الكتابة بذاكرة جمالية ما بين حدود السيرة والتخييل الذاتي

لعل خضير فليح الزيدي يطل في رواية 'عمتي زهاوي' من نافذة الخيال الفني يستقطب معاني تحمل دلالة الرواية الاستقصائية كما أنه يحاول أن يمزح بين الأجناس فكأنه بذلك يمحي الحدود الفاصلة لتتعالق الرواية بالخبر الصحفي بالسيرة والفلسفة الجمالية.

توطئة:

عالمنا هذا الموبوء. إنّه عالم من البغضاء، والكراهية. لا شكّ أنّ أحدَ هذه ألاسبابِ، هو الصراع من اجل البقاء وبتميز للأفضل . إنّ احتلال مركز مرموق فيها هو بلا ريب حلم في هذه الدنيا الخاطفة، تسمح له فيما بعد بالدخول إلى عالم البقاء والديمومة والخلود. وحينما يسعى من عمل في مجال الابداع والتميز يُشعر بأنّ حظوظه في الخلود سوف تزداد بعد موته..

لا شكّ أنّ للرواية دوراً في تشكيل وعينا للذات ووعينا للآخر. ومنذ بداية المعاصرة والرواية تلقي الضوء على مشاكلنا كما يراها الروائيّون. وأقول كما يراها الروائيّون، لأنّ مشاكلنا قد تكون مختلفةً عن الطريقة التي يراها بها الروائيّون. فقد لا تكون رؤية الروائيين لواقعنا مطابقة لهذا الواقع..

العمارة السائلة منهج فكري معاصر في مجال العمارة ربما هي من مخرجات الحداثة السائلة والتي تولت مهمة إطلاق حرية التحقق والاختيار الإنساني من أسر الغيب وعدم الثقة وغياب اليقين في القدرة على سيطرة الإنسان على هذا العالم. والحداثة تلك قامت بحرب غير مقدسة لإخضاع الطبيعة بالعلوم وللعلوم، وبالتالي رفعت مستوى الحرية وضمان الفردية وإخراج المرء من القفص الحديدي للتقاليد.

لكن التقاليد لم تنته بل اختلف فهمنا لها، والتاريخ لم ينته، والقديم لم يتلاشى ولا الحديث استمر واستقر على حال، بل وجدنا انفسنا وسط أنواء وارتباكات ومفارقات. وهذا الذي وجدنا اننا فيه اليوم، ومنذ بدايات العولمة، هو ما يسميه با ومان السيولة.

والحداثة السائلة تعني الخروج عن هذا كله. وتعني أيضا أفول الشخص العام، وسقوط تصور المواطن ودولة الرعاية الاجتماعية وانسان المجال العام في صورته الحافظة لرابط التمدن. ويرى باومان ان السيولة تسربت إلى كل نواحي الحياة وغيرت النظرة الى الذات والأشياء. فعالم اليوم يشهد عنفا سائلاً، أي منفلتاً من عقاله، ويتعرض لتهاوي الأنظمة وتفكك الروابط كلها.

وخلاصة هذه التقدمة، تقدم لنا أعمال باومان في مجموعها (الحب السائل –الخوف السائل –المراقبة السائلة –الخوف السائل ...الخ) صورة نقدية مركزة للعالم الحديث، وربما كانت أحد الانتقادات الموجهة إليها أن أكثر تفاصيلها مستقاة من تطور الحياة داخل المجتمعات، فكل تقدم وتراكم اقتصادي في ركن ما من العالم يعني بؤسًا ونفايات بشرية في ركن أخر، والنصوص من هذا النوع هي نصوص إبداعية لأنها كاشفة ومهمة.

وفي قراءة ما يجري اليوم من تسليط الضوء على الهامش –المراة – الجندر ...الخ تحيلنا هذه السرود من التفاصيل والجزئيات، والتي تحدد مفهوم الجنس الأنثوي وسط تصارع المغانم، ومرجعياتها الثقافية وتاريخها البيولوجي، وتقزيم دورها في المجتمع، وبنظرة سيكولوجية للتاريخ الثقافي للمرأة.

