القصة القصيرة، وعلاقة معقدة مع العالم

الكتابة عن الطاهر عبدالله كرمز من رموز مرحلة انتقالية مهمة في السرد المصري والعربي، لا ينبغي أن تتوقف عند عجالة تؤسس - في يقيني - لكتابة عنه أكثر إثراءً وثراءً وانفتاحًا على وعي سردي مهم شكل مع جيله/ جيل الستينيات.

الكتابة عن الطاهر عبدالله كرمز من رموز مرحلة انتقالية مهمة في السرد المصري والعربي، لا ينبغي أن تتوقف عند عجالة تؤسس - في يقيني - لكتابة عنه أكثر إثراءً وثراءً وانفتاحًا على وعي سردي مهم شكل مع جيله/ جيل الستينيات.

لا شك أنَّ الكتابة عن يحيى الطاهر عبدالله كرمز من رموز مرحلة انتقالية مهمة في السرد المصري والعربي، لا ينبغي أن تتوقف عند هذه العجالة التي تؤسس - في يقيني - لكتابة عنه أكثر إثراءً وثراءً وانفتاحًا على وعي سردي مهم شكل مع جيله/ جيل الستينيات وعيًا تأسيسيًّا ومرحليًّا للكتابة التي تأثرت بحقبة تاريخية واجتماعية كانت لها سماتها التي ألقت بظلالها على الإبداع والفن والنظرة العامة للحياة، ووضع بذورًا جديدة ربما أنبتت أو ساهمت في ازدهار حركة السرد وتطوراتها فيما بعد، عما قبل.       

المتتبع لمسيرة يحيى الطاهر عبدالله الإبداعية يجدها ترتكز على عدة عناصر تميزه كحلقة وصل بين القصة/ الحكاية، والقصة/ السرد، تلك المرحلة ما بين/ بين، التي تنضج فيها التجارب أو بالأحرى تدخل في نار المعاناة، ورغبة الحكي المعجون بماء السرد، والتي تستوي فيها الأمور حتى تصل إلى تلك التركيبة الخاصة التي تميز إبداعه، انطلاقًا من مجموعته الأولى "ثلاث شجرات كبيرة تثمر برتقالا"، ببراءة التجربة المؤسسة لعلاقة معقدة مع العالم، تبدو فيها الضبابية والرمزية العفوية التي تأتي بالأمور على سطح متوتر ساخن، تستجلب فيها النفس كل اللواعج والتداخلات التي تجعل من الداخل معتركًا شديد التوتر، ينعكس على ويتأثر بالخارج بدواله التي تسبغ على المشهد بالمعرفية والاتصال بالبيئة المكونة لعصب هذه التركيبة الإنسانية وسط واقع غرائبي يفرض سماته، فتمثل عناصر المشهد القصصي لديه صراعا يبدو من خلال وعي السارد أو المسرود عنه الذي يمثله ضمير النص..

 لغة القص

يُعد عنصر اللغة الشاعرية المشتبكة مع الواقع الداخلي والخارجي للشخصية من أهم ما يميز الكتابة عند يحيى الطاهر عبدالله منذ بداياته، وهو ما تعكسه اللغة متوترة الإيقاع التي قد يعلو إيقاعها حتى يلامس تخوم الشاعرية والتوحد مع الحالة النفسية والعصبية للشخصية التي تمثل لديه عصبًا رئيسًا للنص القصصي، حتى ليكاد بطل نصه أن يكون بطلًا تراجيديا تنفتح له كل مساحات النص كي يعبر عن دواخله وما يعتري واقعه المحيط بدلالات المشهد الواصف للبيئة وحركتها الخارجية حول الشخصية أو دوران الشخصية في فلك المكان، وهو ما يعبر عنه باللغة التصويرية البارعة التي تعطي المشهد براعة التجسيد واستنطاق الحالة النفسية والانفعالية للشخصية من خلالها، وهي السمة السردية التي اتبعها الكاتب انطلاقًا من نص مؤسس لكتاباته وهو "جبل الشاي الأخضر"في مجموعته الأولى، بهذه الإطلالة الباكرة على العالم من خلال ذكريات الطفولة وعيها الفائق الذي يسجل كل شيء وكأنه على لوح أثري لا تنمحي كتابته ولا نقوشه؛ فالعالم القصصي يتكون ويتشكل من خلال تلك المساحات التي تخلقها الكتابة في تعاطيها مع عناصر الوجود وإدراك قيمة النص في إيصال الرسالة المرجوة/ الشحنة الانفعالية التي جسدت هذا التاريخ وهذه الذكرى، وهي السمة الحميمية التي تدفع الكاتب كي يظل همه هو التعامل مع الهم الإنساني بكافة صوره وتشكلاته وإشاراته التي لا تتوقف عن الصدور من خلال كاميرا القاص التي تتعامل مع الواقع من خلال تسجيله وإضفاء الحميمية عليه والارتباط به من خلال اللغة والصورة، ولوجًا إلى عالم أكثر تعقيدًا وعلاقات نفسية أكثر اشتباكًا معه..

