العبارة، الكتابة في شكلها الأدبي، منح "سيرتنا" قدرة القبض فنيا على الفظيع، وتملكه، من خلال منطق الكتابة وآلية اشتغالها الجمالي الإبداعي.

وبذلك تم التحكم إبداعيا في كل المحن والفظاعات التي عاشتها النساء، واقتربن منها بجرأة أدبية، كان فيها للورشات واللقاءات الدور الحاسم في تملك التجربة والاقتراب منها بعيدا عن فوبيا التجنب والنفور، فالبوح/الكتابة بهذا الشكل، وفي هذه السياقات الاحتفائية بالألم الإنساني وتكريمه جماليا وفنيا، يمنح للذاكرة امتيازا نوعيا، وانتصارا كبيرا على الصمت والنسيان.

تحويل الفظيع من مدمر إلى علاقات التقارب والمشاركة والتمثل

هكذا استطاعت الكتابة في "سيرتنا" أن تكون فعالية نفسية في تمثيلها لخبرة الفظاعات والتحديات، وهي تجعل الأبعاد التدميرية للتجربة التي عاشتها النساء أرضية للتضامن النسوي والإنساني.

تدخل النساء في حوار صريح ومؤلم مع ما ترسب في الأعماق من آلام وعذابات حفرتها بشاعة الشر السياسي للديكتاتوريات المحلية، والجماعات الإرهابية الدينية، إلى جانب الفظاعات الاجتماعية والثقافية والأخلاقية التي رافقت محطات العبور برا وبحرا، في استغلال بشع وقذر لظروف الناس الهاربين من ويلات الشر، وفي هذا الحوار الداخلي ترمي النفس بكل الحمم الحارقة التي تستنزف الذوات، وتنهك طاقتهن في التستر على التجربة كما لو كانت فضيحة اجتماعية أخلاقية، يلمس القارئ تقارب الذات مع نفسها وهي تصبح كثرة في قدرتها على البوح والاعتراف، في الوقت نفسه، بمناطق الظل الهشة، وبعظمة الإنسان في قدرته على التغلب على المحن وهو يمنح معاني لكل الآلام والعذابات التي سببتها محرقة الفظيع المتعدد الوجوه والأشكال الشريرة.

تتحول التجربة القاسية إلى شكل من العلاقة مع النفس والآخر، كقارئ تستهدفه الكتابة وهي تضعه أمام مسؤولية صعبة في حساب عسير مع نفسه وهو يواجه سؤالا مؤلما لا مفر منه: ها قد عرفت فما حجم مسؤوليتنا فيما حدث؟ والفظيع أليس منا اجتماعيا وثقافيا، وقابعا في موروثنا الثقافي والسياسي والديني، وفي تصوراتنا ومعتقداتنا، وفي نوع علاقاتنا الاجتماعية الأبوية بمركزيتها الذكورية...؟ وتنفتح الأسئلة على جهنم عميقة في التاريخ والثقافة والمجتمع والدولة وشكل الانتظام الاجتماعي الإنساني.

في الكتابة ومع سيرورة القراءة يتعدد التقارب مع النفس والأخر والعالم وتنفتح علاقات التفاعل والمشاركة والتقاسم للمحنة والحب الإنساني في قلب كل حالات التشظي والتمزق والمعاناة البشعة التي سببها بركان الفظيع بحممه الحارقة والوحشية.

تصير خبرة الفظيع مجالا أرحب لعلاقات ووعي اجتماعي ثقافي إنساني نقيض للخراب والبشاعة التي عاشتها النساء، يتقوى التشبيك وتنبثق رؤى إبداعية نبيلة في تشريح أصول الفظاعات الحافرة في أعماق المجتمعات والثقافات، ومدى تمكن بعضها (الأوروبية) من تخطي المحن وتطعيم الذاكرة ضد النسيان، جبرا للضرر الممتد عبر الأجيال وحماية المستقبل من ويلات الفظيع حتى لا يتكرر ما جرى.

ويمكن القول إن شكل الكتابة في "سيرتنا" يولد جمالية شعور رائع لدى القارئ، على أن الكتابة وسياقاتها التشبيكية، عبر ورشات ليس سوانا يكتب سيرتنا، قادرة على التأسيس للولادة من جديد ليس فقط للكاتبات، بل أيضا لكل من عاش خبرة الفظيع ومختلف أشكال الظلم والقهر والهدر الإنساني.

فإذا كانت الكتابة في بعدها الفني الأدبي قادرة على خلق التعافي الروحي الإنساني، فإن القراءة قطبها الجمالي في تحصين الذات من معاودة إنتاج الجذور الاجتماعية والسياسية والدينية...، المولدة للفظيع.

الهامش

سيرتنا إشراف وتنسيق إشراقة مصطفى حامد دار صفصافة للنشر والتوزيع الطبعة الأولى 2023.