لذا ذهب الكاتب في سرد روايته هنا حيث يسرد رؤية السلطة الاجتماعية – العرف للمرأة التي تكون علي استعداد للتضحية بحياتها من اجل بقاء الاخرين على قيد الحياة، الكاتب وبوعي الغوص في قضايا شائكة تخص وضعية المرأة في المجتمع، رصدها هذه المرة من خلال تحليل سيولوجي وثقافي لرمز وطني واحدة من أقطاب نظرية العمارة السائلة "زها حديد".. فقضية تلك الاسطورة ـ بحسب الكاتب ـ لم تعد قضية فردية تخصها وحدها، وإنما هي قضية سياسية تخص المجتمع ككل لأنها متعلقة بحرية الفرد وبالحقوق المتساوية بين المواطنين وديمقراطية النظام، إذ لا معنى لحرية المرأة في مجتمع كله عبيد.

وفي ظني ان رواية "عمتي زهاوي" للكاتب خضير فليح الزيدي، والصادرة عن دار مصر العربية للنشر والتوزيع/ القاهرة 2020 أرادت ان تضعنا أمام فضاءات كتابية جديدة، لنص سردي مفاهيمي مفاده التخادم ما بين المعرفي/ الأدبي، بمحددات وقيمية.

اذن كاتب الرواية الناجح والذي يمزج بمهارة بين المعارف الإنسانية –الواقع - والأحداث المتخيلة، ويطرح بحبكته المصوغة بإتقان أسئلة تدفع القارئ إلى البحث والتمحيص بشرط التماهي مع متن الحكاية الاجتماعية وعدم الانغماس بالمعرفي وطغيانه .الكاتب الذي يتطلّب بناء رواية محكمة دون املال القارئ وادخاله في متاهات النظريات العلمية الجامدة.

القاص والروائي خضير الزيدي يمتلك فكرا متقدم في مجال عمله السردي .فقد عودنا في مسروداته على التمرد والتجديد والإبداع. قدم لنا نصا سرديا مستحدث ضاجا بالتقنيات الإبداعية الحداثية .أنها رواية بحق تعد نقلة صورية جمالية جملةً وتفصيلاً ابتداءاً من العتبات والمقدمة وإلى الشخصيات ومواقفها والسيرة الذاتية.

كلما طرح نصا سرديا جديداً فتح أبواب الدهشة واكتشاف الجديد في عالم السرد وما جاء به الزيدي في هذه الرواية :عمتي زهاوي" يختلف تماماً عما هو سائد ويفتح أبواب التجديد حيث توصف بالحالة الإبداعية الجديدة في السرد الروائي العربي.

في هذه الرواية يضعنا كاتبنا الزيدي عند قرائتنا لها مفاتيح ومداخل قائمة على الوثيقة "المقال الصحفي الاستقصائي" فهذا المفتاح سيساعدنا على اكتشاف النص أو قراءته والتعامل معه.

الكاتب الحاذق الملم بعالم السرد والذائقة الأدبية الفنية يعي هذا فيستخدمه لجذب القارئ وترميزه لحدث ما يسرد لنا سيرة حياة المعمارية "زها حداد" بالتفاصيل المعرفية والفنية الدقيقة ليؤكد لنا أنها رواية خصبة بالإبداع،ليقول للقارئ انتبه هذا نص مغاير وثري بالإبداع الأدبي والفني وقاموس من المعلومات الهندسية في مجال العمارة وسيرة ذاتية ومعلومات عن تأريخ هذه المراة الرابعة على نساء العالم من حيث التمييز..

تغلب على نصوص الكاتب ثيمة الثنائيات بين الخير والشر، وهي تتكرر بشكل ملموس لكنها لا تمنع القاص من الانفلات من القواعد الرصينة للفن في رسوخه، توجها نحو مغامرة التجريب بكل آفاقها الرحبة الممكنة. إن لديه نزق الفنان في محاولة اقتناص الدهشة، والتشكيل المغاير، وتلمس نطاقات تخييلية أمكنها أن تثري فضاءات النص دون أن تعرقل انسياب الأحداث.

الرواية قائمة على الفرضية المتخيلة للكاتب للمعمارية البطلة الرئيسية تعتمد على وصية مفترضة لها صنعها خيال الروائي، ووقائع وفاة حزينة تمت في الولايات المتحدة، وما بينهما من تفصيلات لبناء غريب نفذته مؤسسة زها حديد لمصلحة وطنها وهو مشروع انشاء الجنة الأرضية.

اقتباس:

"إلى مؤسسة العمة: ننتظر قرار مساهمتكم في واحدة من لمسات إبداعاتكم لتصميم جنة أرضية ذكية تضاهي بعظمتها تصاميمكم العالمية، وتحاكي بعظمتها جنة الله. مؤسستكم هي مؤسسة كسر النمط والتخطي غير المألوف. علماً أن حكومتنا الموقرة خصصت أعلى ميزانية في تاريخ حكوماتها لهذا المشروع العملاق.