لغة كابوسية

 وهو الأمر الذي تتصاعد من خلاله وتيرة الصراع مع الواقع من خلال لغة كابوسية للتعبير عن العلاقة الضدية الرافضة لممارسات الواقع وترسباته في وعي الشخصية، وتأطير الحالة النفسية والوجدانية للسارد العليم أو المسرود عنه (بضمير الغائب) والذي تتحول إليه طبيعة السرد في النص لبيان مدى الالتصاق أو الابتعاد عن ضمير الشخصية ومدى تأثرها الانفعالي الحاد أو العادي أو الاستثنائي، كما في نص "الكابوس الأسود" كنموذج لتلك الكتابة التي تعبر عن ذاتها من خلال الهروب من/ إلى الأحلام بشقيها الجيد والرديء، وهذا الارتباط النفسي الذي يجعل حركة النص موجهة إلى الماضي في حكي المشهد التصويري، أو موجهة إلى بيان تأثير الحالة بجعلها في حالة استمرارية باستخدام الفعل المضارع المستمر في التأثير وإعادة إنتاج الشعور..

 وما يظاهر ذلك من ظواهر طبيعية يوظفها القاص ببراعة كي تنعكس عليها الظلال الداخلية أو تلقي هي بتلك المسحة الغامضة المبهمة على الداخل لتتماهى معه، وهو ما يشكله الوصف الخارجي بلغة الوصف المجازية المعبرة، مع المتخيل/ الخيال أو عملية الاستيهام التي يترجم بها الشخصية شعورها، ليعبر الاضطراب في لغة الأحلام والكوابيس عن تلك الحالة الأساسية التي تدفع الشخصية للدخول في غمار الأسى أو تأثير تراكمات نفسية داخلية على هذا الشكل الخارجي والعكس..

العلاقة المعقدة مع العالم

ربما اتخذت القصة القصيرة هذا المنحى شديد الخصوصية لتعبر عن أزمة استيحاش الإنسان، كما قال فرانك أوكونور في كتابه المتفرد "الصوت المنفرد"، من حيث إنتاج النماذج التي تصور هذا الصراع الخفي غير المعلن الذي تجسده القصة بكينوتها الرهيفة التي ربما نفذت من ثقب إبرة كي تعبر عن هذا التشظي وهذا التوحد الذي تعيشه حالات القصة القصيرة في مواجهاتها مع العالم بكل صور القمع فيه، وهي الصور التي تتوافر إلى حد بعيد في نماذج القصة عند الكاتب، الذي يعقد علاقة جدلية تبدو فارقة مع صراعات الداخل والخارج معًا - كما نجده في كتابات نفسية مغامرة أخرى تنحو إلى السوداوية والعبث لدى كاتب آخر هو ضياء الشرقاوي - تلك العلاقة التي تجعل من الحدث المتناهي في الصغر أو اللا حدث، انفجارا كونيا يعلي من قيمة وقدرة الإبداع على تفتيت العالم ومحاولة سبر غوره واختزاله في تلك المساحة السردية الضيقة، المتسعة - في الوقت ذاته - على براح العالم تصول وتجول فيه وتنتقي منه ما يعبر عن أزمة وجودها، ومن خلال تلك الرحلة التي تجمع كما قلنا بين الحقيقة واستيهام وجودها داخل النص القصصي الذي لا تخرج منه إلا مصدوما بهذه الكثافة للفعل الوجودي وبهذا الغموض وتلك الضبابية التي تعبر عن علاقة معقدة مع العالم ربما اضطرك غموضها واختزالها إلى إعادة قراءتها والتشبث برموزها وفك شفرات اللغة كي تتمكن من التعاطي معها والاستمتاع بقراءتها، أو حتى رفضها.

العناوين

وهو ما يستمر مع رحلة الكاتب التي تستدعي الرموز الدالة في نصوصها على الوقوع في أسر هذه الحالة/ العلاقة، المعقدة/ المركبة، من خلال عناوين قصصية تلتمس هذا العمق النفسي: "الدف والصندوق"، "أنا وهي وزهور العالم"، "الرقصة المباحة"، "حكايات للأمير حتى ينام"، وهي عناوين دالة على علاقات ملتبسة داخلية تعبر عن مضمون سخي بانفعالاته وترددات علاقته بالواقع، وعلاقة مفردات اللغة التي يتكون منها العنوان، فالثنائية موجودة في "الدف والصندوق" دالة على علاقة ثنائية يعقد النص/مجموعة النصوص بينها ببلاغة التعاطي مع مكنون المضمون الخفي بداخلها.. كما أن الانفتاح في دلالة عنوان "أنا وهي وزهور العالم" على التماس البراح والبحث عن علاقة ثنائية أخرى مفتوحة على براح ما تنتجه دلالة الزهور بعيدا عن العالم المادي، ربما هربا من مواجهته والبحث عن فضاء رومانسي تلجأ إليه الشخصية.. كما يلجأ العنوان إلى الخلاص بالرقص في "الرقصة المباحة"، وهو تفريغ روحاني وانعتاق من واقع لا يرجى الاصطدام به وهربا من العالم المادي أيضا، والتماس الحكي هربا من الواقع في "حكايات للأمير حتى ينام" جلها عناوين واعدة وعلى وعي بمفردات اللغة والجمع بينها لخلق حالات أكثر إثارة، وهو من جوانب الاستفادة في توظيف اللغة بشاعريتها وماديتها لتجسيد حالات الكتابة.. وما يؤكد هذه الصدامية وملامح العلاقة المعقدة مع العالم ومفرداته التي ينتقي منها النموذج الإنساني/ الشخصية ما يمكن من الابتعاد عن هذه العلاقة المعقدة.