يعتمد بناء النص في أعمال الكاتب على استحضار وصف الامكنة بدقة ففيه تدور الأحداث وتتحرك الشخصيات، وحين يضيق المكان عن الذات تتسع اللغة لأشيائه. المكان عنصر حاكم، وله حضوره المادي ومرتكزاته الصارمة، إنه الإطار الذي يجمع الشخصيات، أنها أمكنة تضيء الفعل الإنساني وتؤطره بوعي وحساسية.

العتبة الأولى:

"الحب السائل ..وهشاشة العلاقات الانسانية"

باتت فكرة الحب السائل أو حب ما بعد الحداثة وتفكك الروابط الأسرية وروابط القربى والصداقة في زمن أصبحت فيه العلاقات الوهمية أو العلاقات الإلكترونية، أكثر أماناً وأكثر صدقاً من الروابط الحقيقية، يكشف لنا باومان ببراعة النقاب عن الوجه الخفي للحياة السائلة ذات العلاقات الإنسانية الهشة التي تميز نمط الروابط في مجتمعاتنا الحداثية

وان تلك العلاقات الانسانية اصبحت تقوم عليهما حسابات المجتمع الاستهلاكي الحديث يقومان بتوليد الحاجات بشكل مستمر، وتحويل كل قديم إلى شيء مستهجن يستحق أن يوضع في سلة النفايات، بما في ذلك المشاعر والأجساد والصلات..

في الرواية نجد سير شخصيات تعمل مع البطلة الرئيسية لكنها مشوهة، في مكتبها خداع ومؤامرات ودسائس المهندس "حسن العمة" المسكون بهوسه الجنسي وعقدته من أنفه الكبير وقصر قامته ورفض لميس الحموي له، ومحاولة التخلص من أعدائه "الخبير الأميركي يوهان، الشيخ زريق، حسن غناوي، لميس الحموي وزوجها الحاج صبري. الاخر الأميركي الجنسية يوهان وارتباطاته المشبوهة مع صنّاع أفلام البورنو ولعبة دور الخبيث والعميل".

نكتشف ذلك من خلال سرد صور التشويه التي طالت الجنة البشرية الموعودة في وقت يقودنا فيه الى دواخل الصراعات في مؤسسة العمة زهاوي المعمارية، بين رؤوسها المتعددة بعد طرد الشريك المستر يوهان واختلاف البقية على التركة وثروة المهندسة الراحلة.

وقد تمكن الكاتب من تطويع تقنياته السردية ومضاعفة من طاقة الجمال لتفاصيل دقيقة لحياة العمة اليومية, من سرد أحلام العمّة "جنة العراق" الثقافية والتاريخية والهندسية، وفي دلالة علاقتها الرمزية والنفسية بالمكان العراقي تعتبر فن من الفنون التقنية الإبداعية

العتبة الثانية:

"الشّر السّائل" (العيش مع اللابديل)

أن الشّر حديثا، ليس هو الذي كنا نعرفه في الماضي، أي الشّر اللاهوتي، متجسداً في الشيطان وجنوده من الإنس والجن، يستطيع الإنسان أن يعرفه، ويحدده بكل سهولة، اما الشر في العصر الحديث، متخفٍّ في التفاصيل، حيث يقف الإنسان عاجزاً حتى عن تحديده، ناهيك عن مجابهته ومقاومته، لأنه ببساطة، تسرّب، وتوغل في نسيج الحياة اليومية، وترسخ في قلبها، جاعلا من البديل في الوقت الراهن في حكم المستحيل، بل إن «السّم القاتل» يتمظهر كـ ترياق منقذ للحياة من شقاء الحياة، عندما يقدم نفسه كصديق حميم، موظفاً الإغواء بدلا من الإكراه، كاستراتيجية أساسية.

نعود الى الرواية نجد ان السيطرة على المشروع هو جزء من اللعبة التي اقترحها الشيخ زريق الذي كانت العمّة تموّل مؤسسته، بالتنسيق مع الشريك الأمريكي يوهان، ومع الإرهابي ابو عوف النيجيري، وكأن المؤلف يوحي بأن مرجعيات الإرهاب ليست مجهولة، وأن تمويلاته ليست بعيدة عن الجماعات الارهابية التي تقف وراءه، والتي جعلت من سيطرتها على "الجنة الأرضية" ترميزا للسيطرة على مقاليد السلطة السياسية،

توقف مشروع الجنة العراقية الأرضية بسبب خلافات أطراف السلطة حول هوية من يدير هذه الجنة من الأعراق والطوائف العراقية، وانتهت تفاصيل هذه الرواية بقطع درامي جدير بالتقدير للخيال الجامح الذي صنع هذه التفصيلات المحيرة، مقتطعاً من حياة المعمارية الكبيرة ما أراد ليثبت فنياً قدرة هذا الروائي على الشطط ودخول بناء المحرمات ضمن شروطه الفنية الممتعة.

العتبة الثالثة:

"الازمنة السائلة " (حين تموت المرجعيات الكبرى)

يستعرض باومان في "الأزمنة السائلة" مظاهر التحول في دور السلطة والدولة الذي انتقل من دور الرعاية الاجتماعية، وتقديم الخدمات للمواطنين، وتأمين الضمان الاجتماعي، ومكافحة الفقر والبطالة، إلى دور الدولة الأمنية التي تتمثل غايتها في مكافحة الاٍرهاب والتهديدات الخارجية، وتتسع مظلة الخوف التي تحملها السلطات تتعدى باسمها على بعض الحريات المدنية.

على صعيد آخر يتطرق باومان للحديث عن المشاريع الإسكانية المغلقة لطبقة الأثرياء التي أوجدتها الرغبة في التمايز عن الطبقات الدنيا من الشعب، والرغبة في الحماية والأمان من التهديدات عبر الإقامة في مشاريع سكانية لها بوابات حماية وأمن وتخضع للرقابة. في انفصال كلي عن هموم المجتمع وطبقاته المسحوقة!

وهنا ايضا نعود الى الرواية لنجد ان فقد أمرت الدولة كبار قادتها وموظفيها بزيارة الجنة الارضية والتمتع بخيراتها بشرط انتزاع كل ما يمت لهم من لحى ومحابس وملابس ومصوغات، والدخول اليها عراة الا من ورقة توت مستوردة! وحين دخلت الوجبات الأولى من الزوار بحثاً عن الحور العين قام "الزائرون" بكسر المقاعد وأثاث دورات المياه، وعبثوا بتلك الجنة الأرضية التي صنعتها مؤسسة "عمة زهاوي" باشراف المهندس حسن العمة وخطيبته الجميلة السورية لميس حموي، حيث قررا الزواج عند الافتتاح الرسمي للجنة.. بعد إصلاح ما أفسده المتخلفون من رجال الدولة، بعد ما تم منعهم من دخول الجنة حتى يوم الافتتاح وضمن قواعد وأصول وإشراف مسبق. وتبدو تفاصيل غرائبية داخل هذا العمل الروائي، عندما يضع المؤلف بديلا لارادة الدولة مجسداً في رجال الخليفة الذين يدعون تنفيذ إرادة السماء بالبشر وهي ارادة لا علاقة لها بالسماء ورحمة الباري تعالى بعباده، بل ارادة قيادة متعصبة تصور الايمان كمتاهة بيد الخليفة.

بالطبع الحوار لم يسر على نمط واحد، حيث بدأ الحوار عند تناول الأحداث الراهنة للوطن وتداعيات ذلك. مما كان له الأثر البالغ فى تعدد المستويات اللغوية فى هذه الرواية وعكس بالتالى تعدد مستويات الحدث وتنوعه وفترته الزمنية. ومن هنا يبدو بوضوح ما نهضت به مهمة صوت الراوي المتعدد. وكان لوجود تلك الأصوات الكثيرة والمتنوعة دور واضح فى قطع الحدث، ثم وصله بعد ذلك. وقد حظيت الاستدعاءات لصوت الراوي بحضور فذ على مدار الرواية كلها، وقد بدا ذلك ذا إسهام واضح فى الدلالة الكلية التى تشعها الرواية، لأنها رواية تنهض بتتبع الحياة لروح الشخصية الرئيسية "زها حديد"،هذا السرد المخاتل قد أوحى بتداخل العوالم الانسانية. وأعطى امتدادات زمنية لاستمرارية الحكي..

ومن تقنيات السرد تغلب ثيمة الثنائيات بين الخير والشر، وهي تتكرر بشكل ملموس .وكذلك إصرار الكاتب على اقتناص الدهشة، والتشكيل المغايرللسرد المعتاد باستخدام اللغة العامية، وتلمس نطاقات تخييلية أمكنها أن تثري فضاءات النص دون أن تعرقل انسياب الأحداث. وكذلك الكاتب هنا قادر على أن يكون عينا ناقدة لما يجري من تحايل وفساد السلطة السياسية والدينية، دون أن يمنع ذلك من تعاطفه مع الهامش من المجتمع.

وإجمالا، يمكن القول ان النص الروائي جاء تميزها من بلغتها المتدفقة المسترسلة، وقوتها الانفعالية البليغة، وكسر التابو من كشف الممارسات الحميمية العنيفة،، واشتباكاتها التي تبدو مسترسلة إلى ما لانهاية، تدفع القارئ إلى إيقاظ أنشطة الأعماق وتساعده على استنطاق ذاتيته الحيّة المقموعة والأشدّ واقعية. إننا أمام كاتب مهموم باستحضار أعمال أدبية تركت أثرا خاصا في مكتبة السرد الروائي العربي.

وختاما.. يلخص صاحب الحداثة السائلة رؤيته من إن العالم بحسب باومان، باعتباره عالماً غامضاً مفتقداً إلى الوضوح، يعجز الإنسان عن فهم سبب حدوث الشيء، وطريقة حدوثه، كل شيء يمكن إنكار وجوده أو إعادته إلى الوجود، ففي عالم كهذا تصبح عبداً مبرمجاً،، حتى لو كان ضد رغباتك وقناعاتك، بمعنى إفعل الشر بنفسك، لأنك، أولا، لا تعرف أنه شر، ثانياً، وهذا الأخطر، لأنه في معظم الأحيان يظهر أمامك ويتسرب إلى عقلك وقلبك، مرتدياً ثوب الخير والحب، ما يجعلك قادراً على التحوّل من الشيء إلى نقيضه بانسيابية عالية، وان ما يحكم العلاقات بين النّاس اليوم، في واقع الأمر، هو الانفصال لا الترابط، القسوة لا العطف، واللامبالاة لا الاهتمام، هذا ما يطلق عليه باومان بحق "العمى الأخلاقي"، بمعنى فقدان الإحساس، وتبلد المشاعر الإنسانية في الأزمنة المعاصرة..

فالذات الممسوخة في شخصيات رواية "عمتي زهاوي" تكشف حقيقة إنسان العصر الراهن الذي يعيش الظلمة، النار، الحرب، الفوضى، الجنس، الجوع، وهو فضاء العولمة، الذي تنعكس مرآتها على نصوص الزيدي . وتنم عن فقدان الأمل في الاستقرار للذات التي ملكت كل شيء في يوم ما ثم أضاعته.

عالم الجنة الأرضية، وصف غرائبي اراد الكاتب كشف طلسمي غائر- الصراعات السياسية على أرض العراق الدموية، بوصفها مكانا للنقائض، والفانتازيا، والأوهام والحلم بجنة لاوجود لها على أرض الواقع فقد هي في الاذهان، التي تبدو غير مترابطة، لكنها تتكشف على خليط من الانتهاكات الانسانية، والتشوهات الأخلاقية، وحتى اختيار الصحراء لإقامة مشروع الجنة الأرضية يحمل رمزيته الدالة على عقم الفكرة الابدية.

ومن خلال هذه الجولة السريعة داخل عالم "عمتي زهاوي" ارتأيت أن أقدم قراءة تأولية مستعين المتعاليات النصية "الحداثة السائلة" والمقاربة السيسيونصية لـ "بومان" وجل هذه المقاربات تنزع نحو المتعاليات النصية التداولية للشخصية المعاصرة وشرور العولمة . التي تحمل في طياتها معمارية النص، وكل هذه العناصر هي بذور يتنامى فيها النص، وهي التي ينبغي على القارئ أن يرتادها كي تكون نظرته شمولية للنص، محاولا أن يبحث في التقنيات الفنية والدلالية.

لكل كاتب طريقته في سرد الأحداث وطريقته في استحضار ما يراه يخدم عمله السردي، ولعل الزيدي يطل من نافذة الخيال الفني يستقطب معاني تحمل دلالة الرواية الاستقصائية، كما أنه يحاول أن يمزح بين الأجناس فكأنه بذلك يمحي الحدود الفاصلة لتتعالق الرواية بالخبر الصحفي بالسيرة والفلسفة الجمالية.